رحيل مفكر كبير خدم الثقافة العربية من المحيط الى الخليج

Wednesday 5th of January 2022 12:05:40 AM ,
5099 (منارات)
منارات ,

د. سليمان إبراهيم العسكري

برحيل الدكتور جابر عصفور فقدنا صديقا عزيزا، جمعت بيننا صداقة وثيقة على مدى عدة عقود، وبينها الفترة التي قضاها في الكويت أستاذا للنقد والأدب في جامعة الكويت، أسهم خلالها في تعليم جيل من طلبة الأدب في جامعة الكويت، وفي الحراك الثقافي والأدبي في الكويت، وترك أثرا بارزا في هذا السياق.

كما فقدت الثقافة العربية رجلا من أبرز من خدموها، أستاذا أكاديميا، وناقدا مرموقا، ورئيسا لتحرير مجلات ثقافية رصينة مثل مجلة فصول التي قدمت نموذجا رفيعا للمجلات المتخصصة في النقد الأدبي في أرجاء العالم العربي، إضافة لدوره البارز أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، وهي فترة مشهودة في تاريخ الثقافة في مصر والعالم العربي بفضل ما أنجزه خلالها من مشروعات ثقافية وأدبية ضخمة، وفعاليات أشاعت مناخا من التنوير والتفاعل الثقافي والفكري العربي، ليس في مصر فقط بل وفي أرجاء المنطقة العربية. مؤكدا على قدرات كبيرة في إدارة العمل الثقافي، بدقة ودأب، وبشمولية.

فقد كان جابر عصفور رجل الثقافة العربية بامتياز، إذ أن كتاباته ومنطلقاته كلها تصب في نهر الثقافة العربية القومية. ولن ينسى له دوره وجهوده الكبيرة في لم شمل المثقفين العرب واعادتهم إلى مصر بعد القطيعة التي تسبب فيها السادات بزيارته للكنيس الإسرائيلي بعد حرب اكتوبر.

وقد كرس البعد العربي بشكل لافت في العديد من الفعاليات والمؤتمرات الكبرى التي أقامها فكانت بمثابة تجمعات عربية ثقافية كبيرة، يحضر فيها الأدباء والمفكرون العرب من المحيط إلى الخليج بلا مبالغة. بالإضافة إلى تأسيس جوائز بينها جائزة الرواية العربية التي أراد بها أن يستعيد دور مصر كحاضنة للثقافة العربية بكل روافدها، وبحيث تكون جائزة كبيرة لها أهميتها تمنح على كامل منجزات أديب عربي يتم اختياره بواسطة لجان على أعلى مستوى الأمانة والمصداقية. وخصوصا وأنه كان قد أعلن كثيرا عن اعتباره لدور طه حسين في الثقافة العربية دورا يتمنى أن يحتذي به، خصوصا وهو تلميذ سهير القلماوي تلميذة طه حسين التي لطالما ما عبر عن اعتزازه بها.

والحقيقة أنني كنت شاهدا على الكثير مما قام به من مجهود ضخم ومضن من خلال توليه أمانة المجلس الأعلى للثقافة من ندوات ولقاءات واصدارات، وكافة ألوان الأنشطة الثقافية العربية وعلى مدار سنوات. ونجح في إعادة العرب لمعرض الكتاب في القاهرة. وجعل منه ملتقى عربيا يلتقي فيه أكبر عدد من الأدباء العرب سنويا. وهو ما جاء عقب تأسيس المركز القومي للترجمة الذي أراد به أن يوجد مركزا نشطا لترجمة أهم ما ينتجه الغرب من معارف، بسبب يقينه في دور الترجمة كوسيلة للتعرف على الآخر، ودورها الهائل في النهضة الثقافية لأي مجتمع، واستعادة لدور مصر في الترجمة الذي تأسس في الستينيات وما قبلها في سلاسل شهيرة كانت منتشرة في أرجاء العالم العربي.

وقد كان رحمه الله، حريصا على الإسهام في أي نشاط ثقافي عربي، معتزا بالثقافة العربية أينما كان موقع الحراك الذي تقدمه. وكنا في مجلة العربي نعده عرابا نعتز بوجوده بيننا في ندوات العربي السنوية التي كنا نقيمها خلال فترة توليَّ رئاسة تحرير العربي، تقديرا لهذا الدور الرائد، واعتزازا من دولة الكويت بمنجزه وإسهامه وكان قلمه بين أبرز الأقلام التي نعتز بوجودها في المجلة.

وقد كان ذلك كله جانب من نشاطه الفكري والنقدي، والذي تجلى من خلال اصداراته المصرية والعربية، وكتاباته في الفكر والنقد الأدبي والثقافي، ومقالاته الجريئة في الدعوة للتنوير وإصلاح المؤسسات التي كانت تدعم الجمود الفكري، وتساعد على إيجاد بيئة حاضنة للتشدد والتعصب، وكانت له معارك مشهودة ضد الأزهر، وضد التيارات الرجعية.

ولعل أهم ما يجب أن نحرص عليه اليوم الدعوة لاستعادة كل كتاباته وإعادة إصدارها، سواء كانت كتبه التي سبق له نشرها من قبل، أو المقالات التي كان ينشرها بشكل منتظم في الأهرام، وفي غيرها من الإصدارات العربية بطبيعة الحال، لكي يمتح القارئ العربي الفرصة للتعرف على مشروع هذا المثقف المستنير، وخاصة للأجيال الجديدة.

رحمه الله بواسع رحمته وأسكنه جناته، وأثابه على ما قدم لأمته من عمل وما خلف للأجيال من تراث.