قراءة في الفكر الصوفي لمسرحيات ميخائيل نعيمة

Tuesday 14th of June 2022 11:20:01 PM ,
5205 (منارات)
منارات ,

د.فاتن حسين ناجي

ميخائيل نعيمة مفكر عربي وواحد من الجيل الذي قاد النهضة الفكرية والثقافية، وأحدث اليقظة وقاد إلى التجديد، وأفردت له المكتبة العربية مكاناً كبيراً لما كتبه وما كُتب حوله. فهو شاعر وقاصّ ومسرحيّ وناقد وكاتب مقال ومتفلسف في الحياة والنفس الإنسانية، وقد ترك خلفه آثاراً بالعربية والإنجليزية والروسية؛ وهي كتابات تشهد له بالامتياز وتحفظ له المنزلة السامية في عالم الفكر والأدب.

وكانت له عدة محاولات في تخليص الأدب العربي من الزخارف والكلام الزائد، والاقتراب بالأسلوب من تصوير واقع الأشياء والأحداث. الاستفادة من دراساته الغربية والشرقية، في تطوير كتابة القصة القصيرة التي تصور الواقع، وقد اصدر نعيمة ثلاثة أجزاء من كتاب «سبعون» الذي حوى سيرته الذاتية، وفيه بسط سجلا لتجربته الأدبية وخبرته على هذه الارض. كما أدخل على الأدب العربي الحديث لونا يكاد يكون جديدا من الإبداع بكتابه «مرداد» (1952)، وهو أشبه بأمثولات جبران وبشر فارس الرمزية، وقد قارنه العقاد بسفر الجامعة لسليمان، وهكذا قال زرادشت لنيتشه.و لفرط ما أوغل ميخائيل نعيمة في الخمسين سنة الأخيرة من حياته في الحديث عن التقمص، وما إليه من النظريات الصوفية الأقرب الى الفكر الخرافي منها الى أي شيء آخر، كاد الناس ينسون أن له تاريخا أدبيا من نوع آخر، جدير بأن يستذكروه قبل سواه من نتاجه. ولكن القارئ العربي كاد أن ينسى هذا الجانب الأدبي المشرق من سيرة نعيمة، ربما لأن نعيمة نفسه لم يعد إليه لاحقا. فقد انصرف الى لون من الفكر الصوفي والذي ينصرف الى معالجة قضايا الروح والماورائيات، من دون أي التفات يُذكر الى قضايا الإنسان على هذه الارض، وما يصادفه فيها من متاعب جديرة ايضا بأن يهتم بها الأدباء والمفكرون والشعراء.

حاول نعيمة ان يضع أصولاً جديدة في النقد الأدبي العربي تقوم على أن يكون الأدب مسايراً للحياة وعاملاً على تطويرها، والابتعاد عن إعادة الحديث في موضوعات معادة ومكررة. وكان كتابه النقدي المشهور(الغربال)، هو خير دليل على محاولة أن يكون الأدب مطوراً للحياة، ولا يكون صدى لها. واتصف أسلوبه بالنزعة – الميل إلى الصوفية، بساطة العيش، ونقاء النفس، وبذلك عائد إلى دراساته العميقة للديانات المختلفة الاسلامية والمسيحية والأديان الأخرى غير السماوية يتميز أسلوبه بالبساطة والوضوح، والصراحة أيضاً، وخاصة في مجال الوصف أو السرد أو التصوير، في القصص وبعض رواياته، وكثير من مقالاته النقدية والفكرية والجمالية. لديه ميل واضح إلى الإقناع، والمجادلة العقلية السهلة.يميل أسلوبه إلى التفاؤل، وإلى التبشير بالخير والحب والجمال.

«يرى نعيمة ان العقل موجه للحواس وهو مصدر عذاب الانسان ومرشد الانسان الذي يقوده الى سبل الرشد والخير والفكر هو إعمال العقل في الأشياء وصولا الى معرفتها ولايمكن الإحاطة بالغائية النعيمية في هدفها وعملها الا بالتصدي لها لتصل الى هدفها الاسمى فمنذ البداية اصغى نعيمة الى قلبه فآمن بنفسه وآمن بالكائنات جميعها ولم يكتف بالإيمان العاطفي وانما توكأ على عقله يحل له الأسباب والعلل.»

وعلى الأرجح استناداً إلى اتجاهه على قضايا الروح والتقمص واستغراق هذه القضايا لمجمل ما كتبه على مدى خمسين عاما او اكثر ولدرجة ان البعض يدرجه في عداد الوعاظ والنساك والمرشدين. لقد كان الله وهو القدير على كل شيء،رحب الصدر الى حد انه خلق من ذاته معارضين لذاته فما كمَّ أفواههم اذ عارضوه ولا ردهم عن المعارضة بقوة بل على العكس من ذلك ابقى على حياتهم واطلق لهم الحرية في عالم يعارض بعضه بعضا بغير انقطاع لعلهم في اخر الدهر ينتهون من المعارضة الى التفاهم والتالف ثم الى المعرفة التي لايفوتها علم شيء ثم الى القدرة التي لاتعاندها قدرة.

هناك ثلاثة أنماط من التصوّف: الأول معطى إلهي تنمّيه روح الله في الإنسان، والثاني طقوسي تصنعه تأمّلات الإنسان وجهوده، ووقفاته، ومقاماته، والثالث التصوّف الجمالي الأدبي وهو لا يخلو من حبّ السكينة، وحبّ الله، وعشق الكلمة، والترحّل عبر التخيّل، والتوق الى عيش الإنسان الكامل. ولعل نعيمة من المنتمين الى التصوف الجمالي الأدبي والذي أكدت عليه ثريا ملحس في قولها (تتجلى أخلاق نعيمة الصوفية في مقاييسه النقدية للأدب والأديب, وتلك الأخلاق تجلّت في إيمانه بالإنسان, وبالله, وفي الفيض الإلهي ووحدة الوجود, والحب والمحبة, والحرية, والمعرفة, والمجاهدة, وفي قوى الإنسان, والفضائل الإنسانية كالعفة والطهارة والجمال والكمال, والصدق والإخلاص, والحق والحقيقة, والعدل والمساواة, والصبر والقناعة, واللاعنف والسلام, وأكثرها ظاهر بوضوح في كل ما خطه قلمه).

وفي كتاب «النزعة الصوفية في الأدب المهجري» للشاعر والناقد اللبناني ربيعة أبي فاضل الذي تحدث فيه عن أربعة من أعلامه هم أمين الريحاني، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، نسيب عريضة، حيث اكد على ان نزعة جبران الصوفية تظهر أوّل ما تظهر باستشهاده بالمتصوّفة العرب كابن سينا والغزالي وابن الفارض، وبالإشارة الى زهّاد الشرق وحكمائه. إلّا أن تصوّفه مختلف عن تصوّف هؤلاء. فلا استسلام عنده ولا جمود، لا فناء ولا عدميّة، لا جذبة أو انخطاف. لا يدعو الى الزهد والتقشّف، ولا يقضي على الأهواء، بل يريد المؤالفة بينها وبين العقل. فهو يرى في الشرّ عطشاً الى الخير، وفي الألم سبيلاً الى المعرفة. لا ينكر المادّة بل يبصر من خلالها سلّماً الى الروح، لا يحتقر المدنيّة وإنما يعتبرها مرحلة تقود الى أفضل منها. وهكذا فإن جبران من السابق المستوحد، الى المصطفى، الى يسوع ابن الإنسان، «يشدّد على أمرين: المصالحة مع الحياة والناس والكون، عيش السلام الداخلي، إبطال العودة الى الجسد، التناغم مع النظام الكوني، والسكن المطمئن في أحضان الأم الكونية - الروح الشاملة الواحدة. ولا يبتعد ميخائيل نعيمة كثيراً عن جبران في نزعته الصوفيّة، فهو يعتبر أن كلّ الدروب تؤدّي الى البارئ عند من قلبه يفتّش عن البارئ. لذلك يرسم نعيمة في كتابه «مرداد» الطريق التي تقود الإنسان الى البارئ، انطلاقاً من السفح الى أعلى قمّة. في السفح ذات الإنسان الصغرى، وفي القمة ذاته الكبرى، ولا بدّ أن يتوحّد بوحدة الحياة الكلية، ويخلد بخلودها. يكتب نعيمة: «وليس للذات الصغرى في الإنسان من معبر الى الذات الكبرى سوى منحدر الصوّان، سوى طريق التعرّي الذي هو نكران الذات، وتحمّل العطش والجوع والتشرّد والآلام. وطريق الإنسان الى وعي ذاته الكبرى ووحدته مع البارئ، ليست الحواس، وليس العقل، وإنما الرؤيا، وجمرة الإيمان والمحبّة.