السلطة والتدخل في الأنتخابات.. وزارة الداخلية وانتخابات عام 1954

Sunday 3rd of October 2021 09:47:22 PM ,
5035 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

قحطان حميد العنبكي

عندما تألفت وزارة ارشد العمري في29نيسان1954،أعلنت هذه الوزارة في منهاجها بأن هدفها هو حلّ المجلس النيابي وإجراء انتخابات جديدة بحرية وحياد، وقوبل تشكيل الوزارة بردود فعل سلبية من الأحزاب والمنظمات السياسية متهمة هذه الوزارة بأنها غير مؤهلة لإجراء انتخابات حرة وذلك نظراً إلى ماضي رئيسها وأقطابها الزاخر بالأعمال التعسفية والاستفزازية الموجهة ضد الشعب وحرياته.

تمَّ تحديد يوم 9حزيران 1954موعداً لإجراء الانتخابات النيابية،فدب النشاط في أوساط الأحزاب السياسية للمشاركة في الانتخابات رغم تشكيكها في مقدرة وزارة أرشد العمري على تهيئة الشروط الملائمة لإجراء الانتخابات الحرة،واعتقادها بأنها ستلاقي مقاومةً عنيفةً من أجهزة وموظفي وزارة الداخلية.

سعياً من القوى الوطنية لكسب الانتخابات جرى تشكيل جبهة انتخابيـة ضمت أحزاب الاستقلال والوطني الديمقراطي والشيوعي ومنظمة أنصار السلام وبعض المستقلين باسم(الجبهة الوطنية).

وقفت الحكومة-بواسطة أجهزة وزارة الداخلية-بشدة لمقاومة مرشحي الجبهة الوطنية في مختلف مناطق العراق، حيث هاجمت قوات الشرطــة الاجتماعات الانتخابية للجبهة الوطنية في مناطق الحلة والنجف والسليمانية، مما أدى إلى مقتل أحد المتظاهرين في النجف،وألقت الشرطة القبض على العديد من منظمي هذه التظاهرات والاجتماعات منهــم الشيخ محمد رضا الشبيبي وإبراهيم احمد وعمر مصطفى وغيرهم والبعض منهم ظل معتقلاً ولم يطلق سراحه إلا بعد انتهاء الانتخابات.وكانت وزارة الداخلية والحكومة تدعي بان الاجتماعات الانتخابية أدت إلى الإخلال بالأمن واصفــةً إياها بأنها ذريعة يُحتج بها للحد من الحركــة الشعبية التي تجلت في تأييد مرشحيها.

اتخذت وزارة الداخلية إجراءات شديدة للمحافظة علــى الأمن فـي يوم الانتخابات، وخولت الشرطة ردع التظاهرات والحركات المخلة بالأمن التي قد يقوم بها الوطنيون والعناصر الأخرى المؤيدة للجبهة الوطنية،ومنع حمل الأسلحة النارية، وفحص المراكز الانتخابية وما يجاورها فجر يوم الانتخابات وتشديد الحراسة عليها،والمحافظة على الصناديق والأوراق الانتخابية،وأعلن وزير الداخلية اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتفادي الاضطرابات.

على الرغم من محاولات وزارة الداخلية لإنجاز الانتخابات بأقل حوادث واضطرابات، إلا إن هناك احتكاكات عديدة وقعت بين أنصار المرشحين في الكاظمية أدت إلى مقتل أحد الأشخاص، وفـي مناطق أخرى من أقضية الهنديـــة وعنه وطوزخرماتو لكن تدخل الشرطـة حال دون توسعها.

وجِهت انتقادات واسعة لوزارة الداخلية والحكومة من بعض الأحزاب والشخصيات التي اشتركت في التنافس على الفوز بالانتخابات النيابية،وقد تركزت مواطن التزوير في أماكن ثلاثة هــي:الهيئة التفتيشية،والشُعب الانتخابية،وقوائـم الناخبين، وعملية الانتخاب نفسها. وهذا الأمر ظهر بشكل واضح في انتخابات منطقة القرنة في لواء البصرة حيث لوحظ تحيز أجهزة وزارة الداخلية لصالح احمد النقيب وحميد الحمود مرشحي الحكومة وعضوي حزب الاتحاد الدستوري ضد نوري جعفر(1).

ويشير نجيب الصائغ إلى تدخل الجهاز الإداري لوزارة الداخلية في انتخابات لواء الموصل ولاسيّما مناطق القرى والأرياف((ليس للحكومة إمكانية المداخلة والتأثير على أصوات الناخبين في منطقتي بلدة الموصل، إلا أنها تتدخل بصورة سافرة في المنطقة الثالثة وهي نواحي وقرى الموصل والتي تشترك أيضاً في انتخاب النواب المسيحيين وقبل موعد إجراء الانتخابات التكميلية وبينما كنت أتجول في القرى اتصل بي بعض الناخبين واخبروني بأن الموظفين الإداريين طلبوا منهم عدم انتخاب مرشحي الجبهة الوطنية(2) وانتخاب مرشحي الحكومة..))، وتدخلت السلطات الإدارية في انتخابات مناطق بغداد وبأساليب أخرى، فقد((أخذ الموظفون الإداريون يتدخلون في أمر لجان التفتيش،بل في أمر اختيارية المحلات نفسها،فلقد استدعى متصرف لواء بغداد بعض المختارين إلى ديوانه الرسمي وأخذ منهم أختامهم وتركهم ينتظرون واخذ يوقع بأختامهم على قوائم الاثنينات والأعضاء الخمسة عشر من كل محلة كما يحلو له)).

وقد لجأت وزارة نوري السعيد إلى استصدار مراسيم مقيدة للحرية مهدت بها الأجواء اللازمة لضمان انتخاب مرشحيها،فقد أصدرت مراسيم عديدة مقيدة للحرية قبل مباشرة الانتخابات باثني عشر يوماً.إذ((نشرت الحكومة تعديلات لقانون العقوبات،وسعت في سلطاتها لمكافحة الشيوعيين واليساريين الآخرين،كما وضِع أنصار السلام والشبيبة الديمقراطية بنفس درجة الشيوعية التي كانت محرمة.وزُود مجلس الوزراء بصلاحيات نزع الجنسية عن أي عراقي يوصم بالشيوعية أو يقوم بفعاليات لها علاقة بالشيوعية، وبنفيه من البلاد.وكذلك خوّل مجلس الوزراء بسلطة إغلاق أي جمعية أو نقابة،مؤقتاً أو بصورة دائمية إذا كانت فعاليات تلك الجمعية أو النقابة مما يؤثر تأثيراً سيئاً في الأمن العام، وهذه الإجراءات..ثبطت عزم المعارضة،ومهدت الطريق إلى انتصار نوري السعيد (الكبير) في الانتخابات)).

وأشار كامل الجادرجي في مذكراته إلى عمليات تزوير الانتخابات في بغداد((.. دخل التزوير في كل المناطق تقريباً –عدا المنطقة الثالثة)) وقد بلغ التزوير شكلاً علنياً بحيث ((ان تعقب وقائعه من الأمور التي لا فائدة منها لوضوح التزوير وعلانيته..)).وفي المناطق خارج المدن والريف أجرت((السلطات(عملية الانتخاب) في الليل ولما حل يوم الانتخاب لـم يجد الناخبون صناديق الاقتراع فقـــد كانت ممتلئة وأرسلت لتصنيف الأصوات)).

ويقول علي الشرقي-الوزير بلا وزارة في وزارة أرشد العمري الثانية- في كتابه (الأحلام) ((إن أرشد العمري كان باندفاع،يشبه الهستريا،يدير الانتخابات في الظاهر بصفة حيادية، ولكن معمل الترشيح في غرفة الديوان الملكي،احمد مختار بابان،وكانت المحاولة المجيء بأكثرية بلاطية..حتى أتم الانتخابات بحسب الخطة المرسومة،وفاجأ الناس بالهزيمة إلى الأستانة)).

نتيجة لعملية تدخل وزارة الداخلية في الانتخابات لم يفز من مرشحي الجبهة الوطنية الـ(37) سوى عشرة،من بينهم(4) من مرشحي الحزب الوطني الديمقراطي وهم: كامل الجادرجي ومحمد حديد وحسين جميل (بالتزكية) وجعفر البدر،من بين (135) نائباً مجموع النواب.

وبهذا لم تختلف انتخابات حزيران 1954 النيابية عن سابقتها من حيث تدخل السلطة التنفيذية فيها بشكل مباشر أو غير مباشر لصالح مرشحي الحكومة متبعة شتى أساليب التلاعب والتدخل والتزوير.

وبعد أن أجرى أرشد العمري الانتخابات قدم استقالته في 17 حزيران 1954، وفي 26تموز 1954 اجتمع مجلس النواب واستمع إلى خطاب العرش ثم عُطل المجلس اعتباراً من 27 تموز إلى نهاية شهر تشرين الثاني،وعندما بدأ بتشكيل الوزارة نوري السعيد في3 آب 1954 اشترط عدة شروط منها حلّ المجلس النيابي وإجراء انتخابات جديدة.

حُدد يوم12 ايلول1954 موعداً لإجراء الانتخابات الجديدة في أنحاء العراق كافة. ونظراً للإجراءات التعسفية التي اتبعتها الحكومة في سياستها الداخلية،فقد قاطعت بعض الأحزاب الوطنية الانتخابات الجديدة،واشترك في هذه الانتخابات حزب الاستقلال وبعض أعضاء حزب الجبهة الشعبية بعد انشقاقه وتجميد أعماله. ويقول فريد مخلوف(صحفي لبناني) بأنه كان قد زار السليمانية أبان انتخابات ارشد العمري سنة1954 فرأى استعدادات الشرطة وأخبره مدير الشرطة آنذاك ما نصه:((إن صدري غير منشرح للوضع.إن التعليمات تَرِدُني من بغداد،والأمر بإنشاء مخافــر جديدة في المدينة ذات أقبية واستحكامات،والأسلحة والذخائر الوفيرة التي جاءتني تدل على إنني في جهة حرب)).وأشار الصحفي إلى إن السلطة كانت قد اعتقلت جميع مرشحي المعارضة في الألوية الشمالية أربيل والموصل وكركوك لضمان فوز مرشحيها.

وكثيراً ما كان المسؤولون الحكوميون يحضرون الانتخابات لإجبار الناس على انتخاب الأشخاص الموالين للسلطة. فيقول الشاهد سهيل الحاج علي(مختار محلة حاج فتحي في بغداد) وشقيقه كاظم علي بأن عبد الجبار فهمي متصرف لواء بغداد ومعه مديرو الشرطة والتحقيقات الجنائية والشعبة الخاصة كانوا يحضرون انتخابات سنة 1954 ويسجلون النواب الذين يؤيدون السلطة ويجبرون الناس على انتخابهم.

وفي أسلوب آخر،منعت وزارة الداخلية إقامة الاجتماعات الانتخابية التي كانت تقيمها الأحزاب السياسية في الانتخابات السابقة، بعد أخذ الموافقة الرسمية بعقدها،ففي جوابها على طلب حسين جميل المُقدم في23 ايار 1954حول الاستئذان بعقد اجتماع انتخابي في مقهى (حسن جدعة) في شارع الشيخ عمر،أجابته متصرفية لواء بغداد على طلبه بعدم إمكانية الموافقة وأشارت إلى:((أنَّ الاجتماعات المنعقدة في الأيام القريبة الماضية للدعاية الانتخابية قد لابستها حوادث تخل بالضبط والسكينة،ولما كان الحرص على شمول السكينة وصيانة الأمن هدفاً غالياً وواجباً تقدرون معاليكم أهميتها فقد رأينا منع عقد الاجتماعات في الظروف الراهنة بصورة عامة ولهذا نأسف بعدم الموافقة على طلبكم)).

انتهت الانتخابات التي تدخلت فيها الحكومة كالعادة،إذ كانت الوزارة عازمةً منذ البداية على أبعاد أي معارضة حقيقية عن المجلس النيابي ففاز بالتزكية(121) نائباً من أصل (135) نائباً،أما الباقون ففازوا بالانتخابات وكان منهم (12)مستقلاً و(2) من حزب الاستقلال فاستقال محمد مهدي كبه من النيابة،أما عبد المحسن الدوري فقد استقال من الحزب مفضلاً النيابة.

وبذلك نلاحظ تدخل واضح لوزارة الداخلية في هذه الانتخابات منذ بدايتها مستغلة نفوذ الموظفين الإداريين الذين كانوا يتدخلون في أمر لجان التفتيش،بل في أمر اختيارية المحلات نفسها..

عن رسالة (وزارة الداخلية 1939 ــ 1958(