ياحسافة باعوني فد بيعة.. عندما أصبحت صديقة الملاية متقاعدة

Thursday 17th of March 2022 12:39:36 AM ,
5148 (عراقيون)
عراقيون ,

وفقا لقانون تقاعد الفنانين، ينتظر ان تستلم صديقة الملاية (وفنانون آخرون) راتبا تقاعديا قدره مائة دينار. حمل مندوبنا هذه البشرى الى الانسانة التي منحت بلادنا اكثر مما اخذت منها، وبدأ بحثا متواصلا عنها لمدة يومين، عثر عليها في الآخر رغم الصعوبات ورغم الاشاعات التي تقول بوفاتها او استحالة ايجادها.

وقد سجل مندوبنا حديثا خاصا استمر لساعتين تقريبا معها. في غرفتها المخيفة والتي يتهددها الانهيار.. وهناك في داخل الغرفة التي تضم سريرا متهالكا ولمبة نفط ضعيفة وبعض صور الشباب مؤطرة على الطريقة القديمة.. كتب مندوبنا هذا الحديث الذي يصح ان يكون وثيقة ادانة الفن والفنانين ولكل الاصوات والاقلام التي تتحدث وتكتب بعيدا جدا عن هامش القضية حتى».

يومان وانا ابحث عن صديقة.. صديقة الملاية، مطربة الثلاثينيات والاربعينيات، مطربة الجيل السابق الذي مازال صدى اغنياتها يهمهم بحزن في اذنه، مرة سمعت ابي يلعن اليوم الذي جعله يسمع اغنية “ياصياد السمج” بالحانها الجديدة.. سمعته يطلق زفرة حرى ويتمتم: “اتركوا الاغاني القديمة لحالها.. اتركوها عساها تذكرنا بايامنا” ثم، وبعد لحظات، يضحك ويقول: “كانت ليالينا جدية وفقيرة مع الانكليز.. ولكنها دون شك احسن من ايامكم – موجها كلامه لي-.»

يومان، اجل، يومان من التعب، التعب اللذيذ.. شارع الكفاح.. الشيخ عمر.. مدينة الثورة.. مدن بغداد القديمة.. الاسفلت القديم دونما اثر لصديقة.. اين صديقة، من يدلني على صديقة (اسئلة حيرى تدور في الرأس الذي يحمل جسدا حائراً.

في اليوم الثاني.. الساعة الثانية ظهرا وانا اغادر عتبة وزارة الثقافة، بعد ان قابلت السيد علي عبد الرزاق واطلعني على تقاعد القنانين، شعرت بفرحة داخلية مصدرها انني، ربما، الاول الذي يحمل البشرى لصديقة الملاية بعد اعوام طويلة من التسكع والحرمان والاهمال. قلت في نفسي: اذا وجدتها ساصرخ، ان لك راتبا ياصديقة، راتبا قدره (100) دينار تقريبا في الشهر، كفي عن التسكع والخوف.. جاء اليوم الذي يجب ان يكافأ فيه الفنانون.. اشياء كثيرة حملتها في صدري وانا اقذف بنفسي داخل “التاكسي” المتجه الى باب المعظم، ولكن السؤال نفسه يجيء مع حركة “الماطور”: اين اجدها، اين اجد صديقة الملاية.. من يدلني على صديقة الملاية.. من يدلني على الانسانة التي ستكون – عبر خلاصها من العذاب- مفتاحا لخلاص كل الفنانين في بلادي؟!!

كان سائق التاكسي يولول ويشتم الناس والعالم دونما استثناء، عابر الشارع لا يخلص من لسانه، لا ولا عابرا الرصيف!!.. قلت في نفسي! هوذا الدليل!! هوذا الدليل الى صديقه.. وبدون تردد صمت فجأة! من يدلني على صديقة الملاية... رجاء؟!

قهقه سائق التاكسي قائلا:

صديقة الملاية... تريد تندلهة ! قلت: دلني عليها الله... اجاب

يمعود مو بس... راح اجي وياك! قلت له شكرا.. شكرا جزيلا.. هذه اللحظة ضحك بوجه الركاب وقال: صديقه تسكن الميدان.. رايت وجه السائق في المرآة غاضبا غضبا شديدا وحانقا على احد الركاب، وقبل الوصول الى الميدان بلحظات انفجر السائق ما اللفظة بعد الاخرى بلا توقف ولا تروي.. كانت اكبر اخطر من مناقشة، هذه التي حصلت بين الراكب والسائق بينما كنت اغادر باب التاكسي.. متجها نحو بيت صديقة الملاية!

زقاق صغير ملتو كالافاعي، هو الشارع الذي يؤدي الى البيت” الخرابة” !، السلم المؤدي الى غرفة صديقة، في الطابق العلوي، حلزوني يجهد النفس ليس الا ثمة (نماذج) و(عينات)، موزعة على درجات السلم الحلزوني. شعور بالرغبة والتقيوء يغمرني.. وعلى بالي الغرفة المخيفة التي تقع في مواجهة السلم:بالبؤس الفنان في بلادنا!

صديقة على الباب المتهالك، مستندة كانها بانتظاري. عرفتها بنفسي.

* صحفي بائس ياخالتي العزيزة: صديقة.

* يسكن محلة اقل بؤسا من محلتكم ياخالتي العزيزة: صديقة.

البحث عن صديقة.. تعب لذيذ!!

* يبحث عن المظلومين، أملا ان يجيء اليوم الذي يبحثون فيه عنه، ياخالتي العزيزة: صديقة.

* ابوه وامه يحبون اغانيكم (وبستاتك” القديمة ياخالتي العزيزة: صديقة.

* يحب ان يتوج افعال الخير القليلة في حياته بفعل خاص لك ياخالتي العزيزة: صديقة.

* يتمنى ان يتحدث اليك وان تتحدثي اليه، ياخالتي العزيزة: صديقة.

لم تكن صديقة بحاجة الى تعريف نفسها فهي ابنة محلة الفضل في شارع الكفاح عمرها (75) عاما، فاقدة البصر والقوة، متهالكة كالباب، معذبة بلا رحمة، تستجدي اللقمة بمرارة من بنات فضيلة: حمدية وهيفاء ونور (تذكروا ان الراتب التقاعدي “المؤمل” صرفه لصديقه مائة دينار)..

تجاعيد في الوجه، قائلة! الموت على قاب قوسين او ادنى!

صديقة لا تعرف شيئا عن العالم الخارجي.. صديقة الملاية القديمة ماتت او لنقل رحلت مع رحيل بغداد ذات الاسفلت القديم.

تركت لصديقة عنان الحديث:

صديقة.. ايام زمان؟!

جانت الاذاعة غرفة وحدة يابه، وداير مدايرهه بساتين. بساتين جبيرة. ومحمد كبنجي هو فك الاذاعة.. وكتها جنت بنية.. جيت واشتغلت بالاذاعة.. ضحيت يابه بحياتي وما خفت من الموت اللي واعدوني اهلي واقاربي بيه. (صمتت برهة ثم قالت بلهجة باكية): نسوني يابة نسوني، محمد كبنجي احبه.. عفيفة احبها... كلهم احبهم.. بلاكت نسوني.. نسوني! موتي صديقة..

ثم رجعت بعيدا الى الوراء وقالت بطريقة حلميه: كلادة ام خمس ليرات والحجل الالعشقبند.. التكوك الذهب يابه ذهب يلالي.. والعيون الحلوة الوسيعة.. وصديقة تلعب بالفلوس لعب.. ما حسبت يابه ما حسبت (تبكي)!

لقاء مع ام كلثوم!!

تبدا اصابع صديقة تبحث يتلمس على الارض.. كانت تريد سيجارة، اخرجت لها سيجارة ووضعتها في فمها واستمرت هي بتعب تنشد لحنا حزينا يقول:

«عبود اجه من النجف»

ثم تساءلت مع نفسها ومعي: (وين هو عبود.. لاعبود.. لاغيره.. لا غيره.. نسوني كلهم.. نسوني!) وما قصة عبود هذا؟!

عبود شيخ من النجف، اجه يزور بغداد وسويت هاي البسته عبود اجه من النجف.. وبعدين كام عبود ينشد علي ويدور.. جان عبود يحبني، جنت حلوة يابه، وراد مني اسافر للنجف، وصدك سافرت.. سافرت للنجف.. كل الولايات شفتهه يابة كل الولايات حتى البصرة.. حتى السماوة.. حتى الحلة.. حتى الموصل.. غاد من الموصل.. كلهه شفته يابه شفت ام كلثوم هناك بمصر.. وي.. وي.. وي، ليش اكو ولاية بالدنية ما شفتهه!

ام كلثوم! ولماذا اللقاء مع ام كلثوم خالة صديقة؟

يابه اني احبه لام كلثوم.. احب اغانيه وبستاتهه وهي جانت تحب الاغاني مالتي.. تحب بستة الزهيري: “الدار لو زل” مالتي.. وهناك.. هناك بمصر حجيته على القوان وعلى الفن كله.

حياة صديقة الان..؟

طيب خالة صديقة.. عندك راتب او مصدر رزق الان؟!

يابه جان عندي راتب (12) دينار بالشهر واجه هذا اللي احتركت بيه الطيارة وكطع الراتب عني والنوبة اخوه همينه ظل كاطعة عني، وبعدين، طلبت مني الاذاعة اروح الله ورجت البارحة وانطوني عشر دنانير.. يابه بس ايجار الغرفة هاي اربع دنانير.. ولوما بنات فضيلة جان متت من الجوع يابه.. الله يخليهن يابه!

* طيب خاله صديقة.. هل سمعت براتبك التقاعدي

لا يابه.. وينه هذا.. منو كال.. الله يخلي عيونك!

(خصصت لك حكومة الثورة راتب تقاعد.. انت وجميع الفنانين.. وقبل لحظات كنت عند الاستاذ علي عبد الرزاق واخبرني بان لك راتبا قدره (100) دينار.

نهضت صديقة الملاية وقبلتني من راسي قائلة: وينه عيني.. وينه يابه.. وينه الله يخليكم.

(طيب خالة صديقة، بعد ايام اتصل بك وابلغك تفاصيل الراتب..

اجابت بلهفة: اي عيني ايه يابه الله يخليك!

يا صياد السمج.. خربوها!

نترك هذا الموضوع خاله صديقة ونسالك عن رأيك باللحن الجديد لاغنيتك ياصياد السمج.

بدات الملاية تقول بألم: يابه خربوها.. خربوها الاغنية.. حتى اللي بالكبر مسلم منهم يابه.. بستاتي كلهه لازم تبقى للناس.. محد يلعب بيهه.. ما اريد اموت بلا اثر.. ماعندي لا ولد ولا بنيه يذكروني بعدين بسه الاغاني يابه.. الاغاني هي ولدي وبنيتي.. لحد يلعب بيهه!

ثم عادت الى عتابها المحزن:

محمد كبنجي يابه انكطع

عفيفة اللي احبهه واللي كضيت ايام وسنين عمر وياهه انكطعت. الاخر انكطع.

الاخر انكطع

كلهم انكطعوا

جنت احبهم.. احبهم يمه احبهم.

بلاكت باعوني فد بيعة

قد بيعه ياحسافة باعوني.

كان الوقت يمضي بطيئا حزينا مرة سريعا قائلا مرة اخرى. وعندما استاذنتها بالذهاب كانت مشكلتها تملأ على راسي وسمعي وعيوني.

جريدة كل شيء 5/9/1969