محمد شكري جميل: لم أنجز الفيلم الذي أحلم به والذي يتلاءم وعشقي للسينما

Wednesday 5th of May 2021 09:34:47 PM ,
4938 (عراقيون)
عراقيون ,

آن الاوان أن يقرأ الجمهور والنقاد أفلامي ليقيموها بعيداً عن الاشتراطات الشخصية ..

حاوره: علاء المفرجي

"اعتنوا بهذا الشاب وامنحوه فرصته فقد لمسنا فيه حساً سينمائياً وموهبة تحتاج الى عنايتكم".. هذا ما قالته الروائية الانكليزية الشهيرة آجاثا كريستي في افتتاح المتحف العراقي أواسط الخمسينيات في بغداد برفقة زوجها عالم الآثار مالوان.

الشاب الذي كانت تعنيه كريستي هو محمد شكري جميل الذي ولج كل الأبواب للدخول الى السينما.. جرّب في بداية الخمسينيات الدخول الى معهد الفنون الجميلة حيث لم يكن هناك قسم للسينما، فيدخل الموسيقى ثم يغادر المعهد الى غير رجعة بعد سنة واحدة.

من الوحدة الخاصة بالإنتاج السينمائي كانت البداية، وكانت الفرصة التي تعرف فيها على كريستي ونبوءتها بحقه، مارس التصوير والمونتاج.. ثم الى انكلترا ليدرس السينما ويحصل على الدبلوم ليعود مونتيراً ثم مخرجاً.

قبل البداية الحقيقية مع السينما، كانت له بداية أخرى هي إخراجه أفلاماً بشكل غريب وطريف.. ففي طفولته أهداه والده آلة عرض سينمائية تعمل بالكهرباء.. وفيلماً لا يتجاوز الدقيقتين.. مع صديق يجمع قصاصات الأفلام المرمية والمتروكة في النفايات.. وحتى يخرج فيلمه الغريب كان يجمع هذه القصاصات ويلصق بعضها ببعض.. والنتيجة خليط عجيب من قصاصات دون رابط منطقي..

أكثر من ستة عقود من الزمن.. قضاها محمد شكري جميل مع السينما تبدأ بالدراسة في لندن حيث العمل في غرفة المونتاج وفي ستوديو (أمغول) الذي كان ينتج أفلام روبن هود ثم الى شركة (فيلم هاوس) ثم الى القاهرة في شركة الإنتاج العربي التي كان يديرها صلاح أبو سيف.

محمد شكري جميل.. تعيش الفيلم معه فيحدثك عن موقف أو شخصية أو فكرة او حركة كأنك تعيش الفيلم مثله.. مَن ليس قريباً من محمد شكري جميل سيجده صعباً. تحتاج قبل أن تكتشفه أن تمارس رحلة معرفة به..

بدأ من دراسته في انكلترا ثم لقائه بأجاثا كريستي ،ولنقل بعمر 17 عاماً، وهو يجلس قرب المخرج والمونتير جون شيرمان الذي قال له: إن الفيلم مثل عجينة من الطين التي يستخدمها النحات لصنع نموذج تمثال وعندما تضع السينما بين يديك بهذا الشكل ستدرك قيمة هذا الفنان.

ثم انتقل الى رئيس وحدة المونتاج في مصلحة السينما والمسرح والأفلام الوثائقية.. قبل أن يشارك يوسف جرجيس حمد في إخراج فيلم (أبو هيلة) الذي كتب له السيناريو أيضاً.. ثم التجربة غير الناجحة له في فيلم (شايف خير).

ثم ليخوض التجربة الثالثة (الظامئون) الذي كان فيلماً متماسكاً قوياً بكل تفاصيله ويتمتع بقيمة فنية وفكرية تجعل منه أثراً كبيراً والذي حصل على جائزة اتحاد النقاد السينمائيين السوفيت في مهرجان موسكو . ثم التجربة الرابعة (الأسوار) التي حصد بها الجائزة الذهبية لمهرجان دمشق الدولي عام 1980 ، وبعد الاسوار (المسألة الكبرى)، وقبل (الملك غازي) ، (عرس عراقي) و(اللعبة) .

في رأيي المتواضع ، كان فيلم (الظامئون) - ويا للمصادفة - كان هذا رأي جميل أيضاً، افضل ما انتجته السينما العراقية حتى منتصف السبعينيات إضافة الى فيلم (الحارس) لخليل شوقي .. وكان فيلم (المسألة الكبرى) هو الفيلم الأعلى إنتاجاً في تاريخ السينما العراقية.

محمد شكري جميل يتحدث بمرارة في كل مناسبة، عن المصاعب التي اكتنفت فيلمه الأخير (المسرات والأوجاع) الذي موّل ضمن مشروع بغداد عاصمة للثقافة العراقية.. حيث كان الفيلم مازال (مرهوناً) لدى شركة إيرانية للطبع والتحميض والتي ترفض اطلاق سراحه قبل دفع مستحقاتهم المالية.. والفيلم الذي رصدت له ميزانية هي الأكبر في المشروع وجد إنه لم يستطع تلبية حقوق هذه الشركة ..!!

وتناهى الى سمعي الآن أن المشكلة، حُلًت، وربما سنشاهد فيلماً يكفر عما اقترفته وزارة الثقافة في حق السينما العراقية من فساد كبير في هذا المشروع.

حاورته (المدى) لتقف عند أبرز محطاته في مسيرته مع السينما التي امتدت لأكثر من ستة عقود من الزمن

• أربعة عشر فيلماً روائياً فقط هو كل ما أنجزته، وبعض الافلام الوثائقية والقصيرة.. هل ترى ذلك كافياً لتكريس تجربتك وشخصيتك السينمائية؟

- فعلاً أنا انجزت هذا العدد من الأفلام، وعليك أن تعرف أنه ليس بعدد الأفلام يثبت المخرج حضوره، بل بنوعية الفيلم وقيمته الفنية والفكرية، حتى لو كانت ثلاثة أفلام .. كوبريك لم ينجز سوى اثنا عشر فيلماً وهذا كان كافياً لأن يضعه في مصاف أهم مخرجي العالم. الأفلام التي قدمتها غطت مرحلة تاريخية من تاريخ العراق فضلاً عن نوعها؛ نعم كانت هناك أفلام ليست بالمستوى المطلوب وشكلت حالة من النكوص في مسيرتي، وأنا بعد الثمانين من العمر، أقول انني لم انجز الفيلم الذي احلم به، الفيلم الذي يتلاءم وعشقي منذ الطفولة للسينما.

• لماذا اخترت رواية الأوجاع والمسرات، لتعالجها للسينما، من بين العديد من أعمال التكرلي، مثل (الرجع البعيد)؟

- فيما خص الرجع البعيد، بالنسبة لي أراها لا تصلح للسينما، ثم إن فكرتها لم تستهوني كثيراً، بينما المسرات والأوجاع، في الوقت الذي تتناول في قضية سياسية هي أيضا تبرع في رسم خط اجتماعي وهو رواية أفكار.

• لم يتعرض فيلم الى مشاكل وإلتباس في الفهم، مثلما تعرض له فيلم المسرات والأوجاع.. كيف استطعت أن تتجاوز قضية الجنس، في الفيلم؟؟

- أنا أعرف ذلك في الرواية بعد قراءتها، وأيضا كاتب السيناريو الصديق ثامر مهدي، فكان الاتفاق بيني وبين السيناريست أن نستبدل المشاهد الجنسية التي اكتظت بها الرواية، والتي جاءت في سياق هذه الرواية التي اعتبرها أفضل روايات فؤاد التكرلي.. في فيلم (الأوجاع والمسرات) عملنا أنا وثامر مهدي على إنتاج رواية أخرى، أو قل نظرنا الى ثيمة الرواية من زاوية أخرى.. حيث استبدلنا قضية الجنس بعقم المرأة في الفيلم.. وبالتأكيد أصبحت قضية الجنس في الفيلم مجرد إيحاء وكان السبب بفراقها مع البطل، ليتناسب مع الظرف الاجتماعي الذي عادة ما يرفض مثل ذلك. الظامئون أكملت ربع الفيلم بلا سيناريو وقبل أن يكتب ثامر مهدي السيناريو حيث كنت مصراً على اصطحاب السيناريست الى موقع التصوير مع مدير التصوير حاتم حسين.. المنطقة كان اسمها سن الذبان.. الصخرتان يبرز بينهما القرية، فالقرية مصيرها كان معلقاً بين السماء والأرض.

• لماذا اخترت قرية في فيلم الظامئون، رواية عبد الرزاق المطلبي رغم إنك ابن للمدينة ؟

- حصلت على الرواية من مكتبة في الرصيف، واتفقت مع المطلبي على إخراجها ، اخترت القرية لأن المخرج يبحث عن الفكرة، ولاحظت أن فكرة الرواية تستحق أن تعالج سينمائياً، فاخترت شخوصاً من الرواية كان لهم أثر كبير في إغناء هذه الفكرة. والظامئون أول فيلم روائي لي وأنجزته بحريتي ولم يتدخل فيه أحد، واخترت الراحل حاتم حسين الذي رافقني بالعديد من أفلامي واستمرينا بالعمل سوية لوجود لغة مشتركة بيننا الى أن توفاه الله. وكان آخر تعاون بيننا هو فيلم (المسرات والأوجاع) فيلم الوداع فيما بيننا، وعندما كنت بالمونتاج بأربيل أنفذ مع المونتيرة الإيرانية أبلغوني بوفاته لم أتحمل ذلك فسقطت أرضاً فوراً.

• أرى إنك عملت فيلم الملك غازي بحب وبرغبة تصل حد الشغف ، هل لذلك أسباب تتعلق بك من ناحية كونك عاصرت هذه الأحداث، أم هناك أسباب أخرى؟

- أنا ولدت قبل عامين من مقتل الملك غازي في نيسان عام 1939، الذي مرت جنازته قريباً من دارنا فما زالت الأهازيج التي قيلت في هذه الجنازة ماثلة أمامي، وقبل هذا يجب أن تعرف أن أبي كان آمر الحرس الملكي، وأخي الأكبر كان ضابطاً كبيراً في هذا الحرس، واشير لك أن أخي كان مسؤولاً عن تجهيز عربة المدفع التي حملت جثمان الملك الراحل. فأنك تستطيع أن تعتبر إننا جزءٌ من البلاط الملكي.. لذلك فأنا احتفظ بسرد لتفاصيل هذه الفترة ابتداءً من ولادتي سنة 1937، وحتى عام 1958 في 14 تموز. من هنا اعتبر هذا الفيلم ليس فيلماً عادياً بل هو استعادة لذكرياتي عن هذه الفترة وخاصة مقتل الملك غازي الذي يعتبره الكثير من المؤرخين ملك وطني وأحب العراق بل إن ذلك حسب ما يذهب به البعض من هؤلاء كان سبباً رئيساً لاغتياله، فمواقفه من الانكليز كانت معروفة بمعارضته للكثير من توجهاتهم التي تعد ضد توجهات استقلال البلد بقراراته. فقد كنت حريصاً فيه بالتدخل في السيناريو والاعتناء بالشخصيات وتاريخ الواقعة بل وحتى اختيار أماكن التصوير.. ومن دون الكثير من الممثلين مثلا اخترت الممثل ستار خضير، وهذا له أسباب كثيرة أولها مظهره الخارجي حيث الشبه الكثير مع الملك، وثانياً هدوءه في التعبير وهي من سمات الملوك، وبقي أن يتعلم سلوك الملك وهذه كانت عدّتي أنا .. فأدخلت ستار خضير بوقت لتدريبه، فعلمته أن الملك كان يسمع أكثر مما يتكلم، وكان قلما يستعمل يديه بالحديث.. وغيرها من التفاصيل، والتي أرى أن ستار كان ملتزماً وأبدع بهذا الدور.

• بعد هذه المسيرة الطويلة مع السينما، ما الذي يعنيه الفن السابع لك؟ وكيف تدخل الدولة للخروج من هذه الأزمة، خاصة وأن البعض (يعيب ) عليك إنك أكثر من ساندته الدولة في عملها؟

- أنا درست طلبة كلية الفنون سنة واحدة ،حاولت أن أفهمهم أن السينما هي من الناحية التكنولوجية صور متحركة لكن لها وظيفة مهمة، فهي لغة أولاً وصور ينبغي أن تكون متحركة ومؤثرة، ولكي تكون مؤثرة ينبغي أن تكون فاعلة، لماذا لأنها موحية. هذه النقاط الثلاث المهمة هي مقومات الفعل السينمائي أي اللغة الصورية. المشكلة الأساسية التي عانيتها مازالت موجودة وهي أن السينما نشطت عندما تلقت الدعم من الحكومة أو الدولة، فالدولة منتج سيئ وجيد للإنتاج السينمائي ! ، لأن أول شيء تريده صنع دعاية لنظامها، وهذا يوقعها في مشكلة رئيسة مع الشعب، والشعب هو (الميزانسين) الذي يعني الموازنة بين إرضاء الحكومة وبين إرضاء الشعب. وإرضاء الشعب هو أكثر عمقاً في التأثير ولأجله، دائماً، ترى أن (المنتج الشعبي) الذي يطلع من الشعب هو أكثر نجاحاً من الدولة. السينما يا صديقي مجموعة فنون وليس فناً واحداً، هي (إنسكلوبيديا أوف آرت) أي دائرة معارف الفنون، فالفن السينمائي يتكون من كل الفنون بما فيها الهندسة والنجارة والتخطيط وغيرها ،فأنت عندما تربي هذا الكادر سيتكون لديك مجتمع كامل، والاستوديوهات التي تدخلها تشاهد فيها كل هذه الإختصاصات والبيئة الخاصة بها. الذي يعيقني هو التصوير في بيوت عامة، في حين المفروض بالدولة بناء ثلاث أو أربع استوديوهات لتكون معامل للإنتاج وهي التي تربي الصنّاع المهرة، بينما أنظر الى مصر فيها الاستوديوهات ومدينة السينما التي تدل على إدراك لقيمة الفن السينمائي كصناعة وكفن.

• وبمن تأثرت من رجالات السينما وتعده سبباً في عشقك للسينما؟

- الرجل الصامت الذي لا يعرفني ولا أعرفه، شاهد مشهداً واحداً صورته ، فقال: هذا تأتون به الى لندن هو (ستيوارت ليك ) المنتج الذي كان يدير وحدة أفلام شركة نفط العراق وكان سابقاً رئيس مجلس إدارة شركة الأفلام الوثائقية الكندية والحاصل على شهادة من أكاديمية ووورد في لندن بالفيلم الوثائقي، وأيضاً (جاك هيلد يارد) وهو أحد من كبار المصورين في العالم، وأدار تصوير فيلم (المسألة الكبرى)، وعندما سئل كيف رأيت (محمد شكري جميل) ، قال: شاهدت مخرجاً تعلمت منه الكثير، عنده لغة بالنسبة لي أعدها جديدة وتنقل كثيراً وعيونه حادة في الاختيار ولكنه لا يعجبني برفع صوته على من يعمل معه من الفنيين.

• ما زال حتى الآن يثار جدلٌ عن فيلمك المسألة الكبرى، إن كان بطبيعة اختياراتك للكادر الفني أو من ناحية المضمون الفكري للفيلم والذي يقال إنك رضخت لأوامر الدولة آنذاك في اعتماده؟

- عندما تكون غنياً في ثقافتك العامة تكون مؤثراً. العمل السينمائي من الناحية التكنولوجية لما يكون غنياً لابد أن يكون غنياً أيضا بالعلاقات الإنسانية والاجتماعية العراقية ،فأنا أعرف الأحياء الشعبية والنظام الاجتماعي في بلدي وطبقات المجتمع، ولهذا استغربوا مثلا أنني أعرف المفردات التي يلفظها البريطاني العايش خارج انكلترا، وعندما يأتي لإنكلترا تكتشف انه جاء من مستعمرات انكليزية ولهذا يسمونه بريتش وليس إنكليزي. أما فيما يخص مضمون الفيلم أقول: لم يفرض علي أحد المضمون أنا فقط نظرت لثورة العشرين من زاويتي، وهي غير زاوية فيلم (السلاح الأسود) وغير زاوية (نجم البقال) وكل هذه الأفلام عن ثورة العشرين، ثم إني لم أقدم الشيخ ضاري كثائر والذين شاهدوا الفيلم دون انطباع مسبق يستطيعون أن يقرروا ذلك.

• يتهمك البعض إنك كنت تحظى بمساعدة الدولة وتوفرت لك فرص كثيرة في التعلم والعلاقات لم تتوفر لغيرك.. ما هو ردك على ذلك؟

- لا أعرف ما الذي تعنيه بمساعدة الدولة، أنا مهنتي مخرج، وكانت الدولة هي المحتكرة للعمل السينمائي، فكان من الطبيعي أن أُكلف بإخراج أفلام، بسبب كوني مخرج، فأنا لم أذهب لكي استجدي عملاً سينمائياً تُفرض عليّ شروط فيه، أما شكل العمل ومحتواه فهذا بحث آخر. أما عن الفرص الكثيرة والعلاقات، فالجميع يعرف أنني من عائلة متيسرة ولم أذهب الى لندن للدراسة إلا بإرادتي وعلى نفقتي، ثم أني لم أمنع أحداً من إقامة علاقات مع الناس.. حقيقة تبدو هذه الاتهامات من السماجة بحيث لا أرد عليها. فقد اتهمت بالكثير، لكن آن الاوان أن يقرأ الناس أفلامي ولهم ما يقرروا من تقييم على أن لا يشترط الجوانب الشخصية في حياتي.