الأب الشاعر يوسف سعيد الهائم في مملكة الشعر

Thursday 14th of October 2021 12:23:27 AM ,
5043 (عراقيون)
عراقيون ,

جلال زنكابادي

“على طريقتين نعرف اللّه،

اللّه الذي نتعصّب له الى حدّ الأنتقام، والدفاع عنه الى حدّ الأنتحاروابادة الآخرين. هذا اللّه لم أتعرّف عليه بعد…

وحتّى تتمتّع بحريّة اللفظة، وتحصل على لغة مجنّحة ؛ عليك أن ترتدي تاج المحبّة وتتقمّص اله المحبّة”

هكذا أجاب أبونا االشاعر يوسف سعيد؛ اذ سأله الأديب المعروف عبدالقادر الجنابي، كيف يمكنه كتابة الشعر؛ وهو راع في كنيسة؟!

لعلّ أهم ما تنطوي عليه عبارة أبوناهو عمق ايمانه بالتسامح، الذي يمثّل جوهر ما يستوجبه الأبداع الأنساني؛ مادامت (الجريمة والعبقريّة لن تلتقيا أبداً) على قول بوشكين العظيم

لئن خلق اللّه أبونا يوسف سعيد لأرشاد عباده الى مملكة الأيمان؛ فقد خلقه أيضاً ليهيم في مملكة الشعر بكل تضاريسها، حتّى اختلطت فروضه الدينية بتفانيه من أجل الشعر، الى حد تحويل الكنيسة، التى كان راعيها في كركوك الى خلية، يتناقش فيها شعراء ماركسيون…..!!حيث كان يسعى للسماح للشعر؛ كي يكون سكرة إلحاد، في بيت اللّه، على أن تكون كل قصيدة طبقة باطنة للأيمان، تفاحة تسقط من شجرة الخيال على فراش الأولياء! لكن هذا المسعى لرأب الصدع بين السماء والأرض، بين الشّك واليقين، بين العدم وجنّة عدن، في حقيقته (لغم معبّأ ببارود الكلمة !) على حدّ تعبيره هو؛ خصوصاً وأنه يستخدم التقنيات السوريالية (المعروفة كحركة إلحادية)!

حقّاً أن الأب هذا أغرب شعراء الستّينيّات؛ بسماته المتميّزة، وفي ديمومة وصيرورة عطائه الحيوي؛ بحيث يمكن تنسيبه الى كل أجيال النصف الثاني من القرن الماضي ! أمّا أهم ما بلور تكوينه ومهّد لحظوره المشهود؛ فهو- حسب اعترافه- التقاؤه الحميم والصميمي ب(جماعة كركوك *) التي كان لها الدور الأساسي، في تطوره الشعري، اذ كان طموحاً نحو الكلاسيكيات (الاّ أنهم أعادوني الى الواقعية الحديثة. ما يدهش الى اليوم، هو أن هؤلاء جميعاً، حين التقيت بهم، كانوا في قلب الثقافة العالمية، يبحثون عن الجديد، واحدهم يحمل اكتشافه الى الآخرين، دون أن يفصلهم أيّ انتماء ديني، أوقومي، أوسياسي. انهم بالفعل أعز أصدقائي، وبدونهم لاأستطيع أن أتخيّل الآن كيف كنت سأتطور، أو ماذا كان سيكون أسلوبي وتفكيري في الحياة…) كما اعترف بنفسه.

ان أجمل اغراء وجده أبونا، في الشعر المعاصر(الشعر الذي ينبثق من حنجرة الأنسان، ويحمل ذبذبات عدّة، هو الأستفهام والسؤال، السؤال عبارة عن اضمامة يد تطرق على بوّابة اللّه، تريد أن تطرق باباً؛ لتسمع صوتاً. اذا لم تضرب على طبل؛ فلن تسمع ايقاعاً، واذا لم تتحرّك أصابعك على ناي أو شبّابة؛ فانك لن تسمع نغمة …الرياح المتحرّكة، العواصف، الأستفسارات، النقاشات مع الربوبيّة، الأصوات في الغابة، في الليل، أصوات الحياة هذه كلها هي الشعر. أرتاح عندما أكتب؛ كأنني أبحث عبر خلجان اللاّهوت عن أجوبة لأسئلتي، لحيرتي، ولما يعتمل في داخلي وفي رأسي. اذاً، القراءة اللاّهوتيّة تثير أسئلة أيضاً، أي أنها لاتعطي ثوابت أبديّة وحسب. من هنا نجد أن قرّاءاً عظاماً توصّلوا الى التصوف والى التعمّق في التفكير حول الحياة وما يحيط بها من كون لانهائي) حسب استقصاء أبونا نفسه.

يتّسم شعر أبونا بأحداثه الصدمة والدهشة الشديدتين عند التلقّي؛ لغرابة صوره، النابعة من كيمياء البارادوكس (المفارقة) في تكوينها القائم على علاقات غير مألوفة وغير متوقّعة بين المفردات:

قال نثنائيل:

– أدعية التنّين ابتلعت أقدام عطارد

في الصباح أشرب أفكاري

وفي المساء أتعشّى صحو النجوم

من عينيّ اللّه تهطل جملة

سرمديّة)

من قصيدة(تصعيد)

(نصف القمر تضاجعه في السر

حيتان كهربائيّة

والنصف الباقي مذكرة ذهنيّة صاعدة الى الريح الخضراء

وعجين عبقريّته أسطورة متفتّحة فوق أقدام الظلام)

من قصيدة(أسواق للضوء الآتي من القمر)

-(العواصف المجنونة تحمل غثيان الرّوابي)

-(الخضرة ترتشف جنون القاطرة)

-(أنين العجلة يطارد الجماهير)

-(تسافرالبحار الى عينيّ سمكة)

سأكتفي بهذه الأمثلة؛ مادامت القصائد والشذرات الشعرية ستلي المقالة، والتي تجتذبنا بمنطقهاالباطني، الذي ينظم شتيت مفرداتهاوصورها!

يقيناً أن أبونا قد تأثّر في نزوعه هذا بالِشعراء السورياليين، لاسيما وأن أحد أساطينها الكبار، وهو الشاعر الفرنسي بيير ريفيردي قد أطلق مقولته الذائعة، التي استحالت منطلقاً لشعريّة القرن العشرين، ومفادها:- (كلّما كانت علاقات الشّيئين، المقرّب بينهمابعيدة وصائبة؛ قويت الصورة وقوي تأثيرها في تحريك العاطفة، واشتدّ انتماؤها الى الشاعريّة)

ومع ذلك ليست سوريالية أبونا مستنسخة عن السوريالية الغربية، وانّما هي سوريالية عراقية – شرقية أصيلة بلحمتها وسداتها؛ لكونها نابعة من معطيات واقعنا، الذي يتعدّى بكل بداهة سوريالية الغرب المتخيّلة!!!

لم ألتق أبوناالشاعر غير بضع مرات، منذ أواخر 1985، ومع ذلك سرعان ما توثّقت عرى المودّة بيننا؛ كأننا متصادقان منذ سنين طويلة، فقد اجتذبني الشيخ المتألّق بروحيّته الشابة، أمّا هو فقد سحرته قصيدتي (يا أجمل من الجمال) حتّى أنه كان يردّد اهداءها(الى أرواح الكراسي الفارغة)، ثمّ طالما كان يرجوني أن أغني بعض المقامات العراقية والأغاني الكردية والفارسية والتركمانية والأفغانية، بل وطلب مني غير مرّة أن أزوّده بشريط غنائي ؛ ليستأنس به في المهجر، مستحضراًًعبره الأجواء العراقية والكردستانية،لاسيما أثناء كتابته لقصائده، غير أني لم أفلح للأسف في تلبية طلبه وقتئذ، وانّما زوّدته بأكثر من 70 قصيدة كردية مترجمة من قبلي الى العربية(كل قصيدة لشاعر) سرّ بها كثيراً؛ حدّ طبعها على الآلة الكاتبة بنفسه في السويد، وتوزيع نسخ منها على الآخرين، حسبما أخبرني بذلك لاحقاً؛ وبذلك فقد قدّم لنا خدمة جليلة، اذ أوصل صوتنا الرازح تحت كابوس الفاشية العفلقية والدكتاتورية الهمجية الى الخارج، في تلك الظروف العصيبة..