جواد ولورنا ...الحب من اللقاء الاول

Wednesday 6th of October 2021 11:41:00 PM ,
5038 (عراقيون)
عراقيون ,

علي حسين

خافت الأم على ابنتها الوحيدة من العيش بمفردها في مدينة كبيرة ومزدحمة مثل لندن كانت الفتاة “ لورنا هيلز “ في السابعة عشر من عمرها قد انهت الدراسة الثانوية بنجاح وحصلت على منحة للدراسة في معهد لاعداد المعلمين ، لكنها كانت ترغب في دراسة الفنون فتقرر أن تقدم أوراقها الى كلية سيلد للفنون ، يأتي الجواب بالموافقة .

في لندن التي تدخلها للمرة الاولى تجد سكنا لدى زوجين في السبعين من العمر ، كانت لورنا قد دخلت لندن في ايلول عام 1945 ( انعام كجه جي لورنا سنواتها مع جواد سليم).

وصل جواد سليم الى لندن عام 1946 ، كان انذاك في الخامسة والعشرين من عمره ، يعاني من قصة حب فاشلة ، عندما شاهدته لورنا للمرة الاولى كان اشبه بالشاب العبثي في ملبسه وتصرفاته ، يهتم بالموسيقى ، والشعر وقراءة الروايات ، والأهم من ذلك كان لديه غيتارا ايطاليا وذات يوم فاجأ الجميع بارتدائه ثياباً اسبانية ، وقد ساهم حب الموسيقى والشعر والروايات في بناء علاقة صداقة بين الفتاة الانكليزية والشاب العراقي :” فكانا يذهبان معاً الى العروض المسرحية الراقصة حينما يتوفر لهما ثمن التذاكر ، أو يمضيان الوقت في الأحاديث الفنية “ (لورنا سنواتها مع جواد سليم) .

كان جواد سليم أول طالب عربي تتعرف عليه لورنا هيلز ، ولاحظت انه مثل معظم القادمين من الشرق ينطق اللغة الانكليزية بطريقة مختلفة وجذابة ، ولهذا شعرت منذ لقائهما الاول إنها أمام شاب يمكن أن تثق به كثيرا ، وإن صداقتهما يمكن أن تتحول الى حب في يوم من الايام ، وتخبرنا في حديثها مع انعام كجه جي إنها :” لم تقل له في ذلك الوقت انها تحبه ، ولا تذكر انه صارحها بانه يحبها او يريد أن يتزوجها ، لكنهما كانا مدركين لإحساس الحب في داخلهما ، ويشعران أن طريقهما باتت واحدة في الآتي من الايام « .

ويبدو أن لورنا كانت تشعر أن هناك ما يجذبها الى هذا الشاب الشرقي المرح ، سريع النكتة والبديهية إنها تقول :” من حظنا أننا التقينا .فلو ابديت شطارة أكبر في الفرع العلمي ، لما وصلت قدمي في سيلد يوماً».

عندما حصل جواد على شهادة التخرج عام 1949 وحان وقت عودته الى بغداد ، نجده يفكر بلورنا وحياته معها ، ويخبر اصدقاءه انه قرر الزواج منها ، وفي يوم يفاجأها بان يطلب منها ان تعرفه على أمها وابيها ، يركبان القطار الى منطقة شيفيلد التي تسكن فيها عائلة لورنا . هذه المرة يقرر جواد أن يتغلب على تردده ، وأن يعلن حبه صراحة ، وحين يواجه مشكلة مع دائرة البعثات التي تمنع الطالب من الزواج اثناء دراسته يخبر والد لورنا الذي يقول له :” عد الى بلدك أولاً ايها الشاب ، فإذا شعرت هناك انك مازلت راغبا في الزواج من ابنتي ..يكون لكل حادث حديث “ ( لورنا سنواتها مع جواد سليم).

في أحد ايام شهر ايلول من عام 1950 تصل الشابة الانكليزية النحيلة لورنا هيلز الى بغداد ، وبعد اسبوع من وصولها وجدت نفسها تقف أمام قاضي المحكمة الشرعية لتصبح زوجة أشهر فنان عراقي ولتعيش معه اجمل قصة حب تنتهي بموته المبكر وتتذكر لورنا تفاصيل اللحظات الاخيرة من حياة جواد :” كنا في سيارتنا الصغيرة التي يقودها جواد متوجهين الى شارع الجمهورية ، عندما توقف زوجي فجأة ونحن وسط إحدى المستديرات ، وقال ان يشعر بوخز في قلبه ، نزلت بسرعة لآخذ القيادة بدلاً عنه ، عدنا الى البيت واتصلت بالدكتور سالم الدملوجي ، الذي تولى نقله الى المستشفى ، مرت عشرة أيام بدا لنا خلالها إن وضع زوجي تحسن وانه تجاوز مرحلة الخطر ، لكن بدأت بعض المضاعفات تسبب حالة خطيرة ، وفي نهار 23 كانون الثاني 1961 بينما أقف الى جوار سريره احمل قنينة المغذي ، لفظ جواد أنفاسه الاخيرة في صمت وهدوء وغادرنا مسرعا كعادته للحاق بموعد ينتظره “ ( لورنا سنواتها مع جواد سليم) .

كان جواد قبل أيام قد تسلق جدار نصب الحرية الذي اوشك على الانتهاء منه ، لينظر الى عمله النظرة الاخيرة .

في واحدة من رسائله التي بعث بها الى صديقه عيسى حنا من لندن يكتب جواد سليم : نحن نعيش كأننا لا نعيش ..نعيش في انتظار شيء لم ندر ما هو .نحن مسيرون ام مخيرون ؟ يمكنك أن تكون سعيدا ، ويمكنك أن تكون شقياً أيضاً ..اقرأ في رواية لجين أوستن إن علينا أن نكون أقوياء الإرادة ونبحث بإنفسنا عن السعادة والحب والفرح كل يوم « .

هل كان جواد سليم ينظر الى الحب نظرة إفلاطونية ؟ يكتب في دفتر يومياته :” كنت لا اتصل بامرأة إلا وأفكر ما ستقودني إليه تصرفاتي في المستقبل ، فإما أن أتركها وما إنْ أتجرد من العاطفة “ يخبرنا جبرا إبراهيم جبرا ، بأن جواد سليم كان دائم البحث عن الجمال الانثوي ليتمتع بمعانيه ، وليستمد منه أعمالاً فنية .في يومياته نقرأ :” كانت الأوقات الصباحية للمعرض خاصة بالنساء ، فذهبت في أكثرها ، كنت أقضي الوقت في سماع قطع من الموسيقى والتفرج على النساء ..تلك الرقة الأنثوية الهائلة والعيون الواسعة السوداء المليئة بالرغبة المكبوتة والحياء الجذاب . وأجمل شيء لفت نظري هو هذا الرداء العجيب – العباءة – والطريقة التي يلبسن بها العباءة، وهو يتمخطرن أمام المعروضات بنعومة واهتزاز متثاقل. وهي تنزل من على رؤوسهن ثم تلتف حول أدوار الكتف وتأخذ قطعة منها في الدوران حول الذراع العاري الأسمر ويخر قسم منها إلى الأرض سابحاً حول الردفين بشكل مبهم ثم ملتفاً حول الساق الملونة “ .

( جواد سليم .. اليوميات – من كتاب الرحلة الثامنة جبرا ابراهيم جبرا) .