ادوارد سعيد: يوميات بغداد من أفضل الكتب عن ا لعراق

Wednesday 7th of April 2021 10:51:00 PM ,
4918 (عراقيون)
عراقيون ,

إبراهيم درويش

وصف الناقد الفلسطيني الراحل، الذي تقترب الذكرى الأولي لوفاته، ادوارد سعيد كتاب الفنانة والمثالة، النحاتة، العراقية الراحلة نهى الراضي (1941ــ 2004) يوميات بغداد قائلا : بحثت في الآونة الأخيرة عن كتب عن العراق تتعامل معه أي العراق كبلد حقيقي،

وليس كمشكلة استراتيجية ووجدت كتابا واحدا، يوميات بغداد، الممتاز، هذا المديح من الناقد الكبير جاء على الرغم من الكاتبة الفنانة الراحلة التي توفيت في 31 من الشهر الماضي لم تنظر لنفسها ككاتبة بقدر ما تعاملت مع انشغالاتها اليومية.

ويوميات بغداد الذي صدرت أجزاء منه في المجلة الأدبية البريطانية المعروفة غرانتا (ربيع عام 1992)، وترجم بعد ذلك للغة الهولندية. وفي عام 1996 قامت بترتيب الكتاب وإعداده حتى عام 1998 في لندن، وأعادت ترتيبه بعد رحيلها عن العراق، عندما وجدت أن العودة مستحيلة نظرا لنشر الكتاب،وترجم لأكثر من لغة الإيطالية، والأسبانية.

كانت الفنانة تعيش في بغداد عندما اندلعت حرب الخليج عام 1991، وأصيبت بالدهشة لأنها لم تكن تتوقع الحرب، فقد كانت تعتقد أن واحدا من الطرفين، طرفي الصراع سيتراجع عن موقفه أو هكذا ظنت. وعبرت الراضي لاحقا عن غضبها من الحرب وفكرتها، لأن الحرب لن تحل أي مشكلة لم أكن أتوقع حدوث الحرب.

وبعد ثلاثة أيام من القصف الأمريكي المتواصل علي مدينتها بغداد، بدأت الراضي بكتابة يوميات عن الآني والحالي في بغداد أثناء الحرب، وفي داخل اليوميات التي لم تحمل تواريخ فقط أرقام الأيام اليوم الأول.. الثاني.

قدمت الراضي بلغة جميلة، حميمية، غاضبة، ساخرة، مباشرة يومياتها عن المطر العنقودي الذي انهال علي سكان بغداد. وفي داخل هذه الكتابة اليومية حاولت الراضي تصوير حياة الاف من البغداديين الذين سيفرض عليهم التعامل مع هذا الواقع اليومي، ومواصلته في زمن الحصار الذي امتد لعقد أو يزيد ، ومتابعة آثاره الجديدة بعد الاحتلال الأمريكي البريطاني الكامل للعراق، وهذا الأخير لم تكتب عنه الراضي لأنها كانت تعيش في المنفى. تكتب الراضي في يومياتها عن حالة الفوضى التي عمت بيتها، وهي الفنانة ، حيث وجد الأهل والأصدقاء في البيت نوعا من الأمان الذي لم يجدوه في بيوتهم، فالحرب على فظاعتها تنتج حالة من عدم الأمان، إذا فرض علي الشخص متابعة تفاصيلها وحيدا في بيته، أو منزويا في جانب من شقته، إضافة لذلك تقول الراضي إن تجمع الأهل في بيت واحد، يوفر حلا اقتصاديا جيدا ويوفر النفقات.

وتحول بيتها في حي الصليخ ، شمال بغداد إلى ما يشبه النزل أو الفندق، مما دعاها لتسميته فندق السعادة، وهو الاسم الذي أطلقته علي الجزء الأول من يومياتها التي كتبت بين كانون الثاني (يناير) وحزيران (يونيو) 1991. كأيّ كاتب يوثق للحاضر الآني، تكتب الراضي عن اهتماماتها اليومية، فهي صحت من النوم في اليوم الأول في الساعة الثالثة صباحا، والداعي لهذا الصحو المبكر هو القصف المتتالي الذي انهال علي كل المدينة. وما يشغل كاتبة اليوميات هو تداعيات القصف والبحث في الآثار والردم والأسلاك، هنا في بيت والدتها تحطم جزء كبير من النوافذ، في بيتها انقطع التيار الكهربائي، انقطع خط الهاتف، الحمامات لم تعد تشتغل. والأكثر من هذا فانقطاع التيار يعني تعفن كل المواد التي خزنها السكان في الثلاجات للتغلب علي أيام الحرب والحصار، وهنا وجدت الفنانة مشكلة، فهي إن فتحت الثلاجة، لتهوية المواد المكدسة فيها، فستؤثر علي فاعليتها في المستقبل، وان تركت الثلاجة مغلقة فهذا يعني تعفن المواد.

تتحدث الراضي بسخرية عن الواقع ولكنها ترحل في خيالها بعيدا عن الواقع وتكتب أحيانا كثيرة عن السياسة الأمريكية، وإسرائيل، فهي التي عاشت الحرب الأهلية في لبنان تعرف جيدا موقع إسرائيل في معادلة الألم العربي ومسبباته، ففي مدخلها لليوم الثامن تكتب بنوع من الكآبة عن عالم لا يلتفت لمعاناة العراقي الكآبة حطت علي حيث عرفت إن العالم يكرهنا بل وفي الحقيقة مبتهج لدمارنا. ولكن في داخل اليوميات هناك الكثير من المشاعر الإنسانية الجميلة، رغم انقطاع الماء والكهرباء وتواصل القصف الأمريكي، ووابل القنابل، وصواريخ كروز وسام، وصوت مقاتلات بي 52. ففي اليوم الخامس الذي حل فيه عيد ميلادها تقول هالة قالت إنها ستهديني سطلاً من الماء كهدية لعيد ميلادي، فالماء عزيز جدا في هذه اللحظة. وعن الوضع والضرورة التي اقتضت سكان فندق السعادة لقضاء حاجتهم في البستان المحيط في البيت، تقول إن هذا يعني مده بالسماد الطبيعي.

لا تكتب الراضي عن المكان الذي يعيش حالة الحرب، بل يتجاوز ذلك للحديث عن كلبها، ودراجة حفيدها وعمها منذر بيك الذي ركب الدراجة في ممر البيت الخارجي. وعن اثر صوت الطائرات المحلقة في سماء بغداد تقول الكاتبة الطيور هي المتضرر الأكبر منها فأرواحها الجميلة لا تتحمل هذا الصوت البشع ولا الاهتزاز الناجم عن القصف.. كل الطيور ماتت في أقفاصها من الصدمة التي تحدثها القنابل، أما الطيور الطليقة فإنها تقوم بالتحليق بدون هدف وتقوم بحركات لا معني لها.. آلاف الطيور ماتت في البستان.. أما الطيور الناجية فهي تطير بدون هدف هنا وهناك.

لكن ما يجعل يوميات بغداد وثيقة حقيقية عن عالم العراق أثناء الحرب، هي إصرار كاتبتها، وبالضرورة العراقيين علي النجاة والتطاول علي القصف والحرب، ففي مدخل من مداخلها اليومية تتساءل عن إمكانية اندلاع حرب نووية، وتضيف قائلة لا اعتقد أن هناك خطر الموت، على الأقل بالنسبة لي، اعرف إني سأنجو بطريقة أو بأخرى، 27 ألف غارة جوية علينا، هل جن العالم. خلف هذا الخوف والحزن، تكتب الراضي عن الشائعات ونبض الشوارع في بغداد، السرقة التي تزايدت، ونقص السجائر، والكاز والوقود.

في اليوميات تتذكر الراضي حوارا جرى في بغداد، تمنت فيه امرأة أن يرسل الله كارثة علي أمريكا.. وعندما تدخلت واحدة من الحاضرات وقالت إن قريبها في أمريكا.. أجابت المرأة فليذهب إلى الجحيم معها..

تتراوح تعليقات/ يوميات الراضي بين الطول والقصر، يعتمد هذا علي حالتها النفسية، ووضعها الصحي، ففي أثناء الحرب أصيبت بنزلة صدرية تركتها تسعل. ولكن اقتصاد الكاتبة في كتابة اليوميات قد يعود لسبب آخر، غير المرض، أو المزاج والإجهاد، وله علاقة بتحول الحرب روتين يومي فالأيام فيها تتشابه. في اليوم الخامس والأربعين وهو آخر يوم في الحرب/ الهزيمة تقول انه كان أطول وارهب يوم، حيث قصف فيه الأمريكيون آخر ما في جعبتهم من الأسلحة والقنابل الجبارة، لكي تحرم العراقيين من آخر نسمة للهواء ظلت تحوم في سماء بغداد المليئة بالدخان والخراب.

تقول الراضي ان لا ذنب للعراقيين في ما حدث للكويت ليس لنا دور في ما حدث في الكويت، ومع ذلك ندفع ثمن الاجتياح.. في الوقت نفسه قادتنا في إحياء وفي حالة جيدة.. ربما، لا.. لا نعرف.. نحن أحياء.. وتكتب قائلة مثل بيتر سيلارز في فيلمه الحفل (عام 1968)، يرفض الموت ولكنه يتطاول مرة ومرة...حتى الجرعة الأخيرة.

بعد عام 1994، واصلت الراضي كتابة مذاكرتها، حيث عادت إليها بعد رحلة قصيرة للخارج. وفي هذا الجزء تكتب الراضي عن حرب أخرى، وكتابتها في هذه الأثناء لا تحمل وتيرة وكثافة يوميات الحرب، فالأيام هنا متفرقة، ولكنها تسجل وتوثق للحصار الذي فرض على العراق بعد الحرب. يومياتها عن العراقيين الذين حاولوا العودة للأشياء التي مزقتها الحرب والتعامل مع الحصار كنوع من الروتين اليومي. وفي هذا الجزء تتحدث عن آثار الحصار، انتشار حالات السرطان في العراق بشكل كبير. فهي تقول ان نسبة العراقيين المصابين بالسرطان وصلت الي 30 بالمئة، معظمهم من الأطفال، وأكثر حالات السرطان هي لوكيميا. كما تشير لارتفاع معدلات الجريمة، وارتفاع أسعار المواد الأساسية، وتراجع العملة العراقية التي أصبح العراقيون يزنوها بالكيلو لأن الدينار العراقي لم يعد له أي قدرة شرائية. اللافت في هذه اليوميات إنها مشغولة بالدمار البيئي الذي أحدثه القصف الأمريكي علي العراق. فالمياه ملوثة، والجراذين تنتشر مع الديدان وغيرها من الحشرات التي تنتعش في أكوام النفايات، ومياه المجاري. نهي الراضي تضمن هذا الجزء الكثير من الحكايات عن ديكتاتورية النظام، والنكات الساخرة منه. الشائعات والأخبار. ومن النكات الساخرة من النظام العراقي سؤال صدام لأعضاء حكومته، كم الساعة الآن، فرد الجميع، الساعة التي تريدها سيادتكم .

رغم هذه اللمحات السياسية الساخرة إلا أن الراضي في كل مذكراتها فضلت الكتابة عن ما هو شخصي وقريب وكانت بالضرورة تصف واقعها وواقع الذين يعيشون حولها. وبين هذه التفاصيل كانت تتحدث عن حس الإهانة الذي أصابها كعراقية وعن رفض العرب تعلم الدروس من مآسيهم وتفرقهم الدائم.

كما توثق لحياتها الاجتماعية، ولقاءات الأصدقاء، معارضها وتجربتها في فن الحصار، ولقاءاتها مع الصحافيين والمدافعين عن البيئة. ويقدم الكتاب في النهاية صورة عن انشغالات الفنانة الأخيرة، الكتابة، والتركيز علي الرسم، أكثر من السيراميك ورحيلها الي بيروت، العاصمة اللبنانية التي اتخذتها مركزا للتنقل، حيث سافرت لنيويورك وعمان واليمن وأوربا ولندن والمكسيك قبل ان يقعدها المرض وينهي حياتها الحافلة.

يوميات بغداد، مليء باللحظات الصارمة ، ولكنه احتفال بالصبر الإنساني في اعلي تجلياته، واحتفال آخر بالأشياء الصغيرة التي تصنع عالما من الفرح داخل سماوات مليئة بالدخان وصوت الرعب.

ولدت الراضي في بغداد عام 1941، كان والدها محمد سليم الراضي من أوائل العراقيين الذين تلقوا دراستهم في أمريكا. وعمل في فترة الحكم الملكي سفيرا للعراق في إيران (1947)، وفي الهند حتى عام 1958، وتلقت دراستها في مدرسة خاصة في نيودلهي وسيملا، كما ادخلها والدها مدرسة خاصة في الإسكندرية لتحسين لغتها العربية، أثناء أزمة السويس. وبعد تموز (يوليو) 1958 وانهيار النظام الملكي عاد والدها للعراق، فيما ذهب أولاده الثلاثة للدراسة في الخارج، فقد أصبح شقيقها عباد معماريا، وأختها سلمى باحثة في علم الآثار وعملت الكثير من اجل الحفاظ علي التراث الحضاري اليمني، أما نهى فقد اختارت دراسة فن السيراميك في مدرسة بيام شو للفن في لندن، كما عملت في معهد تشيلسي للفخاريات. وبعد عودتها للعراق أخذت تقيم المعارض في بغداد والخارج. في عام 1969 قررت عائلتها الرحيل لبيروت. وأثناء وجودها في العاصمة اللبنانية أكملت دراستها في الجامعة الأمريكية، ودرست فيها، فيما واصلت أعمالها ومعارضها في فن السيراميك. ولكن اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 جعلها تعود للعراق .

بعد نشر يومياتها سافرت لبيروت ولم تعد إليها إلا العام الماضي بعد انهيار النظام العراقي، حيث قضت أسابيع مع والدتها المريضة والتي رفضت مغادرة بغداد، ووصفت الراضي والدتها بأنها مثل سكارليت اوهارا في رواية ذهب مع الريح لأنها عاشت الكثير من الحروب.

ولم تجد الراضي في العراق المحرر ولا سادته الأمريكيين ما يفرح حيث قالت في تصريحات لنيويورك تايمز أمريكا تعيش في قصرها العاجي.. تعودنا على الانقلابات والثورات.. وفي العادة الأفراد الذين يقومون بها يسيطرون علي الدولة.

كفنانة كانت الراضي متنوعة الاتجاهات والاهتمامات، حيث عرضت أعمالها، من سيراميك ورسم في الدول العربية وفي الغرب، ويقتني المتحف البريطاني عددا من أعمالها. في التسعينات من القرن الماضي أقامت الراضي معرضا في عمان، فن الحصار عرضت فيه أعمال مصنوعة من الخردة: أخشاب، مرسومة وعليها رموز، وريش. وقامت بعرض هذه الأعمال بعد الغزو العام الماضي. وكفنانة ساخرة، عندما سمح الرئيس السابق صدام حسين للمتخرجين باستيراد سيارات بدون جمارك ،اخذ المثقفون يسوقون المرسيدس، فأقامت الراضي معرضا لم يكن فيه إلا شيئان: السيارات ومجسم لدماغ إنساني بارز من شباك السيارات أو معلق على علم.

توفيت الراضي بعد معاناة مع المرض في بيروت في 31 آب (أغسطس) 2004 ودفنت في غابة سرو، وقبرها محاط بالياسمين والزهور التي أحبتها، حيث كانت تضع كل يوم وردة علي أذنها، مهما كان الحال والوضع ..

القدس العربي 2004/9/8