بين كوميديا دانتي وكرامازوف ودستويفسكي

Tuesday 6th of April 2021 09:32:47 PM ,
4917 (منارات)
منارات ,

نذير جعفر

اصغ إليّ قليلا أيها الصديق، أرجوك اقرأني، حاول أن تفهمني وتملأ الفراغات ما بين السطور..لا تتسرّع في الحكم عليّ، فأنا كتاب، مجرّد كتاب لم تنته بعد من قراءته! ما أشبه الكتب بالأصدقاء، منها ما يمرّ في حياتك مرورا عابرا، ومنها ما يترك وشما عميقا لا يمحى مع الزمن، وبين هذا وذاك تقرأ كثيرا وتعاشر كثيرا وتظل تراهن على الأجمل الذي قد يأتي أو لا يأتي!

هل ثمة كتاب واحد مفضّل لديّ؟ كتاب أشتاقه وأستظل به وأعود إليه بين وقت وآخر؟

نعم، ولا، في الوقت نفسه! فثمة كتب عدة أشتاقها وأعود إليها، كتب لا أستطيع التخلي عنها مثل الأصدقاء القدامى برغم تنكّري لهم أو تنكّرهم لي، كتب أدمنتها وأدمنتني لا بحكم العادة بل بحكم التواصل الخفيّ والمعلن على مدى سنوات طوال.

بعض تلك الكتب ارتبط بالطفولة فكان أولها وآخرها “القرآن الكريم”. وبعضها ارتبط بأيام الشباب الثمل من دون نبيذ على حدّ تعبير (غوته)، يوم كنّا نغرق في حوارات لا تنتهي عن تغيير العالم، فنرتشف الكلمات والأفكار مع فناجين القهوة، ونتبارى في قراءة غوركي وبلزاك وجاك لندن وحتى تروتسكي، وما لم نكن نتمكن من شرائه كنّا نسطو عليه بطريقة ما، نستعيره أو نسرقه في غفلة من البائع عبر حقائب صديقاتنا الرائعات في ذلك الزمن الرومانسي الجميل، أو نكتبه بخط اليد كما فعل صديقنا حسين الشيخ الذي دوّن أعمال مظفّر النوّاب وسليم بركات كلها بخطّه الجميل ثم أهداني إياها في لحظة تألق ومودّة عارمة! وبعضها ارتبط بالكهولة المبكّرة، حيث بدأ الاختيار الدقيق لكل كتاب يأخذ حيّزا من التفكير والتأمّّل، وما بين الشباب والكهولة كم من كتاب ارتبط بذكرى قبلة ووردة، أو صفعة ونصل بارد في القلب! ومن أين للمرء أن يعدّ القبل والصفعات؟ ولكن لا بأس في النهاية من وضع حدّ لهذا الاسترسال النوستالوجي والاعتراف أولا وأخيرا بأن دستويفسكي في روايته: “ذكريات من بيت الموتى”كان أول من فتح عينيّ على الحياة في قسوتها ونبلها، وأن دانتي في “الكوميديا الإلهية” كان أول من وضع حدّا لتصوري الساذج عن حدود الجنة والنار. وما بين دستويفسكي ودانتي مرّت مياه كثيرة من تحت الجسر، لم يكن أولها سرفانتس في “دون كيخوته”، أو شيللر في “اللصوص”، ولا آخرها ميخائيل نعيمة في “سبعون”، أونجيب محفوظ في “قلب الليل” أوعبد الرحمن منيف في”شرق المتوسّط».

في ذكريات من بيت الموتى أدخلني دستويفسكي مستعمرة العقاب الرهيبة في أومسك السيبيرية، تلك المستعمرة التي يحتمل فيها الإنسان من العذاب المهين ما يفوق التصوّر! ولعل هذا ما دفعه إلى القول: «إن الإنسان ليذل حتى أنه يعتاد كل شيء»! بلى، إنه يعتاد كل شيء، الألم والذل والجوع والكذب والخيانة والتعذيب إلى أبعد الحدود! ولكن في لحظة ما يقف فوق جراحه ويثأر لكرامته المهدورة بطريقة ما، وفي ذلك تكمن عظمته.

ما يدهش في “ذكريات من بيت الموتى” ليس مشاهد التعذيب الجسدي والنفسي لسجناء الرأي الراديكاليين أوعتاة المجرمين في ذلك الجحيم، ولا صور الإذلال اليومي، ولا مشاهد الإعدام رميا بالرصاص، ولا القدرة على الاحتمال فحسب. إن ما يدهش هو ذلك الإصرار على الحياة، الإصرار على البقاء، الإصرار على الحلم في نفق معتم لا بداية أو نهاية له!

عندما قرأ ابن الإمبراطور الروسي رواية دستويفسكي تلك أعلن غضبه على ما يجري، وأبلغ والده بضرورة وضع حد لهذا الامتهان لكرامة البشر، ومن يومها أوقف الإمبراطور العمل بقانون (القنانة)، وأوصى بوقف التعذيب في السجون تحت أية ذريعة كانت!

لا يحاول دستويفسكي أن يقدّم رواية عبر حبكة تقوم على عقدة وحل، كما لا ينصب شباك التشويق لاصطياد قُرائه، إنه يسرد ما يشبه المذكّرات القاسية والمرّة من دون رتوش، مذكّرات تتوغل في عمق الإنسان وتستبطن نوازعه الشريّرة والخيّرة، وترسم نماذج بشرية بحدّ السكين المرهف، لتقدّمها عارية وصادمة في آن معا، نماذج يرى فيها الموهبة والذكاء والتفرّد الذي ضلّ الطريق، أو وجد نفسه فجأة رهن الاعتقال والأحكام الجائرة. ولذا فقد تساءلت غير مرة وأنا أقرأ: أين هو الواقع وأين هو الخيال؟ أليس ما يرصده الكاتب من تفاصيل صغيرة في حياة هؤلاء السجناء يفوق ما يمكن أن نتخيّله؟ ثم أليس الصدق الفنّي والعاطفي والمعرفة العميقة بالإنسان والحياة وراء ذلك التألق السردي الذي يأسرنا دائما عند دستويفسكي؟

تبدو هذه الرواية لصيقة بحياة المؤلف الذي ُحكم عليه بالإعدام بسبب أفكاره الثورية، ونجا في اللحظة الأخيرة التي سبقت إطلاق الرصاص عليه! ثم نُفي بعد ذلك إلى سيبيريا لمدّة أربعة أعوام، ودوّن فيها مشاهداته وتأملاته ومذكراته التي أثمرت فيما بعد هذا السفر الإبداعي الممتع والرهيب.

الآن، وبعدما أضعت أو فرّطت بمكتبتي للمرّة الثالثة، أعود لأكتشف أن من بين تلك الكتب القديمة التي حرصت على الاحتفاظ بها بقصد أو من غير قصد رواية دوستويفسكي: “ذكريات من بيت الموتى”، ولكأنها قاومت كل الهزّات العنيفة التي اعترضت حياتي من تشرّد وسفر وتنقّل دائم بين بيت وآخر، وصمدت لتقول لي: ما زلت وفية لك أيها الصديق، يا من احتضنني وأحبني وبلّل صفحاتي بدموعه ولم يتخلَ عنّي يوما ما!

مع دانتي ليس ثمة متّسع للدموع، فهو يدعوك إلى التأمّل، وربما يلفّ أعماقك بسحابة من الحزن الشفيف، ويحثّك على التساؤل المعرفي والوجودي المثير: «وبعد..»؟ نعم، هناك الجنة أو الفردوس، وهناك الجحيم أو النار أيضا، ولكل منهما مريدوها عن علم أو عن جهل، وللجنة عشاقها وللنار وقودها، فأين أنت أيها القارئ من الاثنتين؟

دانتي، هذا الشاعر النبيل إلى حدّ البكاء، يبدع نسقاً أو فضاءً رحيماً، لا علاقة له بالجنة ولا بالنار، فقد تحدّث عنهما كما تحدّث أبو العلاء، وزاد وفصّل في ذلك، لكن إبداعه يتجلى في هذا النسق/ الفضاء الذي تسلّل إليه من الديانات الوثنية أو من قدماء المصريين، وهو “المطهر».

في”المطهر” ليس ثمة مؤمنون وكافرون، بل هناك أرواح تائهة ومعذّبة، أرواح لم تلتزم طقوس العبادة، لكنها في الوقت نفسه لم تؤذِ أحدا. فهل يضعها دانتي في النار أم في الجنّة؟ لقد ابتدع فضاءً جديدا سمّاه “المطهر”، لتظل فيه تلك الأرواح التائهة هائمة لا تستقر على حال! فهي في منزلة بين المنزلتين، لا يقرّ لها قرار إلى أن تنتقل بعدما تتطهر من آثامها إلى الفردوس المنتظر!

فكرة “المطهر” استحوذت على فكري وتأملاتي، ووجدت فيها جوابا لأسئلة كانت تقلقني، فهي شكل من أشكال التمرّد على ثنائية الخير والشرّ، والإيمان والكفر، شكل من أشكال الرحمة أو قل تعدّد الأطياف والألوان، لا ثنائيتها، وشكل من أشكال الوعي “الغاليلئي” للكون والوجود لا الوعي المثنوي أو”الستاتيكي” الذي يحصر الحياة كلها بالنور والظلام، أو بـ «نعم» و«لا»، و«مع» و«ضد»، وفي ذاك “ المطهر” الذي ابتدعه دانتي وجدت نفسي منذ قرأت “الكوميديا الإلهية” وما زلت حتى كتابة هذه الأسطر، ومن هنا يأتي تعلقي بهذا الكتاب الذي يتجاوز حدود ما فيه من معارف فلسفية ولاهوتية وطبيعية وأدبية وشروحات مستفيضة، ليجيب على سؤال وجودي عميق ما زال يؤرّق البشر، سؤال الموت وما بعده.

مع دانتي ربما اكتشفت نفسي، ولكن مع دستويفسكي ربما اكتشفت الآخر، وما بين الأنا والآخر تكتمل الدائرة، وتحلّ السكينة، وفي السكينة أولى عتبات الرضى والسعادة.

أيتها الكتب، أيها الأصدقاء، ليس ما قلته مفاضلة، أو محاولة لإرضاء أحد، فكم أنا مدين لكم في حياتي التي صنعتموها سواء ذكرتكم أو نسيتكم، وربما كان لبعضكم أثر أعمق مما تركه الاثنان، لكنها لحظة بوح، وفي البوح ما أكثر ما نصيب، وما أكثر ما نخطئ!