قراءة في كتاب “الملك فيصل الأول”

Monday 6th of June 2022 12:57:33 AM ,
5198 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

معاذ محمد رمضان

لم ألتَقِ سابقاً بالأستاذ الجميل، وهذا هو اللقاء الأول لي معه. وعليه فسيكون لقاءً مُمَيّزاً بسبب موضوعه الجَذّاب، كيف لا وهو يتناول شخصية كبيرة بحجم مؤسس الدولة العراقية الحديثة «الملك فيصل الأول».

الكتاب كبير بحجمه إذ تجاوز 400 صفحة، كبير بوعوده و «مزاعمه»، كبير بمصادره ومراجعه.

ينبغي ـ كما يُقر الجميل ـ أن يُمنَح فيصل حقه في التاريخ نظراً لأدواره السياسية الخارجية والداخلية، من خلال رؤية جديدة لمشروعاته النهضوية. وقد أكّدَ الباحث أن هذا الكتاب لم يأتِ لإعادة الإعتبار لفيصل تأريخياً (1)، ولم يُكتَب لتعداد مآثره والتَغَنّي بأمجاده أو تجريحه وتعداد أخطائه (ولكنه يأتي من أجل أن تُدرك الأجيال القادمة أن زعيماً مثل فيصل الأول كان الأقرب الى الإيجابية منه الى السلبية، وأنه سَخّر حياته كلها من أجل أن يبني شيئاَ مصيرياً للعرب) (2).

لا يكف الجميل عن ترديد هدف بحثه في مواضع متفرقة من المقدمة، وقد وعد القارىء بالموضوعية (وسأكون موضوعياً في قراءة تاريخ هذا الرجل دون إنحياز إلا الى الحقائق التاريخية) (3) وهو (إعادة تفسير تاريخية، أزعم أنها جريئة وشاملة، للنضال السياسي والعمل النهضوي) (4).

يُسَجّل الجميل ـ في سياق تحليله للمصادر والمراجع ـ نقداً لعدد من المؤرخين الذين تناولوا فيصل في بحوثهم، منهم الباحثة الأمريكية فيبي مار (5) أما المدرسة التاريخية الماركسية، فقد كانت له معها وقفة خاصة:

(وهناك جماعة أخرى من المؤرخين الذين فَسّروا تاريخ العراق المعاصر تفسيراً ماركسياً. ولا إعتراض لي على منهجهم، بل على تطبيقات بعضهم) (6) ومن هؤلاء: حَنّا بطاطو وإسحق نَقّاش، ناعياً عليهم “إطلاق أحكام أيديولوجية جاهزة” (7).

لا بُدّ من التأكيد على أننا نتفق مع الجميل “إجمالاً” على الدور الكبير الذي مارسه فيصل في العراق، ونحن مع المؤرخ عبد الرزاق الحسني في قوله عن فيصل:

(وبِغَض النظر عن هذه الشخصية الفّذة التي تستحق كل دراسة مُفَصّلة، فإن دورها القيادي في العراق وسيرها بالمملكة التي أقامتها من عالم مجهول الى آخر دولي مرموق، تكاد تكون أقرب الى الخيال منها الى الحقيقة) (8).

أولاً:

ما إن يفتح القارىء الجاد صفحة “الإهداء”، حتى يتسرب إليه الشك بالموضوعية التي سيلتزمها الباحث:

(الإهداء: الى روح حفيده الملك الشاب فيصل الثاني الذي قُتِلَ في بغداد ظُلماً وعدواناً صبيحة 14 تموز / يوليو 1958) (9).

واضح هنا “طغيان العاطفة” و “إستثارتها» لدى القارىء، فضلاً عن الغمز الخفي بثورة تموز.

ثانياً:

وقع الجميل بأخطاء تاريخية عديدة:

1ـ يقول: (إقترن إسم فيصل الأول بتأسيس كيانيين عربيين سياسيين: أولهما في سورية... وثانيهما في العراق عام 1921 بإسم المملكة العراقية، والتي حكمها بعد وفاته عام 1933، حفيده فيصل الثاني، حتى الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالمملكة عام 1958) (10).

من حكم بعد فيصل الأول إبنه غازي من 1933 الى 1939، أما حفيده فيصل الثاني فقد وُلِدَ في عام 1935 (11) فهل وقع الباحث بالسهو؟ أم هو خطأٌ تتحمله دار النشر؟

2ـ يقول: (وفي حين بقي الشريف الحسين بن علي في عاصمته مكة المكرمة رمزاً سيادياً ومُفَجّرَاً حقيقياً للثورة، فهو وَلّى ولده فيصل القيادة العسكرية للثورة «وهي مهمة خطيرة» وعمره 21 عاماً) (12)

قامت الثورة العربية الكبرى في عام 1916 ضد الدولة العثمانية، وقد وُلِدَ فيصل في عام 1883، وعليه فسيكون عمره عند تَوَلّيه القيادة 33 عاماً.

3ـ يقول: (وفي تشرين الأول ـ أكتوبر 1932، أقال فيصل نوري كرئيس للوزراء وعيّن ناجي شوكت، مِمّا حَدّ من نفوذ نوري الى حدٍ ما. وبعد وفاة فيصل في العام التالي وإنضمام غازي، إنخفض إحتمال وصوله الى القصر. وما زاد من تأثيره كان صعود ياسين الهاشمي الذي سيُصبح رئيساً للوزراء لأول مرة عام 1935) (13).

هذه هي الوزارة الهاشمية الثانية، أي في العام 1935، أما الوزارة الهاشمية الأولى فقد تَشَكّلت في 2 آب 1924 (14) والغريب في الأمر هنا أن نجد كتاب د. سامي عبد الحافظ القيسي حاضراً في حواشي الجميل! وفي الصفحة نفسها! علماً أن كتاب القيسي رسالة جامعية ممتازة عن ياسين الهاشمي.

لكن الجميل يعود في موضع آخر (15) ليخبرنا أن ياسين الهاشمي قد تَوَلّى الوزارة في عهد فيصل، ولكن من دون الإشارة الى أنها الأولى.

ثالثاً:

وقع الجميل بموقفٍ لا يُحسَدُ عليه:

فهو ينقل رواية تقول بأن فيصل قد حاول إتباع الأسلوب السياسي في عام 1917 بعد أن تأكد أن مطالب والده الشريف حسين مجرد حلم لا يمكن أن يُحَقّقه البريطانيون، فإتصل فيصل بالوالي العثماني جمال باشا من أجل ترتيبٍ معين يضمن له حكم سوريا والموصل تحت الإدارة العثمانية. لكن جمال باشا لم يكن مستعداً للتفاوض معه، فبقي مخلصاً لوالده.

يُعَقّب:

(أستطيع القول إن هذه المعلومة يتيمة، إذ لا يمكن أن نجد أي أصل لها، إذ لم تذكرها أي مصادر أخرى توصّلنا إليها. ويبدو أن كُلاًّ من المؤرخَين أفرايم وإناري كارش يحاولان تشويه تاريخ فيصل الأول بأية وسيلة) (16) لكنه ينقل بعدها رواية أخرى، فقد إتصل فيصل مرة أخرى بجمال باشا في ربيع 1918 عارضاً عليه السلام بشرط أن يُسمَح له بحكم سوريا، لكن جمال باشا لم يلتفت إليه.

ثم يُعَقّب:

(وعليه يمكننا القول إن فيصل قد حاول لأكثر من مرة أن يبقى متعايشاً مع العثمانيين. ولكن عناد جمال باشا حال دون إيجاد صيغة سياسية للتعاون العربي ـ العثماني) (17)

أقول للجميل:

ألستَ أنتَ الذي رفضت رواية “الإتصال الأول” بين فيصل والوالي العثماني بدعوى أنها رواية يتيمة تحاول تشويه تاريخ فيصل بأية وسيلة. فكيف جاز لك الآن الإستنتاج بأن فيصل قد حاول التعايش مع العثمانيين إستناداً لرواية ثانية تتحدث عن “الإتصال الثاني”! ومن نفس المصدر كما هو مذكور في الحواشي! ألا يعني هذا بأن “الإتصال» كان حقيقة تاريخية؟! وأن فيصل لم يكن مخلصاً لوالده؟! وأنك قد ناقضت نفسك؟!

رابعاً:

في سياق “العاطفة” التي وجدت لها حضوراً في بحث الأستاذ الجميل، يعقد الأخير “مقارنة” مثيرة للسخرية (18) بين مقتل الإمام الحسين ومقتل العائلة المالكة في تموز 1958 في سياق تثبيته لوصية الحسين والد فيصل وخشيته من قتل العراقيين لولده كما فعلوا بجده الحسين (19) ليصل الحال بالجميل الى “جَلد” العراقيين ناعياً عليهم تاريخهم المُضمّخ بالدماء!

بعيداً عن التفسير اللاهوتي، جاء الإمام الحسين الى العراق نتيجة لرسائل وردته من هذا البلد، فقُتِل في النهاية كما هو مشهور في كتب التاريخ. أي أن الإمام الحسين كان “مُعارِضَاً ثائراً” ولم يكن حاكماً. أما العائلة المالكة فقد كانت تحكم! وإسمها يُفصِحُ عن هذه الحقيقة بجلاء! “العائلة المالكة”!. ثم يقول بأن الملك غازي قد سقط هو الآخر شهيداً، ولكن هل يتحمّل الشعب العراقي مصرع غازي أيضاً؟! هذا ما لم يذكره الأستاذ الجميل!

ومن يراجع حواشي الكتاب، سيجد أن الجميل قد إعتمد في هذه المقارنة على الأمير الحسن بن طلال!

خامساً:

لم يُوَضّح لنا الجميل “الأحكام الأيديولوجية الجاهزة» التي إستخدمها وطَبّقها المؤرخون الماركسيون! نعم وجدناه يتعرض لحنّا بطاطو في مواضع قليلة، فمثلاً يقول بأن بطاطو قد إهتم بالظاهرة السياسية من دون معرفة خفاياها في الأعماق وما ترتب عنها من تناقضات، وقد غابت عنه جملة من الأسئلة المُحَيّرَة التي لم يُدركها على الأرض (20) ليقول بعدها بأنه قد قَسّم العراقيين الى ملائكة وشياطين، وأنه قد نَكّلَ بعهد سياسي وأضفى صفات العظمة على عهود أخرى! (21)

لا أعرف ما هي المواصفات التي يمكن أن نضعها على طبقة سياسية تَحَكّمت بالبلد على مدى 37 عاماً مع إهدار حقوق الناس!! ثم متى نَكّل بطاطو بالملكية وعَظّمَ الجمهورية كما أشار الجميل بصورة غير مباشرة؟!

سادساً:

يحتمل الجميل أن السياسي العراقي عبد المحسن السعدون قد قُتِل ولم ينتحر، لكنه يتساءل: من كان وراء قتله إن لم ينتحر؟ (22)

لا أعرف ما هي الحاجة لطرح إحتمالات بدون وجود أدلة تؤيدها؟! فقد طرح المؤرخ الأدهمي أدلة كثيرة على ضلوع نوري السعيد في وفاة الملك فيصل، لكنها كانت برأي الجميل: إتهامٌ واهٍ مثير للسخرية (23) فبأي خانة سنضع هذا الإحتمال من جانب الأستاذ الجميل؟

سابعاً:

وعد الجميل القارىء ب»الموضوعية»، والأخيرة تُحَتّمُ عليه ذكر الإيجابيات والسلبيات أيضاً، لكننا لم نَرَ السلبيات بقلم الجميل! بإستثناء نصٍ يتيم عنده: (كان ـ فيصل ـ سياسياً جيداً ويمتلك بُعد نظر، ولكن من أخطائه أنه بقي مُعَلّقَاً أيضاً لا يدري ما العمل وسط التنافس والتناحر المستمر بين العراقيين القياديين، ولم يحسم الأمر لمصلحة من يراه أفضل على قاعدة “يا غريب كُن أديب”، أي أنه لم يدرك حاجة بعض العراقيين الى الإقصاء أو العقوبة) (24)

واضحٌ هنا الدعوة لإقصاء البعض أو إنزال العقاب بهم، فهل فعلاً لم يُقصَى البعض؟ ولم يُنزَل العقاب بهم؟ يحضرني الآن: الشيخ مهدي الخالصي و توفيق الخالدي.

بالنسبة للخالصي، فقد نُفي لخارج العراق بموافقة الملك فيصل، ولم يُسمَح له بالعودة، فإستقر في خراسان وتوفي فيها في العاشر من نيسان 1925 (25)

أما الخالدي، فتقول ألمس بيل بأن الملك فيصل كان يكرهه وهو يعلم بذلك (26) وكان الشائع في بغداد يوم تم إغتيال توفيق الخالدي فيما بعد من دون أن يُكتَشَف أمر القاتل، أن مُدَبّري الإغتيال هو جعفر العسكري وجماعته بمعرفة الملك فيصل (27). فأين الأستاذ الجميل من هذا الإقصاء وهذه العقوبة؟!

وينتقد الجميل بطاطو على قوله بأن فيصل كان يعمل من أجل تثبيت حكم أُسرته (28). السؤال المهم الآن: هل كان فيصل بشراً أم ملاكاً؟ ألا يسري عليه ما يسري على غيره من حُب السلطة والعمل من أجل الإستئثار بها؟ ثم إن التاريخ يُحدّثنا بما ذكره بطاطو، فقد إنتقلت السلطة لولده غازي!

وماذا بشأن دور الملك فيصل الأول في “مسخ الحياة الدستورية” في العراق، لماذا لم يتَعَرّض الجميل لهذا الموضوع المُشكَل؟! فهناك من يرى أن الملك فيصل بالإتفاق مع بريطانيا كان وراء إنحراف سير الدولة العراقية الحديثة عن الديموقراطية الصحيحة، والسبب هو تَدَخّله في الإنتخابات النيابية منذ قيام المجلس التأسيسي وحتى آخر مجلس في حياته. وقد إقتبس فيصل هذا الأسلوب من الحياة السياسية في العهد العثماني، وبالتحديد من إنتخابات المجلس النيابي بعد إنقلاب 1908 على السلطان عبد الحميد (29)

ثامناً:

يحفل كتاب الجميل بتكرار مُمِلٍ يجعله أقرب الى الخطابات الإنشائية العاطفية منه الى البحوث العلمية الرصينة (30)

نتيجة البحث: مع تقديرنا للجهد الكبير الذي بذله الأستاذ الجميل في كتابه هذا، وللوقت الثمين الذي خَصّصَه له. لكنه لا يخلو من النواقص والأخطاء، إذ لم يكن الجميل “موضوعياً” في بحثه، وهو ـ البحث ـ أقرب الى الدفاع منه الى التقرير التاريخي الصارم.

الحواشي:

1ـ فهل صَدَقَ الجميل في تأكيده؟ هذا ما سنكتشفه في مقالنا.

2ـ سيّار الجميل: الملك فيصل الأول 1883 ـ 1933 / أدواره التاريخية ومشروعاته النهضوية، مركز دراسات الوحدة العربية ط1 بيروت 2021 ص27

3ـ المصدر السابق ص26

4ـ المصدر السابق ص27

5ـ المصدر السابق ص35

6ـ نفس المصدر والصفحة

7ـ سننتظر من الباحث توضيح هذه «الأحكام الأيديولوجية الجاهزة»؟

8ـ محمد مظفر الأدهمي: الملك فيصل الأول / حياته السياسية وظروف مماته الغامضة، دراسة وثائقية، دار الذاكرة بغداد ط1 2019 ص11 مقدمة المؤرخ عبد الرزاق الحسني

9ـ الجميل: المصدر السابق ص7

10ـ المصدر السابق ص41

11ـ أحمد فوزي: فيصل الثاني / عائلته ـ حياته ـ مؤلفاته! دار الحرية للطباعة بغداد ص77

12ـ الجميل: المصدر السابق ص72

13ـ المصدر السابق ص195

14ـ سامي عبد الحافظ القيسي: ياسين الهاشمي وأثره في تاريخ العراق المعاصر 1922 ـ 1936، دار دجلة عمّان الأردن 2013 ص191

15ـ الجميل: المصدر السابق ص254

16ـ المصدر السابق ص63 و 64

17ـ المصدر السابق ص65

18ـ ليعذرنا القارىء على هذا الأسلوب، لكنه نفس الأسلوب المُتَبَع من قِبَل الجميل! فقد سخر من المؤرخ الأدهمي في إتهامه لنوري السعيد بقتل فيصل! يُراجَع:

الجميل: المصدر السابق ص382

19ـ المصدر السابق ص231 و 232

20ـ المصدر السابق ص249 و 250

21ـ المصدر السابق ص250

22ـ المصدر السابق ص30 و 255

23ـ المصدر السابق ص382

24ـ المصدر السابق ص261

25ـ هنري فوستر: نشأة العراق الحديث ج1، ترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، منشورات المكتبة العلمية بغداد ط1 1989 ص197 الحاشية رقم 26 «تعليق المترجم»

26ـ العراق في رسائل ألمس بل، ترجمة وتعليق: جعفر الخياط، تقديم: المؤرخ عبد الحميد العلوجي، الدار العربية للموسوعات بيروت لبنان ط1 2003 ص523

27ـ المصدر السابق ص409 حاشية المترجم

28ـ الجميل: المصدر السابق ص324

29ـ محمد حديد: مذكراتي / الصراع من أجل الديموقراطية في العراق، تحقيق: نجدة فتحي صفوة، دار الساقي بيروت لبنان ط1 2006 ص131

30ـ الجميل: المصدر السابق ص343 و 346 و 354 و 355