عبد الرزاق قرنح: دور الأدب في العالم أن يتقدم بالإنسانية

Wednesday 13th of October 2021 12:13:21 AM ,
5042 (منارات)
منارات ,

حوار: فابيان روث ـ مارا هولزنتال ـ ليزا زينجل ـ

ترجمة: أحمد شافعي

ولد عبد الرزاق قرنح في عام 1948، ونشأ في زنجبار. في عام 1968 هاجر إلى جزيرة أخرى هي المملكة المتحدة بهدف الدراسة. وبعد إقامة لسنتين في جامعة باييرو في نيجيريا رجع إلى بريطانيا ليحصل على درجة الدكتوراه سنة 1982 في جامعة كِنْت حيث يعمل حتى الآن أستاذا للغة الإنجليزية والأدب ما بعد الكولونيالي ومديرا لقسم اللغة الإنجليزية بالدراسات العليا.

كتب إلى حد الآن سبع روايات والكثير من الإصدارات الأكاديمية التي تتركز بصفة خاصة في دراسات ما بعد الكولونيالية والأدب في منطقة المحيط الهندي والأدب الكاريبي. قام بتحرير كتابي مقالات عن الكتابة الإفريقية ونشر مقالات عن عدد من الكتاب ما بعد الكولونياليين. وهو محرر كتاب «دليل أدب سلمان رشدي» (كمبريدج 2007) ومحرر مساعد لجريدة وسافيري. وقد رشح مرتين لجائزة بوكر.

تتناول رواياته غالبا تجارب الهجرة (وبخاصة إلى المملكة المتحدة)، والنزوح، والذاكرة، والهويات العابرة للثقافات. ومواضيع كتبه واللغة التي يستعملها (أي الإنجليزية والسواحيلية) مثالان على عبور الثقافات والهويات الهجينية في أدبه (وكذلك في حياته وعمله أكاديميا وروائيا بصفة عامة، وفي كتبه وقصصه نفسها). ويبدو أن لسردية البحر أهمية عنده، ليس فقط بسبب هجرته من زنجبار إلى المملكة المتحدة، بل كصورة عامة لرحلات الهجرة في شرق إفريقيا والمحيط الهندي وأوروبا والكاريبي.

ـ كيف ترى التصنيفات واللافتات من قبيل «الأدب العالمي» و«الأدب ما بعد الكولنيالي» و«أدب الجنوب العالمي»؟ هل تعتقد أنها لازمة أو مهمة أو نافعة في توصيف الأدب بعامة أو كتابتك أنت؟ وهل تعد نفسك كاتبا تنطبق عليه هذه اللافتات؟

ـ هي بالطبع نافعة. ونفعها في المقام الأول يرجع إلى أسباب مؤسسية. بوسع المرء أن يستعملها للمقارنة بين البرامج الدراسية، ولأغراض تسويقية، وللنشر، لأنك من خلالها تشير للناس إلى شيء قد يكون موضع اهتمام لديهم. ولكني لست متأكدا مما لو أنها نافعة في ذاتها، فضلا عن غرضها التنظيمي. ولست لأستعمل هذه اللافتات في وصف نفسي إذ هي لا تعكس جانبا من خصائص أو عملية إنتاج الثقافة. هي نافعة في وصف الأدب والقدرة على تنظيمه، وتيسيره للنقد ما بعد الكولنيالي، وقول شيء عنه وتحديد أنماط فيه. في المقابل تحدُّ هذه اللافتات من تأويل هذا النوع من الأدب بطريقة ما، لأنها تحتوي ما هو أكثر من الوصف.

ـ إذن هل تقول عن نفسك: إنك كاتب أدب ما بعد كولونيالي أو عالمي؟

ـ لا أستعمل أيا من الوصفين. ولا أصف نفسي بكاتب من أي نوع. والحق أنني لست متأكدا إن كان بوسعي أن أطلق على نفسي أي شيء عدا اسمي. أتصور لو أن شخصا تحداني في ذلك، فسيكون الأمر أشبه بطريقة أخرى لقوله «أأنت واحد من أولئك الـ...؟» ولعلي حينئذ أقول «لا». أنا بدقة لا أريد جزءا مني أن يختزلني. في المقابل يتوقف الأمر على طريقة طرح هذا السؤال، فعلى سبيل المثال قد يسأل صحفي في حوار «هل أنت كاتب أدب عالمي؟»، فما الذي سوف يكتبه حينما يبتعد عني؟ لكني لست ذلك. أنا شيء من هذا لكنه أكثر تعقيدا.

ـ هل هذا الوصف ضروري؟

ـ ليس كذلك وفقا للطريقة التي أفكر بها في نفسي، لكنه قد يكون كذلك لصحفي، قد يثبتني على لوحه ويقول هذا كاتب أدب عالمي. هكذا أطلق عليه. ثمة نزعات طبيعية إلى مقاومة هذه الأنواع من الجماعات عند محاولة تقديم إجابة معقدة كالتي أحاول تقديمها لك الآن.

ـ سؤالنا التالي وثيق الصلة بالسؤال السابق: غالبا ما تقسم الثقافة العالمية فتنسب إلى نصفي الكوكب الجنوبي والشمالي. كيف ترى هذه اللافتات، وبخاصة في ما يتعلق بالأدب؟

ـ العالم حقيقة لا يُرى منقسما إلى شمال وجنوب، لكن وصفه على هذا النحو يبدو رائجا. سبق أن بُذلت مساع لاستعمال كلمات مختلفة مثل «العالم الثالث» و«العالم المتخلف»، وتبدو تقسيمة الشمال والجنوب أرق وقعا من غيرها. ولكنها تحاول أن تصف واقعا، واختلافات تاريخية، لتتخلص في النهاية من كلمة قبيحة، هي «الكولونيالية»، فمن الأفضل أن تستعمل الشمال/الجنوب، للحديث عن هذه المواضيع. لقد عززت الإمبريالية التاريخية هذه الاختلافات بين ما يعرف بالشمال والجنوب واستمرت في عمل ذلك بسبب إرث، في ما أفترض، من تلك الاختلافات الكولونيالية، كل هذه الاختلافات أسستها الكولونيالية ورسختها. لذلك يروق لي القول إن هناك اختلافات، وبرغم أن كلمتي الشمال والجنوب ليستا في غاية الدقة، فهما تبدوان أحدث السبل لوصف هذه الاختلافات وأقربها من الطبيعية. لا ينبغي النظر إلى هذه الصفات باعتبارها فضاءات مكانية فهي تتعلق بمواقف، وفهم، وتوقعات وما إلى ذلك. فوارد تماما أن تجد أجزاء في الصين ثرية ثراء الغرب وأجزاء ليست كذلك. ليست المسألة بالفعل مسألة فضاء مكاني. عندما تحاول أن تبقى بين بين، فالكلام حينئذ يكون عن الفضاء المكاني، وعندما لا يتعلق البين بين بما «بين» الشمال والجنوب ولكن بنوع من الموقع الوسطي أو غير المحدد بين هذين اللافتتين، ففي هذا الموضع، حسبما أفترض، تضعون أنفسكم موضع الليبراليين إذ تحاولون رؤية أنفسكم بوصفكم منتمين إلى العالم ومن ثم بشرا. غير أن ثمة اختلافات حقيقية، لنقل إنها ترجع إلى نوعية الحياة التي تعيشونها، سواء أنتم من الشمال أم من الجنوب، سوف تختلف حياتنا أردتم ذلك أم لم تريدوه. في هذه الثقافة توفر لكم الدولة والمجتمع والثقافة أشياء دون أن تبذلوا أي شيء في مقابلها، من قبيل المستشفيات والمدارس ورواتب الرفاه وغيرها كثير. في بلاد أخرى لا يوجد أي شيء من هذا القبيل، ومن ثم فهذا فارق ملموس بين مكانين، ناتج عن أشياء كثيرة، من مختلف أنواع الأحداث التاريخية التي أفرزت مجتمعات مختلفة.

ـ في ضوء الأحداث الجارية، هل تقول إن «أزمة اللاجئين» تغير الكثير؟ لو أن الناس مما يعرف ببلاد الجنوب يأتون إلى ألمانيا على سبيل المثال، فهم أيضا يغيرون ألمانيا، كما أن كثيرا من البلاد تمر بعملية تغير.

ـ أنا لا أقول إن الأمور تبقى ثابتة على وضعها إلى الأبد، فالأوضاع بالطبع تتغير. في المقابل، فإن ما أو من تعتقد أنه سوف يكون أكثر تغيرا إذا جاء مثلا مليون لاجئ إلى ألمانيا. مَن الأرجح تغيره: ألمانيا أم اللاجئون؟ هذه إذن هي إجابتي: إلى حد ما سوف يحدث اللاجئون فارقا. فعلى سبيل المثال، قال رئيس الوزراء البريطاني إنه يشترط شرطا واحدا على أي لاجئ مستقبلي هو أن يلتزم بالشروع على الفور في تعلم اللغة الإنجليزية. وفي حين أنه لا مشكلة في هذا، فإن جعله شرطا مسألة أخرى، إذ ينص على أنهم لا بد أن يصبحوا مثلنا حينما يأتون.

ـ في رأيك ما الذي يجعل الأدب العالمي مهما للمجتمع المعاصر؟ هل تعتقد أن كتاب الأدب العالمي يجب أن يقوموا بواجب معين؟ ولو أن الأمر كذلك، فكيف تعرِّف هذا الواجب؟

ـ لا أعتقد أن هذا التصنيف مقنع. بداية أحب أن أجادل قائلا: ما الذي نعنيه بذلك؟ هل نعني به الأدب الإنجليزي والفرنسي والألماني، وربما يحتوي الأدبين الفارسي القديم والصيني القديم، أو أدبا قديما آخر، أم أنه يعني أي أدب في العالم؟ ما أهمية الأدب عموما في العالم؟ بالطبع في هذه الحالة يكون الأدب العالمي مهما للجميع، فالجميع ينتجونه ويستهلكونه ويتعلمون منه.

أنا لا أعرف غير نتف ضئيلة من الأدب في العالم، لذلك لا أحب أن أصدر عليه أحكاما عامة. لا أعرف شيئا مثلا عن الأدب الصيني ولعل في العالم لغات لا أعرف بوجودها نفسه لكن لديها آدابها. ففي هذا الصدد لا أعتقد أن عبارة الأدب العالمي نافعة نفع «النقود» مثلا، لأننا نستعمل النقود كل يوم، فهي جزء من حياتي، خلافا للأدب العالمي. بالطبع بوسعك أن تستخرج كتابا من الرف وتسأل «ما رأيك في هذا؟»، في حين لا يمكن للأدب العالمي أن يكون فعل مقارنة بقدر ما يبدو.

ما واجب «الأدب العالمي»؟ مرة أخرى يتوقف الأمر على ما تعنيه بالعبارة، كما أن للسؤال بعدا أخلاقيا. دور الأدب في العالم هو أن يتقدم بالإنسانية، لكن ذلك قد يتوقف كثيرا على المجتمع المحدد. قد يقول المرء إن على الكتاب أن يتحدوا ما بداخل مجتمعهم من أفكار. قد يكون هذا التحدي لأفكار من قبيل حجم الظهور، أو أفكار العائلة، والملاءمة، والأخلاقية الجنسية، وما إلى ذلك. في المقابل، قد يرى الناس ذلك عدم انضباط وتخريبا وأمرا لا لزوم له. واجب الكتاب لا يحاكمه غير قرائهم. الأمر صعب. ويجب تركه للكاتب بدلا من محاولة الخروج بتقديرات.

ـ ما هدفك الشخصي وأنت تكتب رواياتك وتنشرها؟ هل لديك هدف مخصوص أم أن القصص تكون في رأسك فقط وتكون بحاجة فعلا إلى حكيها؟

ـ حينما يتكلم المرء عن هدف، يبدو كلامه استعراضيا. أريد فقط أن أكتب بأقصى درجة أستطيعها من الصدق، دونما محاولة لقول «شيء نبيل». ومع ذلك ثمة أشياء تشغلني وأريد أن أستكشفها وأكتب عنها. لكن لا يمكنني القول إنني أريد أن أكتب مثلا عن موضع النساء في العالم، برغم أن هذا من أكثر الأمور التي تشغلني. قد أضرب مثالا تنظيريا إن كتبت عن زفاف أختي، ولن يقول لك ذلك حقا أي شيء عن أختي. ثمة مثال ربما يكون أفضل، ويتعلق بطريقتي في الكتابة عن شيء معين، وهو روايتي «على البحر». بدأت هذه الرواية من دوافع مختلفة. حينما بلغت حرب أفغانستان ذروتها في أواخر التسعينيات، وصلت إلى لندن طائرة اختطفها أحد ركابها. كانت رحلة داخلية، ربما بين كابول وهيرات، لكن المختطف وجَّهها إلى لندن، مع توقف ربما للتزود بالوقود. في النشرة التليفزيونية أمكنني أن أرى الركاب، وقد ارتدوا بطريقة لا يبدو منها أنهم خططوا للسفر إلى أوربا بل هي طريقة الذاهبين ربما لزيارة العائلة في بلدهم، فهم أطفال وعائلات وأشخاص مختلفون، وقال المختطف للسلطات إنهم يطلبون اللجوء، وإن لم يكونوا جميعا كذلك فأغلبيتهم بالتأكيد. بعد يوم واحد طلبوا جميعا اللجوء وسألت نفسي عما كان يريده حقا ذلك الشخص الهرم بينهم. هل كان يفهم ما يطلبه؟ فاللجوء كان أمرا يخص الشباب، وفي حالة النازحين قد يمتد إلى العائلات، لكن ليس إلى كبار السن. بدأت أفكر في أسبابه، في الأسباب العامة لرحيله عن بلده الأم وطلبه اللجوء، برغم أنني بالطبع كنت قد فكرت في ذلك عموما من قبل. لكن في ذلك السياق، أي في سياق طلب شيخ اللجوء، أردت أن أعرف أي نوع من اليأس لا بد من توافره، ما الذي قد يحمل امرأ على ذلك؟ بعد يومين شاهدت برنامجا في التليفزيون، وثائقيا عن عمل ضابط الهجرة، تتبعته الكاميرا في عمله. أمكنني أن أرى ضابط الهجرة وهو يستجوب متقدما، شخصا وصل طالبا اللجوء، واهتممت بما فعله. قد يجعلك ذلك تفكر أكثر في الموضوع، ثم تتناول كتابا إذا كنت لم تهتم بالموضوع من قبل، وعندما ينهمك عقلك وتنخرط يداك في المادة فإنك تبني حالة معينة، ثم تشرع أخيرا في الكتابة. ما أقوله هو أن هذا ما حدث في «على البحر». ثم يتراكم المزيد من التفاصيل في عقلك. واستغرق الأمر معي عاما آخر أو نحو ذلك. وفي هذه الأثناء تقوم بأمور أخرى، وتتقلب المادة، وتضع ملاحظة هنا وأخرى هناك وتبدأ الكتابة ثم يأتي المزيد من التفاصيل كما تأتي أشياء أخرى عفوية. ومن ثم فإنك تكتب وأنت تعمل. تقول لنفسك «آه، ها هنا رابط بين هذا وذاك. عليك أن تدخل هذا هنا ...» وتبدأ الأمور في التطور على هذا النحو. وإذن فهذه إجابة طويلة لسؤالك.

ـ كم طال بك العمل في «على البحر»؟ فنحن على علم ببقية واجباتك طبعا، لكن في ما بين أفكارك الأولى حول هذه الرواية ونشرها، كم كانت الفترة؟

ـ صدرت الرواية في 2001 ... أعتقد أنني انتهيت من كتابتها في نهاية سنة 1999. يمكنني القول إن عملية الكتابة استغرقت سنة أو نحو ذلك، سنة وقليلا، ثم مرت سنة منذ أن قال ناشر «أوكيه أريد هذا الكتاب»، وتوقيع العقد وما إلى ذلك، وحتى ظهورها فعليا في المتاجر، ولو أن الناشر لا يجد ما يريد تغييره فيها، ولو لم تظهر حاجة إلى مراجعات إضافية. ومن ثم ففي حالة «على البحر»، مرت سنة تقريبا، لكن في بعض الأحيان قد تطول الفترة، وبخاصة بالنسبة إلى شخص مثلي كان يعيش في برايتن ويدرِّس في كانتربيري، ويتنقل بينهما كل يوم. أعتقد أنني في يوم ما لم أضطر إلى الذهاب إلى العمل ولم أستطع العمل والكتابة أيضا، خلال فترة الفصل الدراسي، فقد كنت لا أجد الطاقة. كان على الكتابة أن تنتظر توافر الفرصة، لكن الكتابة نفسها لا تستغرق بالضرورة وقتا طويلا ما أن ينتهي العمل على الأمور الأولية. التأهب يستغرق وقتا أطول، أعني تنظيم الأفكار في العقل. ولا يكاد المرء يصل إلى هذه النقطة حتى يكون على ثقة من قدرته على الشروع في الكتابة، أو هذه على الأقل هي تجربتي الشخصية، يستغرق الأمر سنة وبعض السنة، ثم يبدأ الرجاء بألا يرجع الناشر أو المحرر إليك طالبا تغيير شيء في كتابتك، لأن ذلك قد يستغرق سنة أخرى وفقا للوقت الذي يتاح لك توفيره إن كانت لديك التزامات أخرى ... قد توجد أشياء كثيرة أخرى لا يمكنك العثور على فرجات من الوقت تتجاوز ساعتين لكي ترجع إليها ثم تبدأ من جديد. والمراجعة قد تكون عملية طويلة شأن الكتابة نفسها.

ـ وأنت تفكر في ما برأسك من أفكار، أي دور تلعبه الذاكرة في العملية الإبداعية، ذاكرتك الشخصية، وربما ذاكرتك العائلية، أو أي نوع من الذاكرة الجمعية؟

ـ يعني، الأمر لا محالة يتعلق بالذاكرة، لكنها ليست بالضرورة الذاكرة بمعنى تذكر أشياء وقعت لي أو لأفراد من عائلتي. لا أعتقد أنني كتبت فعليا أي قصة تصف حقيقة وفق ذاكرة محددة، ولكنها شذرات بسيطة قد تشير إلى شيء وقع بالفعل لقريب أو لشخص أعرفه. والقصة في النهاية لا تصور الحقيقة، بل تفصيلة بسيطة قد تكون شيئا مر بي وعرفته أو سمعت به، قد يرى المرء توازيات وصلات، برغم أن ذلك قد يتوقف على القصة التي يكتبها. كاتب القصص ذات القوالب البنائية المحددة أشبه بكاتب الروايات البوليسية، الروايات الدراماتيكية التي يلزم فيها أن تحدث أمور، هذا الكاتب قد يمارس هذا على نحو يختلف عن كاتب لا يتبع بناءات شكلية محددة. لا يحدث الأمر وكأنك تقول لنفسك «هذه قصة لطيفة، سوف أستعملها»، لكنك قد ترى رابطا بأفكارك، شيئا قد يفسر آخر في عقلك أو يوسع فهمك له، وتمضي الأمور. المشكلة تكمن في أنه ـ خلال تلك العملية ـ قد يحدث أن تفقد الإحساس بما حدث فعليا أو ما تخيلت أنت أنه حدث، وفي بعض الأحيان قد تتصور أن أشياء معينة حدثت وهي في الواقع لم تحدث، وإنما أنت اختلقتها، أو يقول لك الناس إن أشياء معينة حدثت وتنفي لهم ذلك لأنك غيرت ذاكرتك في ما يتعلق بها. قد يقارن هذا مع الأحلام: إذا تخيلت شيئا ثم صار لك حقيقة ولم يفنده أحد فإنه بعد ست سنوات مثلا يصير الحقيقة. وتنسى القصة الحقيقية، وهكذا يعمل الخيال والذاكرة، الذاكرة شديدة الأهمية، تجعل الأشياء حقيقة، لكنها لا تمنحك قصة كاملة يمكنك إدراجها في نص.

ـ كيف تصف العلاقات الجنوبية - الجنوبية في الأدب؟

ـ وصف علاقات الجنوب بالجنوب في الأدب ليس بالأمر الجديد. حينما يقول المرء إن أعمالي مهتمة بالمحيط الهندي، على سبيل المثال، فذلك بالفعل موضوع جنوبي-جنوبي، أعني فكرة التاريخ والثقافة المترابطة في منطقة المحيط الهندي، وأنا أكتب عن هذا الموضوع في أدبي منذ البداية وبصورة أحدث في أعمالي الأكاديمية. ذلك أمر مستمر، في يتعلق غالبا بأفكار عنا بوصفنا كوزموبوليتانيين غير متمركزين في الغرب، فإن بدا فجأة أنها عبارة نافعة لبعض الناس، فالحقيقة أنها قائمة منذ وقت طويل.

ـ أخيرا، هل ثمة شيء أو شخص يمكنك القول إنه أثر في أسلوب كتابتك أو اهتماماتك بكتابة الأدب بالذات؟

ـ لا يمكنني أن أقول بشيء كهذا. ربما لا يكون شيئا قلت إني أريد أن أفعله في سن معين، بل إنني وصلت إلى عمر معين وفكرت أن هذا أمر قد أحب القيام به، كالانتقال مثلا إلى إنجلترا برغم مصاعب الانتقال من مكان إلى مكان في ذلك العمر. حياة الغريب، حياة مصاعب العثور على طريق، هجر الوطن، أشياء كهذه هي التي أثرت عليّ. لست مثل فرجينيا وولف التي عرفت منذ العاشرة من العمر أنها تريد أن تكون كاتبة. الأمر أنني ذات يوم وجدت نفسي أكتب أشياء، مثلما يحدث عادة للناس، ووجدت صفحات جديدة أقيمت حول هذه الأفكار ثم وصلت إلى نقطة قلت فيها لنفسي: ما هذا؟ ما الذي سأفعله بهذا؟ وعندئذ يصل المرء إلى الفارق بين كتابة بضعة أشياء والكتابة. فأنا أكتب شيئا، ثم يكون علي أن أقوم بتنظيمه، فإذا بالأمر أكبر من الكتابة المحضة لأنه يلزم أن يخرج من أحشائك. عند نقطة ما بدأ ما كتبته يقترب شبها برواية، قد يأتي بطريقة كهذه، ثم يصير عليك أن تحاول تحسينه ولا يكاد المرء يلتزم بهذا، حتى لا يبقى له من مهرب، فيحاول أن يكون أفضل، ويحاول أن يعثر على ناشر، وإذا بك وقد أصبحت كاتبا.

عن جريدة (عمان)