بمناسبة اليوم العالمي للإذاعة..هل عرف العراقيون الإذاعة قبل تأسيس إذاعة بغداد عام 1936

Monday 14th of February 2022 12:18:16 AM ,
5126 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

سندس حسين علي

تعد إذاعة بغداد الإذاعة الرابعة في الوطن العربي ويعود الاهتمام بها، إلى سنوات عدة سبقت قيام الحكومة العراقية بالبث الرسمي لأول مرة عام 1936. ولا يعرف بالضبط متى دخل أول جهاز للراديو إلى العراق، ويمكن الاستنتاج بأن البريطانيين الذين تولوا إدارة المرافق الأساسية في الحكومة العراقية، ومن خلال وجود معسكرات جيوشهم في العراق هم الذين أدخلوا لأول مرة جهاز الراديو إلى العراق.

تعود البدايات الاولى لإذاعة بغداد، تبدأ بوصول الأمير علي بن الحسين شقيق الملك فيصل الاول إلى بغداد، قادماً على ظهر السفينة التي أقلته من الحجاز، عقب هزيمته إمام ابن سعود عام 1925 مستصحبا معه جهاز مذياع ألماني قديم نوع (منيرڤا), وكان ذلك الجهاز بالنسبة له كنزاً نفيساً بسبب ندرة أجهزة المذياع في تلك المدة، وكان أشبه مايكون بمهد طفل مصنوع من مادة معدنية صلبة، غير أنَّ كثيرا ماكان يصيبه العطل، فيستعين الامير علي بن الحسين بالملحق العسكري في السفارة البريطانية في بغداد(جيرالد دي غوري) ليرسل له أحد نواب ضباط القوى الجوية البريطانية لإصلاحه في بضعة أيام، واستبدال بعض أدواته.

قام صاحب السينما الوطني عام 1927، بجلب الآت الراديو إذ أعلن عن إتمام نصب الآلة اللاسلكية العظيمة التي استحضرها حديثا، لأخذ الأصوات من محطات العالم اللاسلكية, لتسلية الجمهور وقت مشاهدتهم الصور المتحركة، إذ يمكنهم وهم جالسين في السينما سماع الأنغام الموسيقية، والخطب البليغة من أقصى محطات العالم كأنقرة وموسكو وروما، وبرلين وباريس ولندن, ومن دون أجور إضافية, عدا اجرة السينما المعتادة, وقد خصصت أماكن للسيدات في تلك السينما.

ولنشأت الإذاعة العراقية قصة طريفة، لعل أكثر العاملين في حقل الإذاعة أو المهتمين بها لم يطلعوا عليها. ففي أوائل عام 1928 بدأ السيد عبد العزيز البغدادي، صاحب شركة الدخان العراقية، الذي أراد الترويج لبضاعته والدعاية لمنتجات شركته بإجراء المسابقات عن طريق جمع أغلفة علب السكائر التي كانت الشركة المذكورة تنتجها، وكانت الجائزة الأولى عبارة عن: جهاز راديو للفائز الأول. وهكذا دخلت أجهزةالاستقبال الإذاعية لأول مرة إلى العراق، ثم كثرت تلك الأجهزة بعدة طرق منها الاستيراد الشخصي لبعض الميسورين.

أقدم التاجر حافظ القاضي بتشجيع من شقيق له هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية يدعى مصطفى القاضي على عقد صفقة مع الشركة الأمريكية (R.C.A) لإستيراد أجهزة راديو ذات ماركة واحدة، ومن حجوم مختلفة، تبدأ من حجم(5) مصابيح، وكان التعبير عن الحجوم بعدد المصابيح وليس كما هو ألان، إذ يحدد الحجم ألان "ترانزستور"، اذ احتل الجهاز الجديد مكانة مرموقة لدى المواطنين، وأزاح إلى حد كبير جهاز الأسطوانات (الفونوغراف).

تمكن قلة من المواطنين الذين زاروا بلدانا وأقطاراً مجاورة أخرى, أن يشتروا من الخارج نماذج من تلك الأجهزة, فأصبحوا يلتقطون بواسطتها عددا من الإذاعات الأجنبية، وقلة من الإذاعات العربية، منها: إذاعة القاهرة, وإذاعة القدس العربية, فانتشر خبر تلك الأجهزة لدى المواطنين العراقيين بسرعة.

كما انتشرت تلك الأجهزة عن طريق شركات الاستيراد، ويبدو إن شركة (فيلبس) البريطانية انشات مركزا لها في بغداد آنذاك اذ اشارت إحدى الصحف عام 1930 إلى ذلك وقالت:((بأن الشركة جلبت أدوات والآت كثيرة للراديو, وإنه بإمكان المستمعين سماع إذاعات موسكو، باريس, لندن, روما, اسطنبول, بوخارست، وأن لندن ستوسع مركزها في بغداد وتقوم بتخفيض أجور إعلانات أجهزة الراديو إلى (10) روبيات)).

إنَّ عملية ترويج أجهزة الراديو بشكل واسع تمت حين نشر إعلان يشير إلى إن كثيرا ممن اقتنوا الراديو (ماركة فيلبس) ، ((يتنعمون الآن بسماع أشجى الأنغام وأحلى الموسيقى التي تعزف في لندن، وبرلين، وروما، واستنبول، وغيرها من أشهر مراكز الموسيقى في أنحاء أوربا)).

ويضيف الإعلان أنه بعد أَنْ ورد الراديو إلى العراق أصبح (بإمكانك أن تُنشط مسامعك وأنت بين أقربائك وأصدقائك بما يزيل عنك هموم الحياة: موسيقى، رقص، قطع كلاسيكية لأشهر الجوقات، وأعظم المغنين وبإمكانك أن تستعمل مكبرة الصوت (الملحقة بالراديو) في غرامافونك في أي وقت شئت، فتحصل على أنغام مكبرة لاتضاهيها أنغام الجوقات الكبرى.

يمكن الاستنتاج بأن الإذاعة كانت تسمع لأغراض ترفيهية، إذ كانت المحطات الأجنبية تكرس الكثير من وقتها للموسيقى والغناء، وأخذ الناس يقضون الأمسيات بالإستماع إلى إذاعة (القاهرة) التي أمتعتْ المستمعين بتلاوة القران الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت، فقد كان العراقيون متلهفون لسماع تلك الإذاعة على الرغم من صعوبة التقاطها، إذ كانت لاتسمع إلا ليلاً، في ذلك الوقت، وبدأت الجماهير في العراق تطالب بإنشاء محطة للإذاعة، للإطلاع على ما يجري في القطر والعالم.تتضح قيمة الراديو أكثر حين كانت شركات الدخان تتنافس فيما بينها لجذب أكبر عدد من الزبائن إلى منتوجاتهم من (السكائر) للحصول على الجوائز الثمينة وهو الراديو.

فأقدمت أحدى شركات الدخان بتقدم 12 جهازا قيمتها (5000) روبية، إلى المدخنين. مما يدل على أن سعر الراديو كان مرتفعاً. اذ بلغ (31,250) ديناراً ومائتين وخمسين فلساً، في الوقت الذي كان فيه راتب المعلم الشهري (7,500) دينارا.

بدأت بعض المقاهي الكبيرة في بغداد تؤدي دوراً ثقافياً تنويرياً رائداً، اذ قامت بنصب محطات إذاعية سلكية عن طريق وضع راديو كبير في المقهى ثم إيصاله بسلك إلى (سماعة التلفون) ، الموضوعة في غرفة أو ركن في المقهى وبذلك تتوزع الأغاني والموسيقى وتراتيل القران الكريم إلى مناطق عدة.

كانت مقهى(الحاج عزيز) في منطقة البارودية بالفضل أول مقهى في بغداد يقوم بإنشاء محطة إذاعة سلكية عام 1932، ثم توالت التجارب المماثلة في مناطق أُخرى من بغداد،ثم تبعه مقهى الحاج عبيد، حين أسس ستوديو في بيته وأوصله بسلك إلى الراديو الموجود في مقهاه الكائن على نهر دجلة في موقع عمارة (الدفتر دار الحالية) وبدا ببث الموسيقى منها عن طريق تأجير الفرق الموسيقية، وكان مقهى التبانة، قرب جامع الفضل حاول تطوير البث الإذاعي السلكي بإنشاء غرفة بث إذاعة يجلس فيها الجوق الموسيقي مع المغني الذي كان يقرا المقامات عادة وفي أوقات لاحقة كان يستضيف مجموعة من مقرئي القرآن الكريم ليقوموا بتلاوة القرآن الكريم، بينما كان كل من السيدين عبد السلام العزاوي وزكي خطاب المحامي يقرأن القرآن الكريم من تلك الإذاعة السلكية عام 1933 كما كان ثمة جهاز راديو كبير في مقهى عارف أغا في الميدان.

شهد عام1932، اهتماماً خاصاً بالراديو والإذاعة, وسبقت عملية البث محاولات لتوضيح أهمية البث ودوره، ومن ذلك ماأعلنته الصحف عن قيام مهندس اللاسلكي في دائرة البريد والبرق المستر (برات)، بإلقاء محاضرة عن أجهزة الراديو،أو مثلما كانت تسمى بـ (آخذات الراديو) والتي القاها في قاعة المدرسة الثانوية المركزية. كانت تلك الإذاعات السلكية المحلية الخاصة تعمل بحرية، نظراً لعدم وجود قانون يمنع أو يحدد البرنامج الإذاعي الذي يبث-آنذاك-, ولما كانت الإذاعة من أهم وسائط الاتصال الضرورية التي تؤدي خدمات كبيرة للدول في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لذلك فكرت حكومات العهد الملكي بإنشائها في بداية الثلاثينيات.

عن رسالة(توجهات الإذاعة العراقية الوطنية 1936-1958)