عمانؤيل رسام.. للسيّاب صِلَة

Wednesday 8th of September 2021 09:17:50 PM ,
5020 (عراقيون)
عراقيون ,

د. مالك المطلبي

وأنا أعبر ببصر خيالي آلاف الأميال في هذه الكرة العجيبة، لأصل إليه، وهو في سكونه المطلق عند طبيعة خرساء(كندا)، موحشة على وفرة ألوانها وقوانينها ومصاديقها، أتكلم معه فأجد لازمة غيبوبة العراق تحتل صوته. قال لي أحدُ أهمّ من وقف وراء الكاميرا التلفزيونية العراقيّة، المصور التلفزيوني (محمد خطار) رفيقه الذي لازمه في رحلة الحياة والعمل:

كان مستعدًّا لكلّ شيء إلا بيع بيته، فتصور ما الذي كان يعتمل في صدره، حين أقدم على هذه الخطوة. أتلمّس إجابة عن حيرة المُصوّر، فلو كان وحده لتآخى مع الانفجارات الرهيبة والتهديد اليومي، آنذاك، غير أن في رقبته آخرين يتوجب عليه أنْ يمنحهم الطمأنينة، ليمنح لنفسه الموت، في أول لحظة غادر فيها العراق. سأسميه صانع الأجواء العراقية، في محترفه التلفزيوني.

معلمي أول حرف تلفزيونيّ

تعرفت (عمو) عام 1969 وكنت أعمل في الإذاعة والتلفزيون. كنت أحضر (بروفات) المسلسل الشعبي الشهير (تحت موس الحلاق). لا أريد أن أتكلم على هذا المسلسل، فنقاد الفن التلفزيوني، وما تبقى من الجمهور الذي تلقاه، يشهدان على أنه مثَّل انعطافة في بنية البرامج التلفزيونية الاجتماعية، برغم الأدوات البسيطة التي كانت متاحة آنذاك. ليثبت أنَّ جوهر الفن لا يقوم على التقنية، على أهميتها، بل يقوم على الروح الكامنة في الخلق الفنيّ. في حضوري بروفات هذا المسلسل بدأت بتلقي دروس الصناعة التلفزيونية. وما تعلمت منه هو أن الإخراج رؤية وحرفة. انعدام أي منهما، لا يحقق تلك الأعمال التي تسجّل على لائحة التأريخ. وقد استثمرت هذه اللبنة التلفزونية (الكتابة بالكاميرا وليس بالقلم)، التي زرعها فيّ، استثمرتها حين رافقت المخرج المصري الأصل العراقي النخاع (إبراهيم عبد الجليل)، في المسلسل الذي كتبته (أبو الطيب المتنبي). فكان جزءٌ من وظيفتي في هذا المسلسل، أن أقوم بدور مشورة كاتب السيناريو لهذا المخرج الكبير.

شركة بابل للإنتاج السينمائي والتلفزيوني

حين تسنم (عمانؤيل رسام) منصب المدير العام لشركة بابل للإنتاج السينمائي والتلفزيوني (وهو مؤسّسها) صار مقر الشركة بيتًا ثانيًا لنا. كانت الحوارات لا تنقطع، برغم سلطة البروبوجندا التي كانت الحياة تجري تحت سقفها. وحين حدث ما سمي الترشيق في دوائر الدولة، وكنت أعمل موظفًا في وزارة الثقافة والإعلام (دار ثقافة الأطفال)ـ قدمت طلبًا لنقلي إلى جامعة بغداد. واضطرني اشتراط وجود درجة تغطي هذا النقل، لأن أتوسط أبا عبير لدى عمادة كلية الفنون الجميلة، كان العميد هو الأستاذ (أسعد عبد الرزاق) وحين دخلت عليه، في مكتبه، وجدت (عمو) موجودًا. قال لي العميد مبتسمًا “ تعال يابه تعال. دا أتوسط عمو حتى تجي درِّس عدنا!”.

بدر شاكر السياب

في اظهيرة جامحة رنّ سلك التلفون الأرضي، كان عمو يقول لي بصوت غير مألوف: « اركب سيارتك وتعال للشركة فورًا» كان على منضدته مظروف بغلاف أجنبي. قال لي أتعرف ما بداخل هذا المظروف؟ هززت برأسي نفيًا. قال: (السياب). كان عمو يعرف اهتمامي وشغفي آنذاك بالسياب. كان المظروف يحوي شريطًا صوتيًّا (كاسيت) يضم قصائد للسياب» بصوته. جاء به أحد محترفي البيع والشراء (في تجارة الفنون) من لندن، وقد سجله السياب في ستوديوهات دار B.B.C الإذاعة البريطانية، في ذلك الوقت كان ذلك بمثابة أحد الفتوحات الفنية. لقد تلقينا السياب، طوال ثلاثة عقود، صامتًا تنطق عنه متوالية سطوره، والآن هو أمامنا حيّ بلسانه. بدأ المخطِّط في (عمو) يتكلم: أمامنا مشروعان إذاعي وتلفزيوني. اطّلع على مافيه لنبدأ بالتنفيذ.

كان الشريط يحوي عددًا من القصائد التي لم تعنون للسياب. ويبدو أن الشريط سُجّل واستثمر كمادة تدخل في مرحلة المونتاج.

قلت لأبي عبير: لكي يتم توزيع الشريط الصوتي، بكونه شريطًا للتسويق، وليس برنامجًا، يحتاج إلى عملية ترميم. ينبغي أن تُكتب مقدمة عامة تتناول محطات في حياة السياب، بلغة تعبيريّة لا تحليلية، وأن ندخل على كل قصيدة عنوانها. قال: الأمر يعتمد عليك لإنجاز ذلك. والاستوديو جاهز. أما صوت المقدّم فأنا أرشح المذيعة (أمل حسين) والإخراج (علي الأنصاري). أما مشروع التلفزيون فيحتاج إلى مدير إنتاج وسينارست ومخرج تلفزيوني. وهكذا انهمكت في إعداد

هذا الشريط.

ما هي إلا أيام حتى أصيب بنوبة قلبية، وأجريت له عملية قسطرة. زرته في البيت. رافقتني أم عبير إلى غرفته، وطلبت مني بهدوئها القلق أن تكون الزيارة خاطفة. كان متمدّدًا على السرير، قالت له مالك المطلبي جاء يزورك. رفع رأسه بوجهٍ عَلَته صفرة ما بعد العملية، لكن ابتسامته كانت تشعّ من عينيه، بادرني قائلًا: “ شنو أخبار السياب؟ قلت له أبو عبير هسه

وكت السياب! فرد: إذا مو وكت السياب لعد وكتمن؟

وهكذا كان: أنتج 500 شريط كاسيت، وتم توزيعها. وكانت الاستجابة تفوق التوقع. أما المشروع التلفزيوني فلم ير النور، بعد أن دفعت الحرب كل شيء إلى الوراء!

مدينة القواعد

في منتصف التسعينيات اقترح (عمو) عليَّ أن نعيد إحياء المسلسلين الشهيرين (مكاني من الإعراب)، و (أحلى الكلام) قال لي: مخرج مكاني من الإعراب، موجود (المخرج عماد عبد الهادي) وتقنيات الحاسوب متوفرة، والمشارك في تمويل الإنتاج فنان، بنشأة أدبية أصلا ( هيثم فتح الله)، وأنا أسخر كل إمكاناتي وإمكانات الشركة. الأمر متعلق بك فقط.

وهكذا أنتجت الشركة المسلسل الذي كان عنوانه (أشهى الموائد في مدينة القواعد)، بأربع وستين ساعة تلفزيونية، وبطاقات عراقية مبهرة. كان التصوير الداخلي في بلاتوه السينما والمسرح، حيث كانت أسرة المسلسل الكبيرة تعيش.

وأخيرًا

خلَّف (عمو) عشرات الأعمال التلفزيونية مختلفة الموضوعات، متنوعة الأبنية. أتمنى أنْ لم يلحقها الضياع. ولكني، أستطيع، بما اختزنته مشاهداتي لها، أن أخلص إلى أنها كانت أعمالًا تؤكد نزعة ورؤية (عمانؤيل رسام) في اختيار الموضوعات التي أخرجها، أو التي رعى إخراجها. كان يتطلع دائمًا إلى تجاوز اللحظة التي هو فيها. ولو كانت بلادنا بلاد مؤسسات، لوُجد مركز حقيقيّ للدراسات الفنية، وأرشيفٌ يضم كل أعمال تلك الأسماء الكبيرة، في الفنون المسرحية، والتشكيلية، والموسيقية. ولكننا بتنا نلتفت أكثر مما نتطلع. أحيانًا يأتي بعض المسؤولين، مع الاحتفاظ بحقّهم في نيّاتهم، يقومون برعاية أديب، أو فنان، أدركته حرفة الأدب (كما هو التعبير التراثي عن كناية الفقر) أو أقعده مرض، أو سُلب حق له، فتُضخّ الرسائل الالكترونية، التي تؤكد أننا بتنا في الطريق الصحيح. وهذا من وهم التمركز حول الذات. الدولة الحديثة مركّب معقّد وليس عشيرة تحل مشكلات الأفراد. ذلك هو فقه السياسة. أمّا ما نكتبه فليس سوى تنفيس مؤقت عن اختناقاتنا، وإشعار ذوي الراحلين، ببعض الراحة المفقودة.

عن جريدة الصباح