وترجّل “مظفر النواب”.. شاعر المواجهة والمنافي

Thursday 2nd of June 2022 12:28:46 AM ,
5196 (عراقيون)
عراقيون ,

محمد عبد الشكور

“سُبحانَكَ كلُّ الأشياءِ رَضِيتُ سِوى الذلِ وأنْ يُوضَعَ قلبِيَ في قَفَصٍ في بَيتِ السلطانْ.. ورَضِيتُ نَصِيبيَ في الدنيا كنَصيبِ الطيرِ لكِنْ سُبحانَكَ حتّى الطيرُ لها أوطانْ”، هذه الكلمات قالها شاعر المواجهة والصراحة مظفر النواب، الذي توفي عن 88 عامًا، بمستشفى الشارقة التعليمي في دولة الإمارات، بعد أن عارض الحكام والرؤساء وانتقدهم، وتعرّض للملاحقة والسجن، وعاش في عواصم عدة، منها بيروت ودمشق والقاهرة، ومدن أوربية أخرى.

مولده وتغريبته

وُلد مظفر عبد المجيد النوّاب عام 1934 في الكرخ بالعاصمة بغداد، وهاجرت عائلة جدّه إلى الهند أيام حكم العثمانيين للعراق، وهناك تولت الحكم في إحدى الولايات الهندية، ثم عادت منها إلى العراق بضغط من سلطات الاحتلال الإنجليزي بسبب مقاومتها لها.

وهو سليل عائلة أدبية ثرية أرستقراطية، تنتمي إلى البيت الهاشمي، وكان جدّه لوالده يقرض الشعر بالعربية والفارسية، وكانت أسرته تتذوق الفنون والموسيقى، وكان قصر العائلة المطلّ على نهر دجلة مقصد الشعراء والفنانين والسياسيين.

اعتناقه الفكر الشيوعي

أثناء دراسة مظفر في الصف الثالث الابتدائي، اكتشف أستاذه موهبته الفطرية في نظْم الشعر، وفي المرحلة الإعدادية أصبح ينشر قصائده في المجلات الحائطية التي يحرّرها الطلاب في المدرسة، وتابع دراسته في كلية الآداب ببغداد في ظروف اقتصادية صعبة، بعد أن تعرّض والده الثري لهزّة مالية عنيفة أفقدته ثروته بما في ذلك قصره الجميل.

بعد الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958، تم تعيينه مفتشًا فنيًّا بوزارة التربية في بغداد، فأتاحت له تلك الوظيفة فرصة تشجيع الموهوبين ودعمهم من موسيقيين وفنانين تشكيليين.

ولأن الشباب في وقتها كان يبحث عن أفكار تخلّصه مما هو فيه، وجد أن الشيوعية ضالته، وتغلغلت مبادئ الشيوعية إلى العمق الفكري للنواب، مما دفعه إلى الانتماء للحزب الشيوعي في العراق، مقدّمًا تضحيات كبيرة في صفوفه، وبقي على ما كان عليه حتى عام 1963، واضطر في تلك المرحلة إلى مغادرة بلده، متجهًا إلى إيران؛ لاشتداد الصراع بين الشيوعيين والقوميين الذين تقلّدوا الحكم بانقلاب نفذوه في 8 فبراير/شباط 1963، لكن المخابرات الإيرانية -آنذاك- ألقت القبض عليه وهو في طريقه إلى روسيا وسلّمته إلى السلطات العراقية، فحكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام، لكن خُفّف الحكم إلى السجن المؤبد.

وأمضى فترة في سجن “نقرة السلمان” الشهير بمحافظة المثنى جنوبي البلاد، ثم نُقل إلى سجن الحلّة جنوبي بغداد، وهناك تمكّن من الهرب والاختفاء جنوبي العراق، حيث عمل في شركة هولندية، وفي عام 1969 صدر عفو عن المعارضين، فرجع إلى الوظيفة في مجال التعليم مرة ثانية بعد أن كان قد فُصل منها.

موهبته الشعرية

وتُعدّ قصيدة “قراءة في دفتر المطر” التي نظمها النواب عام 1969 أولى محطات الشهرة لديه، لينتقل بعدها إلى مساحة أوسع في عالم الشهرة عند الجمهور العربي بنظمه ملحمة شعرية حملت عنوان “وتريات ليلية”، وكُتبت خلال الفترة من 1972-1975 التي أكد فيها التزامه التامّ بقضايا العرب القومية السياسية والاجتماعية، وأصبح تغنّيه بها سمة ظاهرة في شعره، ليشتهر بعدها أكثر في نظم الشعر السياسي المعارض والناقد للأنظمة العربية، دون أن تأخذه رحمة بتلك الأنظمة بلجوئه إلى استخدام مفردات وألفاظ جريئة جدًّا.

وتمكّن النواب من صناعة شهرة أدبية لنفسه بكتابته الشعر بالعربية الفصحى، بجانب اللهجة العامّية في العراق، معزّزًا رصيد شهرته بانتقاده ومعارضته الأنظمة السياسية العربية عمومًا، والعراقية على وجه التحديد، وهذا ما جعله شريدًا في المنافي أغلب سنوات حياته.

فرضت قصائد النوّاب السياسية الهجائية عليه أن يكون “شاعر الغربة والضياع”، فعاش نحو 5 عقود طريدًا بين المنافي العربية والأجنبية، متوزعًا في أسفاره بين دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم وسلطنة عُمان، وإريتريا وإيران، وكذلك فيتنام وتايلاند واليونان وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، فضلا عن فنزويلا والبرازيل وتشيلي.

دأب النواب على تنظيم أمسياته الشعرية في العواصم الأوربية وتحديدًا لندن، وألقى فيها قصائده الكثيرة التي خصصها للقضية الفلسطينية وانتفاضتها -1987 و2000- والحثّ على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة قصيدته “القدس عروس عروبتكم”.

الخروج عن المألوف

عاد النواب إلى العراق في مايو/أيار 2011 وهو مصاب بمرض الشلل الرعاش بعد فراق عن وطنه دام أكثر من 40 عامًا، متنقلًا في المنافي دون استقرار، واستقبله -آنذاك- الرئيس الراحل جلال الطالباني بمكتبه في قصر السلام وسط بغداد.

ويُعدّ النواب أحد أبرز شعراء العراق الذين بدأوا مسيرتهم الشعرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وبرحيله تُطوى صفحات تلك المرحلة في تاريخ الشعر العراقي، التي تميزت بالغِنى والتجريد، والخروج على القوالب المألوفة وروح التمرد.

ورغم شهرة القصائد السياسية للنواب داخل العراق وخارجه، إلا أن شعره العاطفي والغزلي، خاصة باللهجة العامية العراقية، لا يقل جمالًا ورونقًا وسحرًا.

وتميّز بأسلوب فريد في إلقاء الشعر، وأقرب ما يكون إلى الغناء أحيانًا، خاصة عندما يكون في مواجهة الجمهور.

أما سياسيًّا، فقد انحاز النواب إلى قضايا الفقراء والبسطاء والعدل، ومناهضة الاستغلال والاحتلال، وأنظمة الحكم السائدة، فتعرّض للسجن والملاحقة لفترة طويلة داخل وطنه، واضطر لاحقًا إلى العيش منفيًّا في غربته التي ناهزت نصف قرن تقريبًا.

رحل النواب وما زالت القدس محتلة، والصهاينة يقتلون الفلسطينيين كل يوم، وما زال الحكام كما هم، والعدالة غائبة، رحل النواب وهو يصرخ في قصيدته “القدس عروس عروبتكم”:

لستُ خجولًا حينَ أصارحُكم بحقيقتِكم

أنَّ حظيرةَ خنزيرٍ أطهرُ مِن أطهرِكم

تتحركُ دكةُ غسلِ الموتى

أمّا أنتم

لا تهتزُّ لكم قصبة!

عن موقع الجزيرة نت