جوليان كما صوره الأميركي غور فيدال في رواية تاريخية لافتة

Wednesday 26th of October 2022 12:19:05 AM ,
5292 (منارات)
منارات ,

إبراهيم العريس

كان الكاتب الأميركي غور فيدال، من دون أدنى ريب، مبدعاً آخر من أولئك الكثر الذين فتنتهم قراءتهم المبكرة لرواية الكاتبة البلجيكية مرغريت يورسنار "مذكرات هادريان"، ورغبوا في اقتفاء خطواتها في عمل يكتبونه عمن يرون أنه كان إمبراطوراً فيلسوفاً كالذي كانه ذلك الإمبراطور الروماني الذي اخترعت له الكاتبة مذكرات رسمت من خلالها صورة باهرة لحياته ومآثره.

ومن الواضح أن فيدال إذ اتخذ قراره أوائل سنوات الستين من القرن العشرين بالبحث عن شخصية يمكنها أن تخدمه في كتابة رواية لا تقل عن رواية يورسنار قوة، وجدها في شخصية الإمبراطور الروماني جوليانوس الملقب بـ"المرتد". ومن المعروف كما صرح فيدال لاحقاً، أنه صاغ روايته أول الأمر على شكل مذكرات يرويها لنا جوليانوس نفسه كما فعلت يورسنار بالنسبة إلى هادريان. غير أنه سرعان ما أقلع عن تلك الفكرة بالنظر إلى أن الزمن الذي شهد "المرتد" إمبراطوراً لم يزد على عامين أو ثلاثة، حيث إنه سرعان ما قتل بعد كل الصخب الذي تسبب به من جراء ارتداده عن المسيحية التي كانت تعيش أول صعودها في الإمبراطورية الرومانية. بيد أنه لم يمت بسبب ردته على الرغم من كثرة المؤامرات التي نظمها قومه لإطاحته ولا سيما في القسطنطينية، بل في المعارك التي توجه إلى فارس لخوضها هناك فكان من ضحاياها ما وفر على قومه "عناء قتله" كما سيقول "ليبانيوس" (أي اللبناني)، ذلك الفيلسوف والعالم الذي كان أستاذ جوليانوس ودله على طريق الارتداد عودة إلى الفكر الإنساني الإغريقي ولا سيما الأرسطي منه كما ستخبرنا الرواية، وتحديداً على لسان ليبانيوس نفسه.

على خطى هادريان

فغور فيدال، مقابل جعل يورسنار روايتها تروى من طريق بطلها هادريان، جعل روايته هنا تروى من طريق ليبانيوس أو بالأحرى نقاشات وذكريات يتداولها ليبانيوس مع رفيقه العالم هو الآخر، بريسكوس. وهما على أية حال شخصيتان تاريخيتان عاشا في محيط جوليانوس بعد أن تعرف عليه ليبانيوس في العاصمة البيزنطية السابقة وراح يتبادل معه الأفكار والمعارف، ودائماً من وجهة نظر ترتبط بفلسفة أرسطو التي تعبر عما كان عليه الفكر والمعتقدات الإغريقية من تعددية فكرية تتناقض مع تلك الأحادية التي تحاول المسيحية، في رأي ليبانيوس، أن تفرضها على الناس. وكانت تلك أفكار تلائم تماماً ما يتطلع إليه جوليانوس التواق لأن يكون ملكاً/ فيلسوفاً غير بعيد عما كان أفلاطون معلم أرسطو يتطلع لأن يكون عليه سيد البلاد.

وتبدأ "أحداث" رواية غور فيدال تحديداً في أحد أيام شهر مارس (آذار) عام 380 م، أي بعد نحو 20 عاماً من وفاة جوليان. حين يبدأ تبادل سلسلة من الرسائل، بين ليبانيوس وبريسكوس بوصفهما كانا من أقرب المقربين إلى جوليانوس (جوليان في الرواية) خلال حياته وهما في رسائلهما يتذكرانه الآن متحسرين عليه متأملين كيف كان العالم "سيتغير إلى الأفضل لو أنه لم يرحل شاباً". ومن خلال الرسائل التي يسردها فيدال أمامنا كاستعراض تاريخي لتلك المرحلة، نجدنا، ومهما بالغ الكاتب الأميركي المعاصر في "اختراع" معلومات عن صبا جوليانوس وشبابه، عاجزين، كما عجز التاريخ نفسه حقاً، ومن قبل ليبانيوس نفسه الذي قد يكون كتب الكثير عن سيده الإمبراطور ونضالاته الفكرية والمؤامرات التي راح قواده وجنوده يدبرونها للتخلص منه بأمر من القيادات الكنسية في القسطنطينية، عن معرفة ما يمكن الركون إليه عن حياة جوليانوس الطفل والفتى سوى أنه كان عند تلك المرحلة من حياته في الإقامة الجبرية في القصر الإمبراطوري أيام الإمبراطور كونستانس. كل هذا يرويه لنا المفكران، العجوزان الآن في رسائلهما المختلفة، حيث كما أنهما راحا يصفان بتفصيل دقيق يدين إلى مخيلة غور فيدال أكثر كثيراً مما يدين إلى الواقع التاريخي، ينصرفان أيضاً إلى مناقشة شؤون وشجون حياتهما وبخاصة تفاصيل الأحداث الأخيرة التي راحت تتراكم بعد سنوات من موت جوليانوس والتي يتشكيان من أنها تنطوي على مرسوم إمبراطوري جديد أصدره الإمبراطور الحالي ثيودوسيوس يتضمن العودة ولو بالقوة إلى فرض العقيدة النقية للمسيحية. مهما يكن من أمر ها هو ذا ليبانيوس يقترح في رسالته الأولى إلى بريسكوس، كتابة سيرة جوليان لكي "لا تضيع جهوده وتضحياته هباء". وهو أمر يتردد بريسكوس أول الأمر في الموافقة عليه لكن يقتنع في النهاية موافقاً على إرسال مخطوطة كتبها جوليان نفسه إلى ليبانيوس مع تعليقاته الخاصة المكتوبة في الهوامش.

الإمبراطور بقلمه

ومن هنا يتم تقديم بقية الرواية كمخطوطة كتبها جوليان في شكلها الأصلي بما في ذلك تعليمات للمحرر بأن يكون ليبانيوس مسؤولاً عنها بالتحديد بالنظر إلى أنه كان هو أصلاً العقل المفكر وراء اقتناع جوليانوس ذات يوم بأن "يحكم كفيلسوف لا كمقاتل حتى وإن كان سيقتل كمقاتل لا كفيلسوف"، غالباً ما تتبع هذه التعليقات تعليقات ليبانيوس على كل من رواية بريسكوس وتعليقاته. ولعل علينا أن نلاحظ هنا كيف جعل غور فيدال من المفكرين المتراسلين شخصيتين على حدة في الرواية، حاضرين أكثر من جوليانوس نفسه وكثيراً ما يقدمان تفسيراً مختلفاً وأحياناً متناقضاً للأحداث والأشخاص ولما يعبر عنه جوليان في قصة حياته وتفسيره. وهو الذي قد يبدو في تفسيره الذاتي وكأنه يحاول أن ينتقد عيوبه وكذلك يحاول إعادة بناء أفكاره وعواطفه في مراحل مختلفة من حياته وحياته المهنية. وغالباً ما يدمج ملاحظاته الخاصة حول كل شيء من الطبيعة البشرية إلى الدين والفلسفة والحكومة. ومن هنا ما يمكننا قوله من أن غور فيدال، في تفسيره الخاص، الروائي وليس التاريخي على أية حال، إنما يستمتع بمحاولة جعل العالمين بطلين حقيقيين للرواية، ولكن بخاصة ليبانيوس الذي يبدو عليه افتتانه به قوياً إلى درجة نلاحظ معها طغيان حضوره في الرواية بحيث يمكن اقتراح عنونتها "جوليان وليبانيوس»!

ومن هنا لئن كان جوليانوس معروفاً تاريخياً وثمة من حول حياته و"مأساته" إلى عدد كبير من الروايات والمسرحيات التي تناصره وتناوئه (ومنها مسرحية مبكرة لهنريك إبسن عنوانها "القيصر والجليلي") قد يكون من المفيد هنا التوقف عند ليبانيوس الذي لم يحظَ من الشهرة التاريخية بما يماثل شهرة سيده ومريده الإمبراطور. فليبانيوس (314-393 م)، كان سفسطائياً وخطيباً يونانياً، ولد في أنطاكية، عاصمة سوريا في ذلك الحين. درس في أثينا، وقضى معظم فترة شبابه السابقة في القسطنطينية ونيكوميديا. وكانت فصوله الخاصة التي يدرسها في القسطنطينية أكثر شهرة من تلك التي كان يدرسها أساتذة الجامعات، الذين طردوه عام 346 م بتهمة ممارسة السحر. وهو على الرغم من كونه وثنياً، فقد تمتع بدعم الأباطرة المسيحيين. وعندما أعاد جوليان، راعيه الخاص، الوثنية كدين للدولة، لم يظهر ليبانيوس أي تعصب. ومن بين تلاميذه كان هناك يوحنا فم الذهب، وباسيل (أسقف قيصرية) وأميانوس مارسيلينوس. أما أعماله، فتتكون أساساً من الخطب (بما في ذلك واحدة تضم سيرته الذاتية)، والخطابات حول مواضيع محددة، والرسائل، وحياة ديموسثينيس، والحجج. وهو كرس كثيراً من الوقت للكتاب اليونانيين الكلاسيكيين، وكان لديه ازدراء تام لروما وكل الأشياء الرومانية. تلقي خطاباته ورسائله ضوءاً كبيراً على التاريخ السياسي والأدبي للعصر. والحقيقة أنه من النادر أن يذكر الإمبراطور جوليانوس في كتب تاريخية أو أعمال إبداعية دون أن يكون ليبانيوس مذكوراً معه. ومع ذلك من الملاحظ دائماً أن من النادر العثور على أي ذكر لليبانيوس (اللبناني) هذا في أي مرجع تاريخي لبناني. ويرى واحد من الظرفاء أن السبب في هذا ربما يعود إلى استحالة ضمه إلى الفكر الكنسي، ذلك الضم الذي كان من نصيب الكاتب اللبناني الأكثر حداثة منه بكثير، جبران خليل جبران، الذي بعد عداء وحرم طويلين مع الكنيسة عاد وضم إليها وربما لأسباب سياحية!

عن الاندبندنت عربية