من ذكريات شارع المتنبي

Monday 15th of August 2022 12:17:38 AM ,
5242 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د. عماد عبد السلام رؤوف

ان كنت من رواد الشارع القدامى، مثلي، فستطوف بك ذكريات يمسك بعضها برقاب بعض، فتبدو كفيلم تحركه آلة عرض بسرعة، فهناك كانت مكتبة قديمة حفلت بكل ما هو نادر ومهم من الكتاب العربي، تحتل دارا قديمة شرقية الطراز، انها مكتبة المثنى بطابقها الارضي الذي كان ذات يوم ملتقى كبار المؤرخين، وطابقها العلوي حيث كانت تزدحم غرفه بالاف من الكتب، وبين الطابقين تنتقل الكتب بسرعة لتصل الى يد قارىء يبحث عن ضالته، او عالم يريد ان يزيد علما.

وفي هذه القاعة الكبيرة كانت ثمة المكتبة العصرية احدى اقدم المكتبات في السوق كله تكتظ ارففها ومناضدها بالكتب والناس حول صاحبها يتحلقون يجمع بينهم حديث شيق اطاره الادب وفحواه ادب فلا يقطعه الا سؤال سائل عن كتاب يبتغيه، فاذا مااستجيب لطلبه عاد القوم الى ماكانوا فيه.

وهناك في طرف السوق الاخر، مكتبة النهضة تحتل احدى دور الشارع القديمة وفي الدار حجرات ورواقات عدة امتلأت بالكتب المستوردة من كل حدب وصوب، وصاحب المكتبة يسعى بينها ملبيا طلبات روداه من الطلبة والباحثين بكل همة، فاذا ما اجتزت الشارع الى الجهة المقابلة طالعتك في صدر زقاق هناك مكتبة البيان وقد تصدرها اديب شيخ وان ارتدى زي الافندية، وقد احاط به فضلاء اكثرهم قادمون من خارج بغداد ينشدون الشعر الفصيح والريفي على حد سواء، ويحفظون الزهيريات والابوذيات حفظهم لاسماء اولادهم فلا تكاد تسمع منهم الا ما هو ممتع ومفيد.

وعلى بعد خطوات، تطالعك لافتة كبيرة كتب عليها عنوان (المكتبة الاهلية) وهي مكتظة كجارتها بالكتب واكثرها قديم نادر، ولكن صاحبها يتخذ الضيق موقعا لوقوفه او جلوسه فلا يمكن لاحد من دخولها وبذا يحفظ تلك النوادر من يد عابث، متعهدا بطلب كل من يريد كتابا بعينه !

وبين هذه المكتبة وتلك مطابع ذات شأن في عالم الكتاب العراقي، ولعل من اقدمها مطبعة المعارف التي يكفي لو اراد احد ان يحصي عنوانات مطبوعاتها ان يملا في ذلك كتابا قائما برأسه، فلم تتوقف عجلات هذه المطبعة، على الرغم من قدمها، عن الدوران نحو ستة عقود من السنين، وكانت تقذف كلما هدرت كتبا قد اتقنت طباعتها الى حد بعيد. وفي باحة قديمة تجاوز دار المثنى، انتصبت مطابع هايدلبرك الشهيرة لتطبع كتبا انيقة اكثرها في القانون والتراث، فتحسدها لاناقتها واتقانها وقلة اخطائها، افضل حواسيب هذا الزمان، وعلى كتف باب الدار الخارجية يقرأ المارون اسم (مطبعة العاني) على لوحة نحاسية هناك.

على ان المتنبي لم يكن شغوفا بالكتب وحده، فحتى العقود الاخيرة كانت ثمة مؤسسات تنافس هذا الحبيب بما تحتله من ارض هذا الشارع العتيد، فعلى شمال مدخله من جهة السراي، كانت ثمة بناية كبيرة ذات فناء فسيح يقف على مدخلها جندي شاكي السلاح، ومظهر البناية يدل على انها ترقى الى اواخر العهد العثماني، وهو استدلال صحيح، فهذه هي (الاكمكخانة) التي منحت للشارع اسمه قبل ان يتخذ المتنبي اسما له وعرفت فيما بعد بدائرة المخابز العسكرية بيد ان البناية نقضت منذ الستينيات وشيدت مكانها قيصرية على طراز بغدادي محبب ضمت عددا كبيرا من المكتبات صغيرة الحجم، الكثيرة النشاط بما تعرضه من افانين الكتاب.

فان قدمت الى الشارع مبكرا ذات يوم، فليس اجمل من ان تتذوق طبقا من (الكاهي) الشهير تصنعه يد اسطة ماهر انه كاهي ابو علي قرب مكتبة النهضة، حيث تذكي رائحة الدهن الحر المكان، ويشمها المارون في الشارع وليس في هذا اعلان عن المطعم المذكور فقد تحول منذ اكثر من عقد الى مكتبة تبيع انواع الكتب والقرطاسية.

وفي حوالي الشارع محطات للمتعبين الذين يقضون الساعات في البحث عن ضالتهم من الكتب، او المثقفين الذين لا يجدون في ضجيج السوق ما يساعدهم على الحوار، وليست تلك المحطات الا مقاهي قديمة هنا او هناك، اصبحت لقدمها تراثا محببا لروادها، ففي مدخل الشارع الغربي مقهى الشابندر العريق، بابوابه الخشبية و (كرويتاته) العتيقة، ونراكيله العامرة بالجمر، وابتسامة صاحبه المعهودة، وفي كل مكان قريب من شرقي السوق على شارع الرشيد مقاه ذات صيت ذائع لعل اقربها الى وظيفة السوق نفسه وطقوسه، مقهى قديم هو مقهى حسن العجمي، يجتمع فيه اهل الادب على اختلاف مدارسهم واجيالهم فلا تكاد تسمع فيه الا حديثا في الادب وابياتا من الشعر ونحوهما، يختلطان مع صوت ملاعق الشاي القديمة وهي تقرع جدران (الاستكانات) المترعة برقة اوبعنف بحسب نوع الحوار ودرجة حرارته.

وللشارع من بعد هذا كله سر لايعرفه الا من ادمن زيارته وتردد الى محلاته ومكتباته فان اردت معرفة سره فلا عليك الا ان تختار احد ايام نحسك التي يكثر فيها همك وتشغلك فيها الوساوس والاحزان فتمضي الى هذا الشارع تدلف اليه من اية زواية تشاء وتتفرج على واجهات محاله وتتطلع الى ماهو معروض على ارصفته تتصفح هذا الكتاب وتصافح ذاك الاديب، وتحادث ذلك الصديق الاليف فلا تكاد تخرج منه الا وقد نسيت همومك حتى لو طالت الجبال ارتفاعا، والقيت من على ظهرك احزانك وان امتلات نفسك التياعا، واذا بالبسمة تعلو شفتيك والامل يستعيد موقعه من جديد.

أرايت اذن ما تحت اسفلت شارع المتنبي من سر، وماوراء واجهاته من سحر؟ وهل لشارع اخر، مهما كان، هذا الوجيف المحبب في القلب، والالفة التي تحرك جوامد الجسد؟!