نموذج لمن خسرهم بلدهم..الفنانة هناء مال الله في تجاربها التشكيلية

Wednesday 12th of October 2022 11:52:16 PM ,
5283 (عراقيون)
عراقيون ,

د. ماضـي حســن نعمــة

ذوي القدرات والإنتاج ألفني وغير ألفني، من علماء وأطباء ومهندسين وقدرات أخرى متنوعة، يُهددون بمغادرة البلد ألذي يخسرهم أكثر مما هم يخسروه، ولا نقصد هنا بخسارة الحنين إلى الوطن من مخلصين وذكريات وأرض،

ولكن نقصد لا يخسرون بقدر ما تقوم بها بلدان الاستيطان من خدمات وتقدير وأهتمام بما يمتلكه المهاجر عنوة من مواهب وإبداع. تلك الحقيقة التي تتوافق مع هجرة علماء وأنبياء عبر العصور، وليس ناس بسطاء فقط، لأن الكرة الأرضية ليس ملك لأحد، وإنما لكافة الكائنات الحية والنباتات، وليس البشر فقط. لقد أجبرت ألفنانة التدريسية في معهد الفنون الجميلة فرع الكرافيك عام 2006 بالتهديد من جهات تهدف إلى إحباط المستوى للإنتاج الثقافي والعلمي، والإقتصار على إفساح المجال لموجات معاكسة. وهذا ما حصل الآن في النتائج وأنواعها. من تشكيل ومسرح وموسيقى وغناء متدني نحو مستوى الإحباط. الآن ألفنانة – هناء مال الله – ألتي تقيم في بريطانيا، تحتضن لندن معارض لها وهي من ضمن فناني جيل الثمانينيات وما تلاها. تعكس أعمالها عن “شخص ذكي ومهذب وربما مأساوي” يعكس محنة العراقيين، وتجاربها الشخصية في عراق العقوبات والحرب والمعاناة. تلك التخطيطات الذاتية فضلا عن أعمالها التجريدية يتضمنها معرض في “بارك غاليري – لندن” والذي يحمل عنوان “من التشخيص إلى التجريد”.

لقد كانت التحولات عبر مراحل متناسبة في بعد مسافاتها الزمنية وبنية تحولاتها التكوينية والأسلوبية، بدءاً من الأداء الأكاديمي للبورتريت الشخصي ومراحلها الواقعية الأخرى نحو الأداء التجريدي المعاصر ذو البعد الواحد، بما قطع مسافاتها الأدائية ألفنان التشكيلي والمفكر الصوفي في خياله شاكر حسن آل سعيد – والذي تأثرت به. ولكن هنالك خصوصية مختلفة تماماً في محتويات العلامات السيميائية لأعمالها، من حيث الدلالات ومن حيث التركيبية، ومن حيث مفهوم التداولية، لمنتوجها ألفني. حيث أنغمرت في منتوجها التجريدي أبان بداية التسعينيات، حيث بدأت ألفنانة – مال الله – التركيز على التجريد. وبدا اهتمامها بالرموز واضحاً من خلال إستخدامها المتكرر للرمز الفينيقي (عين)، وهي رسالة عثر عليها بالعربية والعبرية. هذا الإهتمام أنتج كعنصر تطوير فكري ومنهجي، تجسد ذلك في أطروحتها، “النظام المنطقي في رسوم بلاد ما بين النهرين القديمة”، والتي قدمتها لنيل الدكتوراه في فلسفة اللوحة عام 2005.

صيغ تطبيقية:

للفنانة التشكيلية – هناء مال الله – إختيار وخصوصية تبلورت عبر مراحل من الوقت، قطعتها حيث قدمت الموتيفات والتجريد والرسم الأكاديمي، حين ذلك بدأت تشتغل على ما يسمى بـ(فن الخراب)، يأتي ذلك من خلال معايشة المجتمع العراقي لما تخلفه الحروب من آثار مدمرة، من أحداث صاخبة، مما ترك نتائج في المتغيرات والتبدلات مؤثرة على مستويات البنية الإجتماعية واتجاهاتها السلوكية والفكرية والنفسية. تلك الأحداث، استحكمت منظومة (الموت) كأهم الأسئلة الوجودية التي يواجهها العراقيون يومياً، ليس بحدود طبيعة الحروب والأحداث المتنوعة فحسب، وإنما ما تتركه من ولادات فرعية على كافة المستويات. وكما هو معروف إن هنالك فرق بين نهاية الإنسان، بعد قطع شوطا من العمر في الحياة بشكل طبيعي، وبين أحداث صاخبة وقاسية تخرب كل ما يقوم ببنائه الإنسان كفرد، والتغيير التفكيكي في البنية التركيبة للمجتمع.

وعلى ضوء تلك الأحداث، كانت هنالك إستجابة مدونة للفئات المتنوعة من الإنتاج المتبادل بشعور وجداني، في الشعر والرويات والمسرح والتشكيل. لذلك كانت التشكيلية هناء مال الله تواجه الأوساط الثقافية بما اختزنته ذاكرتها من آثار خراب الحروب، التي بدأت تتوسع إلى رؤية فلسفية ذات جذور ثقافية صوفية تتعلق بمواقف الإنسان في مواجهة السر الأعظم في الحياة، وهو الموت. لذلك فإن أعمالها مرتبطة بمجريات ونتائج الأحداث من حروب ودمار.. وحصار، ألذي لا يختلف مستوى أثره المدمر للشعوب من عز وكرامة وحياة مستقرة. إن أغلب النتاجات الهادفة بدلالاتها المرتبطة بتلك الأمور، هي من لدن الفنانين المهاجرين في أوساط خارج الوسط الفنى في البلد ألذي تدور فيه نتائج الأحداث. حيث نجد أغلب الفنانين في العراق في الوقت الحالي، أعمال أما واقعية لغرض البيع والمنفعة، أو أعمال تجريدية غامضة، أو فلكلورية شعبية هادئة، ومنها شناشيل وقبب وآيات قرآنية دينية، لا علاقة لها بآثار الحروب.

وفي أعمالها التخطيطية ألتي كانت تنشر في الصحف ومنها جريدة الجمهورية، لها وقع خاص، من حيث التنفيذ والتداخل في المفردات.. حيث تدخل العبارات وأهدافها فوق التكوينات التخطيطية. وكما هو معروف إن التخطيط يبقى وفي كل الأحوال والمراحل الزمنية ألتي يقطعها ألفنان شوطاً من التحولات والتجريب المتطور.. يبقى هو اللبنة الأساسية والمباشرة للمنتج والمستلم على حد سواء. لأن التخطيط هو الفقرات والعناصر والهياكل الأساسية لبنية التكوين الإنشائي في مراحله الاحقة. وفي الوقت ذاته يكون الإفصاح عن المضمون أكثر إيصالا وفهما وإستجابة لدى المستلم، لأنها ألوان صريحة وأساسية ومحايدة،

وتكون متوافقة مع أجواء الكتابة النصية للرواية والشعر والمقالات الفكرية الأخرى، وخاصة على الصعيد الإعلامي، وإصدارات الكتب الأدبية. وهو حنين وعودة إلى ممارسته بين الحين والآخر لدى التشكيلين في الرسم والنحت والخزف والتصميم الهندسي والزخرفي، ومنا إعداد الأسيكيجات التمهيدية للتكوين الإنشائي. ولكن لديها لايقتصر على الأعداد المرحلي ضمن السكيجات وإنما عمل متكامل في تحقيق إنجازه. لذلك فإن تلازم هذا النتاج المميز لدى ألفنانة – هناء مال الله – كان مصطحباً بالقدرات المهارية والمحتوى الهادف ألذي يتم تجسيده على الورق. وهو مرحلة ممهدة إلى أختصاص فن الكرافيك ألذي تم ممارسته في الإختصاص من قبلها.

في أعمالها هنالك منتظمات هندسية بطريقة – سيميترية – متماثلة بأيقاعها المتناوب والمتكرر، ولكن في حافات تكويناتها تكون متحررة من ديمومة الإستمرار والتكرار. وترتبط أعمالها بما حل من خراب ودمار في في بغداد وغيرها من المدن العراقية، ومن ضمن هذه الارتباطات في التجسيد المضموني، بما يحتويه معرضها الثالث عشر في مسيرتها الفنية والذي يعد المعرض الثاني في بريطانيا، ألذي يتضمن جدران تفوح منها رائحة دخان الحرائق، التي نهشت جسد المدينة بفعل الانفجارات، التي تسببت بها الصواريخ والقنابل والعبوات الناسفة وغيرها من أدوات التخريب والقتل. تحتوي الأعمال بصيغة أدائية خاصة تتناسب مع صخب الأحداث وحديتها. إذ تتضمن مواد من أقمشة ملتهبة الحريق وملتصقة على جسد اللوحة، مشكلة تكوينات فنية مثيرة للأنتباه والتمعن، لما يتناسب مع تراجيدية وصخب الأحداث. ومن منجزاتها إنها رسمت 13 كتابا طبعت جميعها للأطفال، وحصلت على رسومها لكتاب (زنابق) على أول جائزة من منظمة اليونسكو، وما يميز ألفنانة مال الله، إنها لم تتحد في إطار أسلوبي محدد، وإنما الخضوع نحو تنوعات إلامتزاج والإختيار والتجريب، وهذه الصفة تبدو واضحة في تجاربها الفنية، بعد تخرجها من معهد الفنون الجميلة، تخصصت بفن الغرافيك، درست في أكاديمية الفنون الجميلة، وحصلت على شهادة الماجستير بعد أن اهتمت بدراسة «السيميائية في الرسم العراقي»”،

لكن دراستها الأهم جاءت لتربط بين الفلسفة والفن التشكيلي في مرحلة البحث للحصول على شهادة الدكتوراه، من جامعة بغداد أبرز ما تأثرت به مال الله، هي الأعمال المعروضة في المتحف العراقي ببغداد، كانت تواظب على زيارته والبقاء هناك متأملة، ودارسة للمنحوتات والجداريات البارزة، التي أنجزت عبر حضارات سومر وبابل وأكد وآشور. وكانت البشرية قد عرفت أول الأعمال الملونة في بوابة عشتار وشارع الموكب، أعمال أسطورية يعدها غالبية من دارسي تاريخ الفن بأنها بداية للسيريالية، أشكال حيوانية غرائبية، أجساد بشرية بأجنحة وأيادي بمخالب ووجوه حيوانية بألوان الأزرق الشذري، وهو اللون المقدس في الحضارات العراقية، لون السماء حيث تقيم الآلهة، واللون الأصفر المأخوذ من ألوان الذهب. بعد مغادرتها العراق، أقامت هناء مال الله معرضا في معهد العالم العربي في باريس، وبعد ذلك حصلت على منحة من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن (سواس). ودعيت إلى الحصول على زمالة في كلية تشيلسي للفنون في لندن لمدة ثلاث سنوات. وتقسم الآن وقتها بين لندن والمنامة في البحرين، حيث تشغل منصب أستاذ فن في الجامعة الملكية النسوية.

وتعليقاً على المشهد الفنى الحالى فى العراق تقول مال الله “إنه أمر سيئ للغاية لان جميع المؤسسات الفنية العامة والخاصة بما فيها صالات العرض قد دمرت، وهذا ماحصلفعلاً ونتفق مع رأيها بما جرى ويجري الآن من إحباط في تقييم الفنون التشكيلية في العراق.