طرائف من ذكريات الجواهري..هكذا أكتشفت بغداد في العشرينيات

Thursday 28th of July 2022 12:26:45 AM ,
5231 (عراقيون)
عراقيون ,

إعداد: عراقيون

في عام 1982 فاجأت مجلة (المجلة) الصادرة في لندن قراءها بنشرها

عشر حلقات من ذكريات للاستاذ الجواهري من لقاء اجرته الصحفية القديرة

هدى المر، وقد تضمن هذه الذكريات صور طريفة من مسيرة الشاعر الكبير

لم تكن معروفة الا للخاصة من اصدقائه ومريديه، قبل ان تنشر مذكراته بجزءين،

واكاد اعتقد ان لقاءات هدى المر مع الجواهري كانت اساسا لكتابته المذكرات التي نشرت بعد سنوات..

واليك بعض من هذه الذكريات عن أول مجيئه لبغداد قادما من النجف المدينة الدينية المحافظة وما اكتشفه فيها

فوجئت في أحد الأيام بالشاعر الكبير محمد الهاشمي يرد علي قائلاً: «إلى نابغة النجف» وذلك بقصيدة مطلعها: «أيها البلبل غرد – وانظم الآلام شعرا» (…). قرأت قصيدة الهاشمي مرات ومرات وذهلت، أصحيح أنني الإنسان الذي استطاع أن يهز هذا الشاعر الكبير، فيرد علي شعرا على القافية نفسها؟

إذن، أنا إنسان مهم. الأرض لم تعد تحملني.. وبدأت الأحقاد تنمو في مجتمع النجف، ضد إنسان صاعد في بلد التناقضات، النجف، بلد الفقر المدقع والغنى الفاحش، جنبا إلى جنب.باختصار، بدأت أعي لعبة الحياة، بدأت أحس أن بلدي مع أدب ومجمع دين ومجمع فقر. وخلاصة الموضوع كانت أن سيئاتها أكثر من حسناتها.

أول الدرب

لنعد إلى بداياتي الشعرية. لنعد إلى الوراء. على ما قبل ستين عاما أو أكثر فبعدما نشرت لي القصائد تحت توقيع «نابغة النجف» تشجعت كثيرا، وقد أعطتني تلك القصائد زخما وانطلاقا في بحور النظم. لذلك، أنا من أنصار تشجيع المبتدئين في عالم الشعر.

كما أن طموحي تعدى حدود العراق فصرت أرسل قصائدي إلى مجلة «العرفان”في صيدا (لبنان) وكان صاحبها أحمد عارف الزين. فصارت قصائدي تنشر، واحدة في بغداد وأخرى في لبنان.

وبدأت أشعاري تبدو وكأن ناظمها أكبر مني سنا. وبمعنى الكلمة أنها كانت تبدو لإنسان ناضج. ومثال على ذلك؛ ففي أول زيارة قمت بها لبغداد. كان من الطبيعي أن أزور الصحف التي تنشر قصائدي. وفوجئ أصحابها بصغر سني، خصوصا أنني في ذلك العهد، كان شكلي مضحكًا. إذ كان وزني لا يتعدى خمسة وثلاثين كليوغراما. وكنت يومها ارتدي الجلباب والعباءة العربية (الزي النجفي) وعمامة صغيرة. كنت مثل شبح. أنا نفسي لم أكن أعرف شكلي. إذ لم يخطر على بالي مطلقا أن أنظر إلى وجهي أو قامتي في المرآة.

وأستطيع القول إنني بلغت العشرين دون أن أرى وجهي في المرآة. وأول مرة شاهدت وجهي فيها كانت عندما تصورت في بغداد وفوجئت بصورتي.

ربما تسألينني متى صرت «أباوع» (انظر) المرآة؟ صارت نظراتي تلتقي المرآة يوم عرفت أن هناك شيئا اسمه الأناقة في حياة الإنسان أي بعد بلوغي عامي العشرين بفترة طويلة. وسبب ذلك أن بيوتات النجف لم تكن تضم بين أثاثها المرايا الكبيرة الموجودة حاليا في كل منزل بل كانت المرآة الصغيرة هي المنتشرة في العشرينيات. لذلك عندما رأيت صورتي فوجئت وكأنها لا تخصني، أو بالأحرى كأنها ليست وجه مهدي الجواهري. عندها تذكرت أن هناك مرآة ويجب أن أعتني بشكلي، ولو قليلا. كنت أبدو وكأنني شبح يدب على الأرض.وكنت في السابق أتعجب من بعض الأشخاص الذين يخرجون من منازلهم وكأنهم نساء متبرجات، أو كأنهم يستعدون للذهاب إلى المراقص.

اكتشفت بغداد

بغداد كانت بالنسبة إلي عالمًا مجهولا. ذهبت إليها لاكتشاف هذا العالم الجديد. زيارتي إليها كانت أشبه بعربي ملهوف يزور باريس لأول مرة. ورغم بقائي يومين لا غير في بغداد بقيت أشهرا أتحدث إلى محيطي عن اكتشافاتي فيها.وبلا مبالغة، كنت أروي القصص كما كان يروي كولومبس اكتشافه لأميركا.

أنا «كولومبس النجفي”يروي مغامراته في بغداد. رسمت لهم صورة عن الأسواق الكبيرة، وما تحويه المحلات، وكيف أن البنات يمشين سافرات في الشوارع وكأنهن حوريات. يا سبحان الله! أكثر من 60 سنة مرت على هذه الأحداث لكن بعضها ما زال عالقا في ذهني.ما زلت أذكر أول مرة نزلت فيها إلى السوق، وكيف بهرتني الأشياء المعروضة في الواجهات. بعضها لم أكن أعرف ما هو.

وقفت أمام محل يعرض الحلوى وأشياء أخرى. أقسم بالله، أن الذي استوقفني لم يكن البضائع المعروضة، وإنما كان وجها جميلا لفتاة في عمر الورود، تتحدث مع صاحب الحانوت، ربما كان يغازلها، لا أدري!.

كل ما أعرفه أنني وقفت في مكاني مبهورا بجمالها رغم العباءة التي كنت أرتديها والعمامة التي كنت أعتمرها. هذا «الشبح النجفي”لم يستطع مغادرة المكان. يا سبحان الخالق. إلى الآن صورتها ما زالت مطبوعة في ذاكرتي. وكذلك نظرة صاحب الحانوت الذي بدا وكأنه يقول لي: «ماذا تريد أيها المتطفل؟ اذهب بعيدا ودعنا وشأننا». ومع ذلك بقيت مكاني.

أنا المتطفل المعدم، تسمرت قدماي داخل الحانوت. حاولت شراء أي شيء مقابل بقائي، فما استطعت أن أدفع أكثر من ثمن صورتين صغيرتين لبعض الممثلات اللواتي كانت صورهن معروضة.

مفارقة طريفة

شيخ ذو لحية وعباءة وعمامة يشتري صورا لممثلات كن مشهورات في ذلك الزمن! والأكثر من ذلك، أنني حملت هذه الصور إلى النجف وكأنني اشتريت هدية كبيرة. كما أنني لم أنس أن أحدث أهل عشيرتي عن العربات التي تسير في شوارع بغداد، وكيف أنني دخلت دور الصحف واستقبلت استقبالا كبيرا. وكانت ليالي طويلة قضيتها وأنا لا أملّ الحديث عن بغداد. كما أعطتني تلك الرحلة شحنة من الاندفاع، وكبر غروري بنفسي.

وعلى سيرة السيارات، لا أنسى أول سيارة رأيتها في النجف. كان ذلك أثناء دراستي في «المدرسة العثمانية”ربما كنت في العاشرة من عمري آنذاك، فقد خرجنا من الصفوف لاستقبال جاويد باشا وزير المالية في الدولة العثمانية. وطبعا لا يمكن أن تزور العراق أي شخصية مهمة ما لم تحضر إلى النجف، وتقوم بزيارة مرقد الإمام علي – رضي الله عنه – يومها حضر جاويد باشا في سيارة ضخمة ظلت حديث الناس لفترة طويلة. سيارة تمشي وحدها؟ كانت تعتبر ظاهرة فلكية لا تصدق. وكأنها المركبة الفضائية الأولى.

كيف كنت أنظم قصائدي؟ في أول عهدي كنت أنظم، أحيانا، في المقهى الأرستقراطي الهادئ. يومئذ، كان باستطاعتي أن أدون بعض الأبيات كي لا تهرب مني القصيدة.

ذلك المقهى كان صاحبه ذا مزاج خاص، إذ كان يحب الشعر والأدب. ولم يكن المقهى باب رزقه بل إقامة من أجل مزاجه. وقد زينه بأحلى وأفخر أنواع السجاد العجمي. إذ كان صاحب المقهى تاجر سجاد ميسور الحال.

وكيف كنت أنظم خارج المنزل؟ فقد كنت أكتب أول كلمة في كل بيت وقافيته. حتى عندما ألقي قصائدي في الأماكن العامة لا أستعين بها مكتوبة بل أدون بعض كلماتها على ورقة صغيرة أو علبة السجائر أو أي شيء آخر. المهم، أنني منذ أكثر من أربعين عاما لم أعد أستطيع النظم سوى في المنزل.. ووحدي.

فأنا أقفل الباب على نفسي وأبدأ بالنظم بصوت عال، فأثبت البيت الأول على الورق، وبعدها يصبح ذهني كالمسجل: ما إن أبدأ بالكتابة حتى تكر الكلمات وكأنها مسجلة في ذاكرتي. ونظمي القصائد تجربة تتم بالصدى والصوت والنغم.