عبد الملك نوري والحداثة الادبية

Wednesday 14th of July 2021 09:27:42 PM ,
4986 (عراقيون)
عراقيون ,

د.شجاع العاني

حاولت قبل كتابة هذه الكلمات تذكر قصص عبد الملك نوري، التي ترجع علاقتي بها الى الستينيات حين كنت اعد رسالتي للماجستير،فلم استطع تذكر سوى قصتين من قصص القاص ،احداهما قصة “غثيان” التي شدتني حين قرأتها أول مرة ، ربما بتاثير ما كتبه فؤاد التكرلي عن القاص ،

اذ كان الاخير معجباً بالقصة لكونها ذات شكل موباساني ،بينما كانت معظم قصص القاص ذات شكل مفتوح او قل منفلت قريبة الى الشكل “التشيخوفي” الذي يطلق عليه مصطلح “شريحة من الحياة” ، لكن اعجابي بالقصة لا يعود الى كونها ذات شكل موباساني ، للحبكة الصارمة التي تميزت بها هذه القصة ولكون التداعيات والانثيالات الفكرية فيها ، تاتي استجابة لمنبهات خارجية دونما استطراد ،وانما على وفق نسب منضبطة ودقيقة!

اما القصة الاخرى التي وجدت انها مازالت ماثلة في ذاكرتي فهي قصة “ كان ذلك يوم الجمعة” ذلك انني حين قرأتها قبل اكثر من ثلاثين عاماً وجدت فيها شيئاً من قصة (موباسان “ “ضوء القمر” ،والشبه بين القصتين ينحصر في مسألة خرق فيها موباسان قوانين القص القصير المعروفة، حين انهى قصته بمفاجأة غيرت مجرى الحدث ،دون تمهيد لهذا التغيير ،فالجد الذي قرر ضرب حفيدته حتى الموت، بهراوة ثقيلة، حملها وهو يتابع الفتاة بعد خروجها من الدار ليلاً، فوجىء بحفيدته تقف الى جانب صديقها في الغابة، يغمرهما ضوء القمر، هذا الجد تراخت يداه حين ابصر لوحة طبيعية جميلة، يعد وجود العاشقين ضروريا لاكتمالها.

وفي قصة نوري ،يوشك البطل ،بعد خروجه من دار السينما،ان يلقي بنفسه في النهر، بسبب من الامه ومشاكله، لكن قافلة من النساء تمر، تحمل احداهن طفلة صغيرة ،تشير الى الرجل (البطل) وهو يجلس على مصطبة قائلة لامها “ عمو ، ماما ، عمو “ وعندئذ يتغير كل شيء في تفكير البطل ، فقد كانت كما يقول بطل القصة “ قطعة صغيرة حبيبة من الحياة ، مليئة بالحيوية والدفء ، وكانت تبتسم لي، لي انا الرجل الوحيد ، المشرد في هذا العالم” لقد قلبت هذه الطفلة ،قرار البطل ، وبعد ان كان كل شيء بدأ شديد السواد في عينيه ،مما دفعه الى التفكير بالانتحار ،بدا الكون جميلاً ، والحياة جميلة جديرة بالحياة :”واحسست بشيء جديد كالنور ينبض في داخلي ، شيء لم اعرفه من قبل ....”.

جربت ان اقرأ ، قراءة جديدة ، بعض قصص الكاتب ، سيما المعروفة منها ، فوجدتني قادراً على القفز من فقرة الى فقرة ، وكان ثمة انقطاعات في قصص الكاتب ، اكثر من هذا ، وجدتني انسى مضامين بعض هذه القصص بعد اسبوع من قراءتها ، ولا اريد بالانقطاع الظاهرة الفنية التي عرفتها الحداثة والحداثيون منذ بودلير وملارميه الى عزرا باوند واليوت ومن فلوبير ـ الذي كان اول من جعل من بلاغة الانقطاع شيئاً عادياً ـ حتى جيمس جويس ، وانما اردت بذلك ، افتقار قصص القاص الى الحبكة الصارمة والنمو العضوي ـ اللذين كانا سبباً في نجاح “غثيان “ فنياً واللذين ادى غيابهما الى تفكك واضح في قصص الكاتب وفقدانها للشكل او افتقارها اليه الى حد كبير.

هل يمكن القول ان عبد الملك نوري كان مخفقاً ؟ قبل الاجابة على السؤال بالايجاب او النفي ينبغي تفحص الاراء التي قيلت في القاص وقصصه ، سيما تلك التي صدرت عن خصوم القاص ، اذ لم يحدث في تاريخ القصة العراقية ، ان اثار قاص عراقي من الاعجاب والنفور ما اثاره عبد الملك نوري ، ومن المؤكد ان القاص لم يكن يثير ذلك ، في السنوات التي شهدت ظهوره وبروزه كاتبا يحاول ان يضع القصة العراقية على طريق الحداثة ، لو لم يكن شيئاً كبيراً في تاريخ هذه القصة.

وكان مجمل ما يرميه به خصومه ، وهم على وجه التحديد ـ كل من محيي الدين اسماعيل وعامر رشيد السامرائي ، وكاظم جواد ـ هو سطوة على القصص الغربي ، وانتزاع شخصيات بعض تلك القصص ، مثل بطل “ نشيد الارض “ الذي اشار محيي الدين اسماعيل الى انه هو نفسه بطل ( حلم رجل هزاة) لدستويفسكي ، او يعمد الى الاجواء والاحداث في هذه القصص ليجعلها مداراً أحداث قصصه واجوائها ، كما هو الامر في قصته “الصديقتان “ التي اشار الشاعر كاظم جواد الى انها محاكاة حرفية لقصة “ وداعاً كورديرا “ للكاتب الاسباني “ليوبولد والاس “ فضلاً عن الزعم بأن قصص نوري بعيدة عن الواقع المحلي ، وضبابية ، وشخصياتها شاذة، ولا تنتمي الى الاتجاه الواقعي باي شكل من الاشكال . ولا تقتصر الاتهامات الموجهة لفن عبد الملك نوري ، على بعض افراد الجيل الذي ينتمي اليه القاص ، بل لا نعدم ان نجد من يرجح اراءهم في قصصه ، وان لم يوافقهم على محاولة زحزحة نوري عن دور الريادة في قصصه وكتاباته النقدية التي تضمنت الدعوة الى التجديد ، وتحديث القصة العراقية.

اما ما يحسبه له المعجبون بفنه من ابناء جيله وبعضهم ممن تاثروا به او تتلمذوا عليه منهم ـ فؤاد التكرلي، غائب طعمة فرمان ، مهدي عيسى الصقر ، عبد الصمد خانقاه ، والناقد علي جواد الطاهر ، والشاعر بدر شاكر السياب ، وغيرهم ـ فقد كانت محاولاته وجهده الكبير من اجل وضع القصة العراقية على طريق الحداثة ، وكتابة قصة عراقية يتوفر لها الحد الادنى من التقنية الفنية ، أول مرة ، بعد ان مارس كتابتها بشكل يبعدها عن الفنية التي عرفها القصص الغربي الحديث ، كل من محمود السيد ، والخليلي ، وذو النون ايوب وغيرهم ، واذا كان خصوم القاص ، الذين تكمن وراء موقفهم الي ينكر عليه جهده في القصة العراقية وتطورها ، عوامل سياسية وايديولوجية ، كما يرى بعض الباحثين ، وهو الارجح لدينا ، فان عيون المعجبين بنوري لم تكن مغلقة عن بعض عيوبه ، وقد اشار الى بعضها فؤاد التكرلي ، سيما تلك الناحية التشيكوفية في شكل قصصه ، او تلك التي تخص مضامين قصصه ، بخاصة كون شخصيات القاص تستسلم بسرعة لاقدارها ومصائرها ، او انها بتعبير قريب مما قاله التكرلي ، تنكسر كانية من الزجاج على ارض اسمنتية صلبة بفعل قوانين اجتماعية او كونية ، او في عدم قدرته على الوصول ، بتجريبه الذي عرف به ، الى نهاية قارة ، بحيث يكون لكل ما كتبه عبد الملك نوري من قصص ، سمات وملامح فنية تجعله ذا صوت خاص ومتفرد وثابت في القص القصير في العراق ، كما يشير القاص غائب طعمة فرمان.

اعتقد ان كل ذلك ينبغي ان يحسب الى جانب نوري لاضده ، ذلك ان حجم القلق الفني الذي عاشه من اجل ان يكتب قصة عراقية حديثة ، ترث ما بدا لدى محمود احمد السيد وذي النون ايوب وغيرهما من قصاصي الثلاثينيات والاربعينيات مثل انور شاؤول ، يوسف مكمل ، يوسف متي ، شالوم درويش ـ من ومضات تحليلية هنا وهناك ، وتضيف اليها ما بدا يطرق ابواب هذه القصة من مؤثرات غريبة وافدة ، لتخطو بالقصة العراقية خطوة كبيرة تضعها على طريق الجدة والحداثة.

امام هذه المهمة ، وامام التزام عبد الملك نوري بقضايا شعبه الوطنية والاجتماعية والسياسية، كان عبد الملك نوري يعيش قلقه الكبير موزعاً بين قطبين حاول القاص ان يقيم جسراً بينهما ، لاغياً المسافة بينهما ، او تقليصها الى اكبر حد ممكن . ولم يكن نوري ، ليرضى انذاك كما يبدو بما فعله كتاب الاتجاه الواقعي ، الاستمرار في معالجة الموضوعات الاجتماعية المستمدة من حياة الفئات الاجتماعية المسحوقة ، بنفس الاسلوب التقليدي والسرد التقليدي ، من حقن هذا السرد بشيء من الاساليب الجديدة ،كالمونولوج الداخلي ، وتيار الشعور ، وهذا ما فعله رواد هذا الاتجاه انذاك ، مثل غائب طعمة فرمان في مجموعته “ مولود اخر “ وعبد الرزاق الشيخ علي في مجموعته القصصية “ عباس افندي».

وكان هذا الاتجاه الواقعي يرى الانسان من خلال الاشياء والعالم ، بينما الاتجاه التحليلي الذي جذب اهتمام نوري ، سيما لدى دستويفسكي وجوزيس، يرى الاشياء والعالم من خلال الانسان ، فضلاً عما عرف به عالم دستويفسكيس من شخصيات مريضة وشاذة واستثنائية وما عرف به عالمه من تعددية وتوع وثراء حوار ، كان يبدو في تلك الايام ، نمطاً من الفوضى ، وبلا نظام.

وكان كل ذلك يتعارض مع انتماء نوري وخياراته الفكرية والايديولوجية ، فالشخصيات التي تنتمي الى الفئات الشعبية المسحوقة ، لا تمتلك هذا الشعور الداخلي والمغامرة الداخلية الكبيرة التي تؤهلها ، لكي تعالج وفق الاساليب التحليلية في القص ، بل هي اقرب في عالمها وشهورها المعكوس الى الوصف الخارجي والسرد المباشر ، او السرد الدرامي وعبر الحوار ، كما هو الامر في الاتجاه الواقعي الذي عرفته الرواية الامريكية بعد الحرب العالمية الثانية ، كما الرواية الايطالية والاسبانية ، بتأثير من الرواية الامريكية.

وفضلاً عن ذلك ، فان التيار التحليلي في القص ، والذي بدا كانه من اثار نظرية فرويد في الشعور واللاشعور ، فضلاً عن نظريات برغسن في الزمن وسيولته ، ينطوي على خطورة كبيرة في معالجة الزمن ، اذ تبدو اعظم الاعمال التي كتبت بهذا الاسلوب : عوليس / لجلوليس” و “ البحث عن الزمن الضائع ـ بروست “ في نظر بعض النقاد ، وكانها تدير ظهرها للزمن التاريخي من اجل زمن اسطوري الامر الذي يتناقض والمفاهيم الايديولوجية التي عرف بها نوري ، بالاضافة ، الى ان انثيال الذكريات بحرية تامة دون ان يحكمها الواقع الخارجي بان يكون تيار الشعور وانثيال الذكريات ، استجابة سيكولوجية داخلية ، لهذا الواقع الخارجي ومنبهاته بصورة منضبطة ودقيقة ، سيبدو هو الاخر منطويا على فهم او تصور مثالي للواقع ، عرف به الفكر الفلسفي المثالي لدى “ كانت “ ولدى رائد الكانتية الجديدة ارنست كاسيرر ، بحيث يفقد الواقع الخارجي استقلاليته وموضوعيته ليغدو ذاتياً ، وكما يتصوره الانسان ، سيما الفنان الخالق الذي يبدو له العالم خلقاً مستقلاً للروح كما ترى الفلسفة المثالية ، انها عوالم تصويرية ينبغي ايجاج (مبدئها) واصلها في خلق مستقل للروح : لاننا من خلالها فقط نرى ما نسميه الواقع ، وفيها فقط نمتلك هذا الواقع فالحقيقة الموضوعية الاسمى المتاحة للروح تمثل في النهاية شكل نشاطها الخاص “

وقد يرد البعض بالقول ان عبد الملك نوري ، كان بعيداً عن “ فلسفة الأمور “ على هذا النحو ، اذ على الرغم من الاشارات الكثيرة على معرفته الانكليزية معرفة قراءة ، فان احداً لم يشر الى قراءات فلسفية مثيلة لقراءات القاص الفنية ، وليس ورود مثل هذه الاشارات او عدم ورودها مهما الى حد كبير ، اذ يستطيع بحدسه وذكائه الغريزي ان يدرك كل ذلك ، من دون الاستعانة بالفلسفة والفلاسفة!!!