هكذا أصدرنا جريدة البلاد مع ثورة 14 تموز 1958

Sunday 14th of November 2021 11:24:29 PM ,
5064 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د. فائق بطي

عدت الى الدار بعد ان انتهيت من العمل في الجريدة في ساعة متأخرة من الليل، وكانت المعارك في بيروت على اشدها، والمانشيت الذي كان سيتصدر عدد (البلاد) في 14 تموز هو «الرصاص يلعلع في شوارع بيروت»، واذا به يلعلع في سماء بغداد في فجر ذلك اليوم التاريخي، ليذاع في الساعة الخامسة والدقيقة الخامسة بيان الثورة الاول، بتوقيع الزعيم الركن عبد الكريم قاسم القائد العام للقوات الوطنية المسلحة.

تجمع “الفرسان الأربعة” كما يحلو للفنانة المعروفة عفيفة اسكندر، صديقة الوالد والسياسيين والأدباء، أن تصفنا نحن الإخوة، تجمعوا في الساعة السادسة صبيحة ذلك اليوم في دار الوالدة في عرصات الهندية، لينطلقوا من هناك إلى مقر جريدتهم (البلاد) في ساحة السراي - محلة جديد حسن باشا - خلف جامع الملك، وكان العمال يتوافدون توا إلى المطبعة، والفرحة بادية على وجوههم، وما ان ولج الفرسان الى داخل الدار واحدا بعد الآخر، حتى انهالت عليهم القبلات، والكل يهنئ بالثورة، ثم التفت العامل علي عزاوي إلى الأخ الأكبر بديع، وسأله إن كانت الجريدة سوف تصدر في الغد، فبادرت إلى الجواب مؤكدا ضرورة صدورها لتدوّن تاريخ هذا اليوم العظيم الذي كنا ننتظره، ولنصّور فرحة الشعب بتأسيس الجمهورية العراقية.

في الساعة الرابعة عصرا، اذيع بيان حظر التجوال في كل أرجاء بغداد، رغم احتلال الشوارع من قبل الجموع الهادرة وهي تهتف للثورة ولقائدها الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان عليّ واخوتي ان نقرر ان كنا سنواصل العمل، والساعة قد قاربت السادسة، والشوارع بدت خالية الا من العساكر والشرطة، فطلبت من بديع وكمال وسامي العودة الى دورهم، وان اتولى القضية شخصيا.

ذهبت الى دار الاذاعة في منطقة الصالحية، وكان الضباط الأحرار يحتلونها، ودخلت على احد الضباط برتبة رائد، وعرّفته بشخصيتي، مستفسرا منه عن امكانية الحصول على وثيقة “عدم تعرّض”، فنهض وعانقني وطبع قبلة على كتفي، وقال: اذهب واصدر جريدتنا (البلاد)، فهي جريدة الزعيم وحركة الضباط الأحرار، وهي المدرسة التي انتهلنا منها الوطنية العراقية الصادقة.

أمسكت بالوثيقة فرحا، واتجهت إلى دار صالح سلمان، ثم إلى منزل صادق الصائغ، وأخيرا إلى سكن العامل اللبناني جوزيف ابو جان، ومنضد الحروف اللبناني حسن، واتجهنا في الساعة الثامنة الى الجريدة، حيث تولى صالح سلمان تحرير البيانات التي أذيعت من إذاعة بغداد، إلى جانب كتابة تحقيق عن الساعات الأولى للثورة، وكتبت أنا الافتتاحية ومقالا آخر عمّا نريده من هذه الثورة، وأنامل العامل حسن تنضد ما نكتب، ثم امسك صادق الصائغ بمشرطه ليخط المانشيت الرئيسي (الثورة) الذي احتل نصف الصفحة الأولى بخط جميل وهو يحفره على قطعة البلاستيك المستعملة آنذاك في المطابع، ثم يخط العنوان الثاني (عبد الناصر يهنئ شعب العراق)، وأخيرا أدار أبو جان عجلة ماكنة الطباعة لتخرج (البلاد) بأربع صفحات، ولتكون الجريدة الوحيدة التي صدرت في اليوم الثاني للثورة.

لم اترك الجريدة منذ ان دخلتها مساء، حتى انبلاج الفجر، حين بدأت الجماهير تملأ الشوارع وهي ترفع اللافتات والشعارات التي تهنئ بالثورة وتطالب بالديمقراطية، وتهتف بحياة القائد عبد الكريم قاسم.

كنت أفكر بالمقال الثاني من سلسلة “هذه ثورتنا.. حصيلة كفاح طويل مرير”، حين دخل عليّ عبد اللطيف حبيب، سكرتير التحرير، ليبشرني بمقتل نوري السعيد في منطقة البتاويين وهو متنكر بالعباءة النسائية، على يد عريف في القوة الجوية. طلبت منه أن يرافقني إلى وزارة الدفاع التي لا تبعد عن الجريدة سوى امتار، لنرصد الخبر وماذا يجري هناك. عبد الكريم قاسم يهبط السلالم وفي يده غدارة بور سعيد، ليرى بأم عينيه جثة نوري ملقاة على سقيفة سيارة الاجرة، حينها التفت الزعيم الى مرافقه الامين وصفي طاهر، وقال له: الان نجحت الثورة.

عدت الى إدارة الجريدة وكان الأخوة قد وصلوا توا اليها، ليخبروني بان جثة السعيد تسحل في شارع الرشيد. لم استسغ هذا العمل وقد شاهدت في اليوم الاول للثورة جثثا اخرى تسحل وتعلق في شرفة احد الفنادق في صوب الكرخ، وهي جثة الوصي على عرش العراق السابق، عبد الاله، وغيره من ساسة البلاد من حكام العهد الملكي. وما هي الا دقائق، حتى ولج الى غرفتي ضابط برتبة نقيب وهو يسلمني رزمة من صور العائلة الملكية وبعض شخصيات الحكم، وباوضاع غير محافظة، وطلب مني نشرها في العدد الذي سوف يصدر بالغد. شكرت الضابط الثائر، واعتذرت منه عن نشر تلك الصور، وقلت له بأن الثورة جاءت لتفتح عهدا جديدا في تاريخ الجمهورية الوليدة، لا أن تنتقم بالصور والفضائح من أقطاب العهد المباد، وقد قضى بعضهم، والبقية تقبع في سجون الثورة. كبّر فيّ الضابط هذه الروحية، وانسحب من الإدارة، عائدا إلى مقر إذاعة بغداد.

صدرت الجريدة في اليوم الثالث للثورة وقد احتل المانشيت الرئيسي مساحة نصف الصفحة الأولى: “مصرع الخائن”، وليكون العدد الرابع (17 تموز) مزينا بصورة الزعيم عبد الكريم قاسم في وسط اول حديث يدلي به الى (البلاد)، بينما نائبه ووزير الداخلية العقيد الركن عبد السلام عارف يجوب مدن الناصرية والعمارة والكوت مع عدد من أقطاب وصحفي حزب البعث العربي الاشتراكي، (الوزير فؤاد الركابي والصحفي معاذ عبد الرحيم) وهو يدعو إلى الوحدة العربية الفورية مع مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة).

قائد الثورة يحيي الجماهير من سطح وزارة الدفاع المطل على شارع الرشيد.

مواكب ومواكب وجموع هادرة من الناس تهتف بحياة قاسم.

راديو بغداد يواصل بث الأناشيد الوطنية التي أهداها له عبد الرزاق المسعودي.

برقيات التأييد ونصرة الثورة تترى على الصحف وراديو وتلفزيون بغداد.

افراد الجيش الوطني يعودون الى ثكناتهم في معسكري الرشيد والوشاش.

كل الناس يستبشرون خيرا من العهد الجديد.

رن الهاتف في غرفتي مبكرا، ليطلب مني وصفي طاهر التواجد في وزارة الدفاع في العاشرة لحضور المؤتمر الصحفي الذي سيعقده الزعيم، وهو أول مؤتمر يدعو إليه بعد نجاح الثورة المباركة. فرحت جدا لسببين. الأول، مقابلة قائد الثورة وجها لوجه. والثاني، الفرصة للتعرف عليه وكان قد خصّ (البلاد) باول حديث قبل يومين، ويؤكد لمرافقه الأمين وصفي طاهر، انه يعتبر (البلاد) جريدته ولسان ثورة 14 تموز، وكذلك للاطلاع على رأيه بالجريدة، وتعميق اللحمة بين قيادة الثورة وبين الصحفيين.

دخلت إلى غرفة الاجتماع، وكنت أول من يحضر المؤتمر، فوجدت الزعيم جالسا في صدر الغرفة وأمامه منضدة مستطيلة كبيرة، وضعت عليها ثلاث سماعات صوتية، فاتجهت إليه لمصافحته، وأنا اعرّفه بنفسي، فابتسم ابتسامة جميلة، وقال: أهلا بابن البلاد، وأجلسني إلى جانب وزير الإرشاد محمد صديق شنشل.

أطال النظر إليّ وكأنه يريد أن يقول لي شيئا، إلا انه التفت إلى الوزير مستفسرا منه عن موعد المؤتمر ومتى يحضر الصحفيون العراقيون والأجانب؟..

عن كتاب ( عراقيون في الوجدان )