محمد سبيلا بنى مشروعه الفلسفي على قاعدة الحداثة النقدية

Tuesday 27th of July 2021 09:56:22 PM ,
4990 (منارات)
منارات ,

عبد الرحيم الخصار

ظلّ المشارقة ينظرون إلى المغرب باعتباره بلدَ عقلٍ أكثر من كونه بلدَ أدب. وإن كان هذا التصنيف يحمل طابعاً تعسفياً، غير أنه يتضمن الكثير من الحقيقة. فأسماء مثل محمد عابد الجابري وعبدالله العروي وعبد الكبير الخطيبي تفوق من حيث الحضور والتداول والتأثير جلّ كتاب القصة والرواية والشعر. وإن كان الثلاثة قد كتبوا في الأدب، الرواية والشعر والسيرة، غير أنهم عُرفوا وبرزوا كمفكرين لا كأدباء.

وليست الأسماء الثلاثة إلا رأس الهرم الذي يتشكل من أسماء أخرى في حقل الفكر والفلسفة والعلوم المرتبطة بهما من سوسيولوجيا وعلم المستقبليات والجماليات وغيرها. ويمكن الإشارة هنا إلى أسماء تنتمي إلى العصر الحديث من قبيل: محمد عزيز الحبابي، طه عبد الرحمان، عبد السلام بنعبد العالي، سالم يفوت، محمد وقيدي، عبد الإله بلقزيز، المهدي المنجرة، فاطمة المرنيسي، كمال عبد اللطيف، بنسالم حميش، علي أومليل، سعيد بنسعيد العلوي، عبد الصمد الديالمي، نور الدين الزاهي، بول باسكون، محمد جسوس، مصطفى محسن، إدريس كثير، موليم العروسي وغيرهم.

وإذا كانت العقود الأخيرة من القرن الماضي هي مرحلة بروز وتوهج الأسماء الفكرية في المغرب فإن مطالع القرن الحالي شكلت مرحلة أفول هذه الأسماء، فقد غادرنا تباعاً منذ بداية الألفية الجديدة عدد من المفكرين المغاربة الذين أثروا حقول النقاش والعقلانية بمنجزات في غاية الأهمية.

وقد انضم أمس إلى قائمة الراحلين من أهل الفلسفة المعاصرة المفكر المغربي المعروف محمد سبيلا الذي فارق الحياة عن 79 سنة بسبب إصابته بوباء كورونا.

وإذا كان من لقب يليق بمحمد سبيلا ويكشف جوهر مشروعه فهو لقب “فيلسوف الحداثة”. ويمكننا هنا أن نستمد مشروعية هذا اللقب من مؤلفاته الفكرية: “مدارات الحداثة” 1987، “الأصولية والحداثة” 1998، “دفاعاً عن العقل والحداثة” 2020، “مخاضات الحداثة” 2007، “الشرط الحداثي” 2020، فضلاً عن كتبه الأخرى التي كانت امتداداً للنقاش حول هذا المفهوم الملتبس الذي ساهم سبيلا في التنظير له، وفي نقده أيضاً: “زمن العولمة وما وراء الوهم” 2005، “في الشرط الفلسفي المعاصر” 2007، “في تحولات المجتمع المغربي” 2011.

كانت مؤلفات الراحل ومحاضراته ومداخلاته في وسائل الإعلام تنصب بالأساس في نهر واحد، هو نهر تحديث الفكر والدفاع عن القيم العقلانية والقطع مع كل السبل التي تريد أن تجدّف بالبلاد وأهلها عكس تيار التنوير. لذلك كان سبيلا حالماً كبيراً بمغرب آخر منفتح على العالم ومنخرط في العصر بكامل أنواره. قلّب سبيلا مفهوم الحداثة على مدار عقود من الاشتغال العلمي، وشرّح هذا المفهوم في مختبره الخاص عبر مداخل متعددة فكرية وسياسية ومجتمعية. لذلك عمل الراحل باكراً برفقة صديقه المفكر المعروف عبد السلام بنعبد العالي على استضافة الفلسفة الغربية، وتقديمها إلى الطلبة والباحثين في صيغ محفزة ومشجعة على القراءة والمصاحبة. ونستحضر في هذا الصدد سلسلتهما الشهيرة “دفاتر فلسفية”. وفي سياق هذه الاستضافة نستحضر ترجماته المبكرة لمؤلفات ألتوسير وهايدغر وميشيل فوكو وبول لوران أسون وكاترين كليمان، فضلاً عن انخراطه في ترجمات جماعية خلال الثمانينيات، نذكر منها “تساؤلات الفكر المعاصر” و”حوارات الفكر المعاصر».

كان سبيلا يرى أن الحداثة رهان على الانتقال من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية، أي الخروج من الانطباعية والذاتية والقيمية إلى إعمال العقل واعتماد مناهج ترتكز بالأساس على الملاحظة والتجريب. كما كان يرى أن الحداثة ركزّت في البداية على الإنسان باعتباره محوراً لكل التحولات، وأعادت الاعتبار إلى المسألة الإنسانوية، غير أنها خضعت لاحقاً لنقد داخلي كشف أن الإنسان ليس الفاعل الوحيد، وليس كائناً مثالياً بالضرورة، بل هو “ذات مشروخة ومشروطة، غير عارفة بذاتـها، وخاضعة لحتمية البنيات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية واللسانية والرمزية التي تحددها معاً، ذات يداهمها اللاعقل والوهم والمتخيل من كل جانب».

إن الحداثة في نظر سبيلا بنية فكرية كلية، حين ترتطم ببنية سوسيولوجية تقليدية تعرّيها وترفع عنها قدسيتها. فكل منظومة فكرية قابلة للنقد والمساءلة، ووظيفة العقل الحديث هي تفكيك البُنى بعيداً من كل نظرة وثوقية. كان ينتقد الفكر التقليدي لأنه وهو ينظر إلى المستقبل، إنما ينظر إليه باعتباره عودة للماضي أو تشكّلاً جديداً له، لا باعتباره زمناً آخر ينطلق من الحاضر ويقطع مع الماضي نفسه.

تبدو كتابات محمد سبيلا قريبة من القراء، فهي تتبنى نظريات تبسيط المعارف. لذلك نجد لغته بعيدة من التقعر والارتكان المفاهيمي والجنوح بالقارئ إلى متاهات مفهومية وفلسفية. كان يستند إلى مرجعية قرائية هائلة يعمل على إذابة مُدخلاتها في صهارة جديدة وإعادة تقديمها للقارئ بصيغ أبسط وأوضح. ويبدو أنه قد استفاد في هذا الصدد من تدريسه للفلسفة في الجامعة المغربية وفق مناهج ديداكتيكية حديثة، ومن انخراطه أيضاً في تأليف الكتب المدرسية الخاصة بطلاب المراحل الثانوية. غير أنه قد يكون استفاد أكثر من مقالاته في الصحافة، فالكتابة للصحافة اليومية والإشراف على مشاريع صحافية يقودان صاحبهما إلى الدنو من قارئ آخر يختلف عن الباحث الجامعي الذي يملك أدوات تلقٍّ خاصة يدعمها الاستعداد المسبق للانخراط في مشروع علمي.

قسّم سبيلا المثقفين إلى ثلاثة أنواع: “المثقف التقليدي”، “المثقف الرسمي” و”المثقف النقدي”. وإذا كان هو نفسه يقف ضد النوع الأول، ويربأ بنفسه عن النوع الثاني، فإنه ينضوي بشكل أو بآخر ضمن النوع الثالث.

يبدو أن الخيار الحداثي في فكر الراحل كان منسجماً مع سيرته وتجربته الحياتية. فهو من مواليد مدينة الدار البيضاء التي تشكل المظهر السوسيولوجي والاقتصادي والعمراني الأكثر حداثة في المغرب، ومن البيضاء انطلق إلى باريس باكراً لاستكمال دراساته العليا في السوربون، ليشتغل بعدها أستاذاً في الجامعة المغربية ويشغل منصب رئيس شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس لفترة طويلة، ويترأس الجمعية المغربية للفلسفة لأكثر من عشر سنوات.

دخل محمد سبيلا إلى العمل السياسي باكراً، انخرط في الصف الوطني ثم انتقل إلى الخط التقدمي، غير أنه أغلق باب السياسة وغادر بيتها بعدما تعرض لما سماه بـ “الخيانة”. وهو هنا يعيد تقريباً سيناريو مفكرين آخرين هما محمد عابد الجابري وعبدالله العروي اللذين جربا طريق السياسة، ثم اكتشفا لاحقاً أن طريق الفلسفة أعمق وأنبل وأكثر شساعة وربما أكثر إفضاءً إلى الخلود.

عن اندبندنت عربية