من ذكريات طبيب عراقي..هكذا أنقذت الملك فيصل الثاني من الموت

Monday 25th of July 2022 01:05:43 AM ,
5228 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د. محمد حسن سلمان

في إحدى الليالي وفي مطلع عام 1951 كلمني أحدهم من القصر الملكي (الرحاب) ورجاني أن احضرللاشتراك في علاج الملك.

حضرت سيارة من البلاط وحملتني إلى القصر مع حقيبتي الطبية. فدخلته وأنا مندهش لهذه المفاجأة غير المتوقعة، فلم أكن على صلة بالبلاط، ولا سبق لي أن عالجت الملك. كما أنني لست الأخصائي الوحيد في مثل هذه الأمراض، لأفتقد في مثل هذه الظروف.

لم أسال في وقته عن ذلك. ولم يهمٌني في تلك اللحظات إلا أن اقدم ما أستطيع من خدمة طبية واجبة كما أقــدٌمها لأي مريض أخر. تلقاني الدكتور عبدالهادي الباجه جي والسيد تحسين قدري، ودلفا بي إلى المكتبة، فوجدت كلآ من الأمير عبد الإله، نوري السعيد، وطبيب العائلة الخاص وكان إنكليزيآ، وبعض رجال الدولة والبلاط. فــبادر السيد تحسين قدري بقولة: سيدي... هذا الدكتور محمد حسن سلمان. فقال الأمير وعيناه مغرورقتان بالدموع: اصعدوا إلى غرفة الملك. وكانت في الطابق الثاني، في نهاية الممشى.. صحبني السيد تحسين قدري وأدخلني غرفة الملك، وكان مسجىً في فراشه، وهو يتنفس بصعوبة بالغة، وقد احتقن وجهه وعيناه، وصدره يعلو ويهبط وأرنبتا أنفه ترتجفان، وقد وٌسًدَ بعض الوسائد، منحني الرأس، وهو وضع كل من تمر به هذه الأزمة، فأشار إليً بيده إشارة يفهمني بها أن لا فائدة من العلاج.

تقدمت كـطبيب، وبإحساس غريب، هو مزيج من الشفقة والحنان والتردد والخوف، واليأس والأمل، ورجوته أن يسمح لي بالكشف عليه، فأوما برأسه موافقآ.

بدأت الفحص، فوجدت أن الحالة تنذر بالخطر وأن الأزمة شديدة والقلب يضعف، وهي مانسميها في الطب حالة (ستاتس اسماتيكس) فتأثرت كثيرآ، ولم أجد إلا أن أكذب عليه كذبة الأطباء البيضاء، حيث طمأنته وهوٌنت عليه. فابتسم غير مصدًق! ثم استأذنته للنزول إلى الطابق الأول لأرى الأمير. فدخلت المكتبة ثانية حيث لايزال الجميع فيها، فأعلنت رأيي بأن الحالة مع الأسف خطيرة. وقد تأكد لي بأن الزملاء الأطباء عملوا كل ما في وسعهم وعلمهم في هذا الخصوص وليس عندي ما أضيفه، ثم اتبعت قولي هذا بكلمة رأيت لا بد لي كـطبيب أن أقولها، إذ سبق لي أن شاهدت أمثال هذه الحالات المرضية في عيادة الدكتور (براون) في برلين أثناء وجودي أيام الحرب. وكان هذا الأخصائي يستعمل حقنة خاصة هي مزيج من مادتين قويتين خاصتين بعلاج هذا المرض تكون نتيجة زرقهما أما انحسار النوبة وإما الإضرار بالقلب مما قد يؤدي إلى الموت. ثم تابعت الحديث قائلآ: لو كان المريض غير الملك لتحملت المخاطرة والمسؤولية، ولكن المريض ليس كذلك، فلا أستطيع تحمل مسؤولية عدم النجاح. خيَم الصمت على الحضور، ونظر كل في وجه الأخر، فقطع الأمير حبل الصمت وقال: لا بد من عمل شئ، اعمل اللازم يا دكتور (وعلى الله الاتكال). خرجت من المكتبة، وقد شعرت وكأن جبالآ سقطت عليَ، إذ وضعني قرار الأمير في موضع لا أحسد عليه، وحمّلني مسؤولية تاريخية عظيمة. فرفعت وجهي إلى السماء ودعوت الله أن يعينني على ما أنا قادم عليه.

صعدت إلى غرفة الملك مرة ثانية فوجدت حول سريره جدته الملكة (نفيسه) بخمارها الأبيض جالسة فوق سجادة للصلاة، وخالاته الأميرات يُحِطن به، فأخبرتهن بأنني سأحقنه الآن أملآ بالشفاء إن شاء الله.

هز الملك رأسه ليقول أن لا فائدة من ذلك.. وسلمني ذراعه، فمزجت الحقنتين وزرقتها في وريد الذراع الناحل ويداي ترتجفان، وقلبي يكاد يقف عن الخفقان إذ لم تمر بي حالة كهذه من قبل، وكانت أبصار من حولي شاخصة واجفة مبتهلة إلى الله القدير أن يرأف بهذا المريض المحبوب. جلست خلف المريض أسند رأسه إلى صدري حتى أخذته إغماءة، فوسدته ثم افترشت الأرض لصق سريره، وآلة ضغط الدم مربوطة إلى ذراعه، وأنا أراقب ضربات قلبه التي وهنت، وضربات قلبي التي تضاعفت، وكأنها تريد التعويض.صورة حية مأساوية لا ترسمها ريشة ولا يصورها خيال انطبعت في ذاكرتي، لا تمحوها الأيام وهي لا تزال أعظم ما مرَ في حياتي من صور ورؤى وأحلام.

بدأ الضغط الدموي يهبط والقلب يضعف، فبدأ يأسي يزداد، وقد نسيت كل شئ إلا تعلقي بالسماء، والإشعاع من الإيمان بالذي هو أقرب من حبل الوريد. وبعد زمن هو دهر من السنين، عاد الضغط تدريجيآ إلى الارتفاع وقوي القلب وانتظم النبض وهدأت النفس، وكدت لا أصدق علائم الخير هذه، فأنصت مجددآ لأتأكد، حتى تململ الجسد المسجًى، وفتحت الهينان، وتلفت الوجه الحزين، يتصفح الوجوه المدقة، وارتسمت الابتسامة الرقيقة، وأشرق الأمل بعد اليأس، وتحركت اليد وأمسكت بيدي ضاغطة برقة معربة عن الشكر والامتنان.

حاولت أن أنهض من مجلسي على الأرض، فلم أجد لي أرجلآ لأقوم، فقد كانت مخدرة شبه مشلولة من طول الجلوس والانطواء، فمددتها وضغطتها حتى جرى الدم فيها، وقمت لأجلس على طرف السرير لأواجه عودة الحياة إلى ذلك الوجه الذي غرق في سكرات الموت ثلاث ساعات طوال هي في حساب القلق والترقب ثلاثة أعوام أو يزيد. جلس الملك في فراشه وطلب الطعام، فأمرت له بشيء من الشاي والبسكويت ثم استأذنت بالانصراف.

عن مذكرات محمد حسن سلمان