سفرة من بغداد الى البصرة سنة 1666 م .. الأب سبستياني الكرملي

Monday 4th of July 2022 12:26:12 AM ,
5218 (ذاكرة عراقية) (نسخة الكترونية)
ذاكرة عراقية ,

ترجمة: بطرس حداد

عند وصولي الى بغداد، رأيت على شاطي‏ء النهر القس الياس، و كان يأتي كل يوم الى هناك منتظرا قدومي، فقد بلغه خبر سفري الى هذه الجهة، لقد ساعدني هو و الاباء لاحصل على دانك يتوجه الى البصرة، و قد طلبنا جواز مرور من الوالي، ولكننا لم نأخذه، لان ربان الدانك قال ان لا ضرورة له، و انه مرخص لحمل الافرنج على قاربه الى اية جهة يسافرون. و لم نتمكن من الحصول على مترجم في بغداد ليسافر معنا.

و بعد ان تزودنا بالطعام الضروري، تركنا الزوراء في ٢٥ تشرين الاول، دون مترجم و نحن لا نعرف اللغة. فرأينا الدانك محملا بالبضائع المختلفة، مكتظا بالمسافرين حتى اننا لم نجد موضعا نجلس فيه، و بالكاد تمكنا من الجلوس بالقرب من السارية و قد توقعت المصائب في هذا الدانك، لان الاحمال كانت كثيرة، و لم تفد احتجاجات المسافرين و صراخاتهم، فقد كانوا يكدسون البضائع، و ذلك لان القبطان كان جشعا للغاية.

من الصعوبة بمكان ان اعبر عن المشقات التي لاقيتها في هذا السفر، فمن وقت الى اخر كان الدانك يجنح الى هذه الجهة او تلك او يرتطم بضفاف النهر، و في كل يوم كانت صراخات المسافرين تتعالى فتصم الاذان، و كم من مرة توقفنا لننزل البضاعة او لنحمل غيرها، او نضطر للنزول الى الماء لدفع الدانك، و الويل ثم الويل لمن يتأخر عن النزول، فان ضربات العصي تنهال على راسه، ولكن لا بد من الاعتراف بانهم كانوا يلزمون جانب الاحترام بالنسبة الينا.

اردنا التخلص من هذا الدانك، فحاولنا اول مرة عندما وصلنا الى بلدة الحي، فلم نفلح، و هكذا في اماكن اخرى، و كانت نيتنا ان نستأجر دانكا صغيرا كافيا لنا، و لشخص ارمني اسمه السكندر رافقنا من بغداد، و اصله من دياربكر، لكننا لم نجد ضالتنا. ان جهلنا اللغة الحق بنا اضرارا كثيرة، و بالرغم من كل ذلك، فان الارمني و الجندي الانكشاري و رجلا مسلما تظهر على محياه سمات النبل و الوقار، قدموا لنا مساعدات جمة اكثر من مرة، و كان الرجل المسلم يحاول ان يدخل الفرح الى نفوسنا، و كان الرجل هرما و سمينا جدا، لكنه مع ذلك خفيف الظل سريع النكتة، فكنا نتفاهم بالحركات و بالايماءات و بكلمات معدودات هي خليط من التركية و الفارسية و العربية.

في الثالث عشر من تشرين الثاني وصلنا الى المجرMagger و تعتبر هذه المنطقة نهاية حدود ولاية بغداد، فكان من واجب القبطان ان يدفع رسوما عن الحمولة، و قد طلب الشاهبندر ضريبة اكثر مما يستحق، فلم يتفقا على مقدار الضريبة، و هنا تدخل احد البحارين، الذي كثيرا ما انعمنا عليه بالمساعدة، فاراد ان يظهر براعته للقبطان فاقترح عليه ان يصرح بان الحمولة طبيعية، و ان كان هنا كمية اكثر من الحمولة العادية فليتقاضى اجرها من المسافرين الافرنج، فطاب الاقتراح للربان و اخذ بالعمل بحسب هذه المشورة، فاستدعانا الشاهبندر و طلب منا جوازات السفر (عدم تعرض) و اذ لم يكن معنا، اعتمادا على وعد الربان نفسه، للشاهبندر بواسطة الحركات ان الربان نفسه لم يهتم للجوازات، فانكر الربان بكل وقاحة ما قاله في بغداد، عندئذ امر الشاهبندر بالقاء القبض علينا.

ليس بامكاني ان اشرح او ان اعبر عن شعوري في تلك اللحظة، لقد اخذت اتصور نفسي و رفاقي سجناء في ذلك الموضع البعيد، بين اعراب لا استطيع التحدث اليهم لجهلي لغتهم، فانقبض قلبي، و رأيت ابواب الخلاص مسدودة في وجهي. و اذ بواحد منهم يقترح علينا حلا للمشكلة بان ادفع عشرين قرشا، ففرحت بهذا الحل، لكن قلة ذات اليد جعلتني احتج بان الضريبة عالية، فتدخل الجنود الانكشاريون و الملا و اسكندر الارمني، و هكذا هبطت الى خمسة قروش نتيجة وساطتهم، و تظاهر اسكندر و هو يخفي ابتسامة خبيثة بانه يدفع الضريبة عنا، و اخذ يقرعنا بكلمات صارمة!.

اكملنا السفر، و بعد فترة دخلنا في منطقة ولاية البصرة الجميلة فرأينا صباح احد الايام عددا كبيرا من البجع يحلق فوق رؤوسنا، فقام البعض و صوبوا النار عليه، فمنعهم بعض المسافرين المسلمين قائلين ان صيد البجع اثناء طيرانه حرام ...

ثم وصلنا الى منطقة بدأنا نشعر فيها بالمد و الجزر ... و في منتصف ليلة الحادي و العشرين من تشرين الثاني، اذ كنا نياما، تعالت صراخات النساء تشق عنان السماء، فقد كان تيار النهر جارفا، فاخذ يهز الدانك هزا قويا، فارتطم الدانك بصخور الساحل، و تحطمت من جراء الارتطام بعض قطعه، فتسربت المياه الى داخله و كادت تغرقه. فحل الخوف في نفوس الراكبين، و اخذ الربان يصرخ، و البعض يبكي و يولول بينما كان اخرون يلطمون وجوههم، و سارع اخرون إلى تخليص الامتعة، و الحق يقال ان الواحد كان يساعد الاخر من اجل النجاة، فأشعلت مصباحا كان معي و سألت الاب كوتيفريدو انكان بامكاننا انقاذ الامتعة فأومأ بالايجاب، و للحال ربطنا الامتعة بسرعة، و اذ لم اكن خبيرا بالسباحة فقد حاولت الاقتراب من الشاطى‏ء بواسطة لوح من الخشب و اخيرا رميت نفسي فسقطت على منطقة طينية فانطمرت فيها بينما غمرتني الاوحال، فحاولت التخلص بكل قواي، و بعد جهود شاقة استطعت ان اسحب نفسي فارتميت على اليابسة، و هناك وجدت شابا مسلما، اومأت اليه ان يذهب لمساعدة الاباء الاخرين، فاسرع ذاك الشاب الطيب و نزع ثيابه كلها تاركا اياها عندي، و رمى بنفسه في الماء، ثم عاد سابحا و معه الاب كوتيفريدو و هما يتعاونان في حمل الاغراض ...

صباح اليوم التالي وجدنا دانكا ... فركبنا مع اسكندر الارمني و الملا و الشاب المذكور واحد الجنود و كان اسمه قادر باشا، فأكملنا سفرنا دون خوف من الاعراب او اي شخص آخر، ثم ابدلنا الدانك في‏Amma ، و في القرنة و قد اوقفنا الشاهبندر في القرنة مدة خمس و عشرين ساعة، و اخيرا وصلنا الى البصرة بعد ايام اربعة، و كان ذلك اليوم عيد القديسة كاثرينة (اي‏٢٥ تشرين الثاني)، بعد سفر خطر جدا قاسينا منه الامرين و استغرق شهرا كاملا، و قد استقبلنا الآباء الكرمليون على الرحب و السعة و اظهروا نحونا محبة كبيرة.

سبستياني هو الاب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي ( 1623ــ 1689 ) وهو من الايطاليين .