حميد البصري: أسعى الى صوغ نغم يرقى لألم العراق وآماله

Thursday 23rd of June 2022 01:26:59 AM ,
5211 (عراقيون)
عراقيون ,

حاوره: علي عبد الأمير

تكاد حكاية الملحن والمؤلف حميد البصري في جانبيها الإنساني والموسيقي توجز الكثير من حكاية المثقف العراقي في هجراته وفي محاولته تثبيت ملامح وطنية لعمله الإبداعي القائم على هاجس التجديد...

وهو عبر حضور معرفي وأكاديمي وفني في أغلب المهرجانات الموسيقية العربية وعبر مهارة في تأليف 25 قطعة موسيقية والإعداد الموسيقي لنحو 35 اغنية وكتابته ثلاثة كتب في الموسيقى وإعداده كتاباً ضم نصوص ونوتات 100 أغنية شعبية عراقية، وقبل ذلك عمله البارز في المسرح الغنائي الذي اعتبر رائده في العراق، إنما ظل وفياً لبنائه الروحي الأصيل وإن توزعته الهجرات والمنافي وكان طين العراق يفيض خصوبة في فنه وحياته، حتى انه أسس فرقة من عائلته تهجس بالعراق وفاءً لإنسانه وإن كانت مستقرة في مكان من الشمال الأوروبي.

عن تجربته الفنية وعن أبرز سمات عمله والمراحل التي مر بها منذ أواسط ستينات القرن الفائت كان “للمسلة” هذا الحوار مع الفنان حميد البصري على هامش مشاركته في مؤتمر ومهرجان الموسيقى العربية التاسع (تشرين الثاني / نوفمبر 2000).

*قبل أيام وفي جلسة خاصة قدم لنا الفنان كوكب حمزة صورة فوتوغرافية تعود الى عام 1966 وتظهر فيها الى جانب عدد من موسيقيي البصرة، ما الذي تركت الصورة عندك من إنطباع؟

- أعادتني الصورة الى أول هدف أسعى له، وهو الإبداع الموسيقي الغنائي الجديد حين أسست “الفرقة البصرية” عام 1966، وكنت أثناء وجودي في بغداد لدراسة “الأنواء الجوية” درست آلة القانون في معهد الفنون الجميلة وكان أول ما قمت به بعد عودتي هو تأسيس فرقة موسيقية في “نادي الإتحاد” ضمن هدف تمحور حول تقديم الحان أعضاء الفرقة وليس مجرد استعادة الألحان الشائعة عراقياً وعربياً، فكانت هناك الحان لويس توماس، عبد الحسين تعبان وطالب غالي وهو ما نجحت “الفرقة البصرية” في تقديمه حتى بدأت أفكر بتقديم عمل أكبر فوقع اختياري على “الأوبريت».

أخذنا كمجموعة فكرة هجرة الفلاحين الى المدينة عبر حث الفلاحين على التمسك بالأرض، وبدأ الكاتب ياسين النصير والشاعر علي العضب والمخرج قصي البصري والمطرب طالب غالي عملاً مشتركاً اضافة لي، أخذ طور المراحل في الكتابة والتلحين، ثم بدأت وزوجتي وطالب غالي وزوجته في البحث عن كادر تنفيذي للأوبريت (غناء ورقص تعبيري)، درنا على العوائل لضمان موافقتها على الفتيات على العمل معنا، واستطعنا جمع 50 عنصراً قدموا العمل بنجاح فيما بعد، وفيه غنّى المسرحيون لأول مرة ومثّل المطربون لأول مرة.

* انت تتحدث عن “بيادر خير” الأوبريت الذي صار ملمحاً بارزاً في المسرح الغنائي عراقياً؟

- نعم وعن تدريبات مضنية بدأت عام 1967 حتى تقديمه على “قاعة الخلد” في بغداد عام 1969 الذي اعْتُبر أحسن عمل فني في ذلك العام ليدفعنا نجاحه الى تكرار التجربة عبر “اوبريت المطرقة” عام 1970، وبعد هذا العمل بدأت عملاً او مرحلة جديدة من عملي الغنائي والموسيقي تمثلت باوبريت حمل عنوان “السابلة” الذي كتبه الشاعر الراحل أبو سرحان غير ان الرقابة رفضت تنفيذه وهو يدور عن المجرى الصغير الذي يربط المساحات المائية الكبيرة في الأهوار وفي دلالة على ارتباط مصائر الناس ببعضها وتأكيد قيمة العمل سوية.

كانت هذه إذن العقبة الأولى التي ستقود الى مفترق في العلاقة مع المؤسسة الرسمية آنذاك فكيف اجتزت تأثيراتها؟

- انتقلت من عملي (متنبيء جوي) في مطار البصرة الى مطار بغداد، وهناك أسست “الرباعي الشرقي”: البصري (قانون)، طارق اسماعيل (كمان)، حسين قدوري (تشيللو) وخالد ابراهيم (فيولا) وكان للرباعي دَوْرٌ أساس في معاونة الراحل روحي الخماش على تأسيس “فرقة الإنشاد” فيما تحولت لاحقاً الى التدريس في “معهد الدراسات النغمية” وإن كان حلم المسرح الغنائي يراودني غير ان مستلزمات تحويله الى واقع انتهت دون عودة على ما بدا لي في ذلك الوقت، وجاءت “جماعة تموز للأغنية الجديدة” التي أسست بمساهمة الشاعر زهير الدجيلي تعويضاً عن فقدان الأوبريت والمسرح الغنائي، وحال الخط العام للفرقة (اغنيات حب للإنسان والوطن غير متداولة) عن وصول الأغنيات الى الإذاعة والتلفزيون ومن بين اعضاء الفرقة البارزين اضافة لي: شوقية، ليالي، عزيز خيون، ثامر حاتم، فيما تدرب معنا الفنان فؤاد سالم.

ما قصة أغنية “ياعشقنا” التي أبدعت لحنها؟

- نعم للأغنية قصة خاصة فبعد اعلان مسابقة لإذاعة “صوت الجماهير” عام 1974 فاز نص الشاعر كاظم الرويعي بالجائزة الأولى وعُرض للتلحين فقدم خزعل فاضل، ناظم نعيم وانا ثلاثة الحان، لحني اعتمد غناء من شوقية وفؤاد سالم، وكانت الإشارات كلها تدل على ان لحني هو الفائز غير أن تغييراً في رئاسة قسم الموسيقى ومجيء ناظم نعيم بدلاً من وديع خوندة، حال دون اعلان ذلك لتصب النتيجة لاحقاً في صالح نعيم، اما كيف سجلت الأغنية للتلفزيون وبحسب لحنها الذي وضعته وباداء شوقية وفؤاد سالم فان لذلك قصة أخرى، بدأت مع أول سهرة ملونة للتلفزيون العراقي بحسب دعوة من المخرج محمد يوسف الجنابي.

قادتك المغامرة الموسيقية، وحثتك فكرة الحرية الى هجرات وامكنة ورغم مرارتها كان هناك عمل دائب؟

- اول محطة لرحلة الإغتراب كانت في الكويت حيث سجلت خمس أغنيات في المسلسل التربوي “افتح ياسمسم” وأشهرها “سبحان من خلق” بصوت الراحل عوض دوخي بعدها عدت الى بغداد لتسجيل اغنية اخرى له غير ان موته سبقني وحال دون تنفيذ المشروع وبعد وصولي اليمن من الكويت إثر تصاعد هجمة النظام في بغداد على القوى الوطنية عام 1978، بدأت في عدن عملاً لتأسيس قسم الموسيقى في معهد للفنون هناك، وانتقلنا الى طور متقدم لاحقاً بتأسيس فرقة موسيقية وقدمنا اوبريت “ابجدية البحر والثورة”، وإعدنا “فرقة تموز” ولكن تحت اسم “فرقة الطريق” وجمعت فيها الفنانين الموجودين في اليمن: فؤاد سالم، سامي كمال و كمال السيد.

الفرقة كانت تسافر سنوياً الى سوريا وتسجل هناك اغنيات في التلفزيون السوري عن الوطن عن النضال الوطني الفلسطيني عن الفاكهاني حيث المنفيون العراقيين في بيروت، الى جانب اغنيات عن وطننا وضد الحرب التي تحولت كابوساً ثقيلاً على شعبه، وفي عام 1986 بدأنا الإستقرار في سوريا، وفيها عملت مع فرقة زنوبيا للفنون الشعبية، ومن خلالها قدمت “اوبريت زنوبيا” وفيه تمت معالجة التاريخ بوقائع معاصرة (الانتفاضة الفلسطينية الأولى)، وقمت بتدريس فنون العزف على آلة القانون والموسيقى العربية في “المعهد العالي للموسيقى” بدمشق وأسست الاوركسترا العربية للمعهد وتوليت قيادتها وكانت المرة الاولى التي يشهد فيها الجمهور حفلاً موسيقياً عربياً دون غناء، وشهدت الاوركسترا في عروضها اختيارات دقيقة لأعمال فيها توزيع هارموني وبصحبة مجموعة من طلاب المعهد شكلت فرقة غناء قدمت الوان الغناء العربي كالموشحات وغيرها، غير ان عميد المعهد العالي صلحي الوادي منع الطلاب من الغناء، حين رأى ان الغناء العربي يؤثر على تركيبتهم الموسيقية!!

بعد سوريا وعملك ضمن قوالب الموسيقى العربية فيها أكاديمياً وفنياً جاءت المحطة الهولندية حيث تقيم، ما الذي اكتسبته في مكانك الجديد؟

- مع استقراري في هولندا عام 1995، عاودت عرض امكانياتي في العزف على العود والقانون وقدمت اكثر من حفل على الآلتين ومع استحسان الجهات الهولندية التي دعمت العروض وفكرتها الفنية (35 حفلاً على امتداد 4 سنوات في هولندا وبلجيكا) ووصول شوقية والعائلة أعدنا تشكيل الفرقة لتصبح “فرقة البصري” وليشاركني الأولاد في مهمة نشدت تحقيق غايتين الاولى هي في تغيير وجهة نظر الاوربيين في مستوى الغناء العربي والشرقي واشتركنا عام 1998 في مسابقة لمن يغني في اغنيات غير اوربية ونلنا الجائزة الاولى، والغاية الثانية كانت في ربط العراقيين بوطنهم من خلال تقديم الموروث العراقي من مقامات واغنيات، وكانت حفلاتنا للعراقيين تحقق اوقاتاً من الصفاء الروحي الذي نادراً ما يشعر به العراقي في منافيه.

هل تفكر بعمل موسيقي غنائي يكاد يختصر المحنة العراقية عبر مراحل الألم وجولات التشظي؟

- لم أبتعد عن العراق وهناك من الأغنيات عدد طيب كتبه الشعراء رياض النعماني، جاسم ولائي، كامل الركابي، عبد الرضا الأسدي وغيرهم، وهذا يأتي ضمن سعي لتقديم استجابة لما أشار اليه السؤال، ربما تنضج في مرحلة لاحقة عبر شكل غنائي وموسيقي قد يأخذ شكل الاوبريت او غيره، غير ان الأكيد فيه هو انتمائه العميق لروح العراق ولآمال انسانه في الوصول الى لحظة اطمئنان وتصالح مع الأرض التي تحولت منذ فترة الى مرجل يطلق النار ويعذب الناس ويخنق الآمال.

* نشر الحوار في مجلة “المسلة” 2001 ضمن العدد الخاص بالفنون العراقية