المنفلوطي بعيداً عن قراءات عصره

Wednesday 23rd of February 2022 12:34:32 AM ,
5133 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

نجم الدين خلف الله

انْبَنت شُهرة الأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي (1876 - 1924)، على عُنصرَيْن: الأول أنه ترجَمَ بنفسه، للعربيّة، نصوصًا من عَريق الآداب الفرنسية، والثاني أنه كان يكتُب للناشئة بغرض نشر “الفضيلة” الأخلاقيّة بين صفوفِها. والمفارقة أنَّ هذيْن العنصريْن غير دقيقيْن،

إن لم يكونا خاطئَيْن تمامًا؛ إذ لم يكن المنفلوطي مُترجِمًا، فهو لا يُتقن اللسانَ الفرنسيَّ، ولا حتى يعرفه، فكيف له أن يَطَّلع على نصوصٍ جَزلةٍ كُتّابها مثل برناردين دي سان بيير (1737 - 1814)، وألفونس كار (1808 - 1890)؟

أمّا طبيعة عَمله في «الترجمة» فتتمثل في إعادة صياغة نصوصٍ فرنسية الأصل، كان أصدقاؤه يَروون له مضامينَها، لتكونَ هذه الإعادة شكلًا طريفًا من أشكال الترجمة. فَمن المعلوم أنَّ المنفلوطي استعان بصديقه فؤاد كامل الذي قصَّ عليه، شفويًّا، حكاية مجدولين وستيفن. كما صاغَ بالعربية قطعتيْن مسرحيتيْن «من أجل التاج» لـ فرانسوا كوبي (1842 - 1908)، سنة 1920، و»سيرانودي برجاك» لـ إدموند روستان (1868 - 1918)، سنة 1921، بعدما رَواهما له رفيقُه عبد السلام الجُندي.

ويكمن المجهود الأبرز، الذي بَذله صاحب “العبرات”، في مسار تحديث الضاد، إبَّانَ مَرحلةٍ حاسمةٍ من مراحل تطوّرها، عبر مَدِّها بسجلّات قولية وحقولٍ دلالية مستحدَثَة، ربما لم تكن تخطُر للناطقين بها على بال، وهو السجلّ الرومنسي، بمرجعياته وأركانه. فلا يُنكر أحدٌ أنَّ النصوص التراثيّة كانت حافلةً بالصور البيانيّة والمفردات المُحيلَة على الطبيعة والأحاسيس الوجدانية وسائر ثيمات هذا التيّار. لكنْ للمنفلوطي يعود الفضل في “تَشَرُّب” - والمُصطلح لجوليا كرستيفا (1941) - ما ورَدَ في شعر الطبيعة الكلاسيكي، وخاصة لدى ابن الرومي (836 - 896)، كما في كُتب النثر الفني، من أجل استِحيائِها فَإنطاقِها بما يَجري في البيئات الأجنبيَّة حيث تدور القِصص التي أعاد صياغَتَها وبناءَ أكوانِها الرمزيَّة، على تباينِها العميق مع البيئة المصريّة، مَطلعَ القرن العشرين.

فما أنجزه المنفلوطي إذن ليسَ ترجمةً ولا تعريبًا، وإنما هو توليدٌ واجتراحٌ لجنسٍ من القول حادثٍ، سَعى فيه إلى أن تضطلع الضاد بالتعبير الدقيق الأنيق عن المكوّنات والإطارات المتخيَّلَة التي تتحرك ضمنها الشخوص، وهي عوالم الرومنسية بما فيها من تمزّق داخلي بين الذات والموضوع. ولذا فإنَّ ما كتَبَه، مثل “العبرات” و”مجدولين”، إنما هو بَعثٌ للتيار الرومنسي عبر اختلاق جنس طريفٍ من الحبكة، لم يَعْهده تاريخ الأدب العربي من قبلُ، إذا استثنيْنا أمشاجًا هنا وهناك.

ولا يجري التوليد، عنده، في مُستوى المفردات والمصطلحات، ولا تجديده في بناء السَّرد ونسج الحكايات، وإنما في بَعث أسلوب كتابيٍّ غير مألوف، عماده ومداره “الرومانسية”، بما هي نهجٌ في صياغة اللغة وسوقِ الكَلام تصويرًا للعواطف الجيَّاشة المتصارعة مع قيود الموضوع.

ولذلكَ زَخَرَت صفحاتُ آثارُ المَنفلوطي - والذي تمرّ اليوم ذكرى رحيله (تضاربت احتمالات تاريخ رحيله كولادته) - بفقرات مُطَوَّلة عن الأحاسيس وتشابكها ضمن السرد - الإطار الذي يتألَّف، عمومًا، من قصّةٍ غراميّة، يستحيل تَحقَّقُ الوصال فيها، بسبب المحظور الذي يَمنَعه، فيجعل منها تراجيديا يعيشها الطَّرفان، ثم تتضخّم بسبب تأثير العوامل الاجتماعية والعائلية والأخلاقية.

وعليه، فإنَّ التطوَّر الذي لحقَ الضاد من خلال إرث المنفلوطي النثري حاسِمٌ، بل ويشكّل منعطفًا كاملًا أتاح أن يفتح لها، بداية القرن الماضي، حقلَ العواطف والذكريات والصراعات النفسية، بعدما كان هذا الحقل مُستَغلقًا قصيًّا طيلة العهود الماضية. ولعلَّ هذا الإرثَ هو ما هَيَّأ الظروف لظهور حركة “أبولو” و”الديوان” وأدب “المَهجر” وحتى الشعر الغنائي الحديث، على ما بين هذه الحركات والمنفلوطي من عِداءٍ سافر.

فرغم الانتقادات التي أثارها قرّاء ذلك العصر ونَقَدَتِه، مثل: طه حسين، الذي اتَّهمه، سنة 1911، “باصْطِناع الخيال والبُعد عن الحقيقة والسرقة من الغير والتكرار” (علي شلشل: المنفلوطي، 1987)، ومثل غريمه العقّاد، الذي عابَ عليه “الفصاحة الجوفاء”، فإنَّ النسيج المعجمي في حكاياته لم يخل من الدقّة والصحة والوضوح، هذا مع أنَّ المرجعيات المادية والذهنية، وحتى الأسلوبية، التي أوردَها كانت تدور جلُّها في فرنسا “الأنوار” إبّان القرن التاسع عشر بتحوّلاته الجارفة. وهذا عينُ ما لاحظه محمود تيمور، الذي أشاد “بدقّة المفردات” لدى صاحب “الشاعر».

ويمكن القَول إنّه هو من زَوَّد هذه التيَّارات والمدارس، بوصفها سجلّاتٍ قوليّة، بمفرداتها وتعابيرها وصورها البلاغية، بل وحتّى بطرق الترابط بين العبارات، وما يَتَخَلَّق فيها من أبنية سرديّة وظلال المعاني التي تتراكم في الأفق الرومنسي. فقد جعله أسلوبُه المتين، في تاريخ الضاد، طَورًا من أطوارها.

أمّا ثاني الصور الجاهزة التي أُسقِطت على المنفلوطي، ولم تنفكَّ عنه، فكتابتُه للناشئة، لأهدافٍ أخلاقيّة. غير أننا حين نضع نصوصَه ضمن خط تاريخ السرد الحديث في العربية، نرى أنَّ رواياتِه وقصصه كانت تُعدّ، في زمنها، “آخر صيحة” في الأدب العربي، حتى ولو كان الأسلوب غير بعيد عما هو سائد في الأوساط المحافظة وقتها، والتي تعتمد اللغة الكلاسيكية التي تضرب عباراتها عميقًا في التراث البلاغي، هذا فضلاً عن تناول العديد من الموضوعات المحظورة، مثل العشق المستحيل والعلاقات المحرّمة.

ومن جهة أخرى، فإنّه شقَّ، في عمل مثل “النظرات”، طريقًا خاصًّا بين الأجناس الأدبية: فمرّة يتّكئ على ما هو واقعي فيكون أقرب إلى محاكاة قصصية لواقعةٍ ما يخرج منها بعِبرة، أو بالأحرى نظرة من “نظراته”، ومرّة يستند إلى التخييل، موحيًا إلى قضية ما من قضايا الواقع، بحكاية يختلقها اختلاقًا. ويكتفي، في أحيان أخرى، بنموذج المقالة، فلا يقحم صورَ الأدب في نصّه، إلّا على مستوى الأسلوب.

ولا ننسى هنا أن نصوص “النظرات” قد نُشرت كمقالات قبل جمعها في كتاب سنة 1907. وقد كانت تنال الاستحسان لبساطة أسلوبها وإثارتها لِطَيْفٍ واسع من الأسئلة التي يفهمها عامّة القرّاء. وسِرُّ ذلك أنه اتخذ موقعًا وسطًا بين تشدّد المحافظين في لغة يريدون أن يحاكوا بها عصرها الذهبي، في الدور العباسي، وبين دعاة الانفتاح على أساليب القول والكتابة المستوردة من الغرب، وقد بدأ الطلبة العائدون من البعثات الأوروبية في أخذ مواقع في الساحة الأدبية وفرض رؤاهم “الثوريّة».

وهكذا، فإنَّ المنفلوطي، الذي اتَّهمه الجيل اللاحق بتجسيد النزعة التراثية وحتى الرجعيّة، لم ينتصر لتيار دون آخر، بل كتبَ، بعفويّة، ما كان يجول بخاطره. ولعلّ عدم انتمائه لأي من التيارات الرائجة هو سبب محنته لاحقاً مع النقد، فلم يدافع عنه أحد من سهام المنتقدين المصوّبة إليه من الفريقيْن، على الرغم من أنّ كليهما يجد فيه مرجعًا. لقد كان المنفلوطي أبًا مشتركًا بين المجددين والمحافظين، ولكنَّه الأب الفقير والمنسيّ.

عن العربي الجديد