مديحة عمر والريادة الأولى

Wednesday 4th of August 2021 10:29:56 PM ,
4996 (عراقيون)
عراقيون ,

شريل داغر

يؤكّد الفنان العراقي جميل حمودي في غير مناسبة ومجال أنّه “الرائد الأول”، وهو أيضاً عنوان الكتاب الذي خصّه به الكاتب الفرنسي بول بالطا: هناك عملان حروفيان للفنان حمودي موقّعان في عام 1945، ومثبتان في هذا الكتاب، وهما محيّران، لأنّ الفنان كان قد أكّد في غير تصريح صحفي أنّه لم يبدأ تجاربه الحروفية إلاّ في عام 1947، بعد أن حلّ في باريس وتعرّف فيها على هذه التجارب الجديدة، وهو ما كتبه بنفسه أيضاً في كتاب “البعد الواحد”، حيث يقول:

“إنّ اللحظة التي وثبت فيها إلى ذهني فكرة استيحاء الحرف العربي في العمل الفني كانت في ساعتها نوعاً من الابتهال، والصلوات لنفس أفزعها الفراغ الذي ملأ الحياة الأوروبية، التي كنت حديث العهد بها. وكان الخوف من الضياع في تراث لا يمتّ لوجودي الفكري والقومي بصلة سبب الثورة التي اجتاحتني على المثل المادية الصادرة عن حضارة الآلة – الماكنة، وحضارة المادة الرخيصة فتمسّكت بالقيم الروحية التي تؤكّد على أصالة الروابط الحضارية والثقافية لوجودي؛ ولم أر أرضف وأقدس من الحرف العربي ينبوعاً آتي إليه لأشبع به عطشي للتعبير والإبداع، ملتصقاً بكلّ كيانب بتاريخية بلادي ومؤدّياً في مجال الابتكار الحديث ما يطمح إليه أيّ فنان معاصر”. إذن، هو بدأ هذه التجربة في أوروبا، وهو لم يحلّ فيها إلاّ في عام 1947، فماذا عن العملين الموقّعين في عام 1945؟ هل يعني هذا أنّ الفنان رسم هذين العملين في بغداد في محاولة فنية لم تتأكّد وتتبلور إلاّ بعد إقامته في باريس؟

الفنان الإيراني حسين زندرودي يؤكّد أيضاً بأنّه “الرائد الأول” في العالم الإسلامي، بعد أن أطلق في إيران، ابتداءً من العام 1957، “مدرسة ساغا خانه” (وهو اسم أطلقه أحد الصحفيين الإيرانيين على طريقة زندرودي الفنية، وعلى أتباعها وتلاميذها، وتقوم على استلهام الحرف في اللوحة الحديثة). لم يكن زندرودي الرائد الأول، لأنّ هناك إيرانيين آخرين، وقبل العرب، ينافسونه على هذه الأسبقية: ناصر أسار (من مواليد 1928 في طهران) الذي تميّز فنياً منذ 1953 في باريس بتخطيطاته؛ والفنان الإيراني الآخر محمد صابر فيوزي (1909-1973) الذي بدأ بتجاربه الحروفية بعد الحرب العالمية الثانية، إلاّ أنّها لم تعرض في صالة عرض قبل موته أبداً. يتّضح لنا، إذن، أنّ الفنان حمودي كان سبّاقاً أيضاً في المجال العربي؟ هناك فنانة، عراقية هي الأخرى، تنافسه على هذا اللقب: مديحة عمر.

عرضت الفنانة عمر في معرضها الشامل بـ “قاعة الرواق” البغدادية في 26 آذار / مارس 1981 عدّة لوحات حروفية مؤرّخة في عام 1946، وهي أعمالها الأولى دون شكّ، وقد كانت تدرس الفنّ في واشنطن. هذا ومن المعروف أنّ الفنانة شاركت في عام 1947 في معرض جماعي في “متحف التاريخ الطبيعي” بواشنطن، ونظّمت في عام 1949 في “متحف الكوركوران” في واشنطن معرضها الشخصي الأولن وكان بعنوان: “صور تجريدية للحروف العربية”، كما كرّرت التجربة نفسها، في العام نفسه، في “مكتبة بي بودي” في جورج تاون واشنطن، وفي “مركز جن للفنون الجميلة” في سلفرسبرنغ بولاية ماري لاند. أهي الرائدة الأولى؟ هذا هو الرأي الذي نميل إليه، لأنّ الأساسي في هذا المجال لا يقتصر على معرفة تاريخ أول لوحة حروفية عربية (وإسلامية) وحسب، بل على التأكّد من هذه الوجهة وثبوتها في تجربة الفنانين الأوائل. حين كانت تقتصر التجربة الحروفية عند حمودي على أعمال محدودة، كانت مديحة عمر تخصّص معرضاً لأعمالها (أكثر من 22 عملاً)؛ وحين كان حمودي يتعرّف ويلتمس في باريس هذه التجربة، كانت مديحة عمر تحكم العلاقة بين “التجريد” و “الحرف العربي”، وهو ما يشير إليه بجلاء موضوع معرضها، بالإضافة إلى أنّها نشرت إلى جانب معرضها هذا بياناً نظرياً، هو “البيان الحروفي العربي الأول” دون شكّ، تقول فيه: “لقد شاهدت الفنّ الحديث ودرسته مقابلة دوماً بينه وبين الفنّ العربي في الشرق الأوسط. فوجدت الأخير أيضاً بهيّ الألوان، ساحراً، وفي الوقت نفسه معقّداً ومزخرفاً، حتى شعرت أنّه من الضروري أن تتهيأ لهذا الفنّ الخالد دفعة قوية تخرجه ممّا هو عليه من الجمود، وتحرّره من السطحية، وتقرّبه من فنّ عصرنا الحاضر المتّصف بجدية التعبير والحركة والقلق”.

“وأنا، أيضاً، رائد”، لا يتردّد بدوره عن القول الفنان اللبناني وجيه نحلة، رغم أنّ لوحته الحروفية الأولى ترقى إلى عام 1952، ذلك أنّ الفنان كان يعتقد، حين أنجز هذه اللوحة، أنّه يشقّ طريقاً غير معبّد، وغير مطروق؛ كيف لا وهو لم يكن على دارية بما كانت قد أنجزته مديحة عمر أو جميل حمودي.

عن بحث بعنوان ( هجرة العلامات ) في مدونته.