700 عام على رحيل “ دانتي “ صاحب الكوميديا الإلهية

Tuesday 6th of April 2021 09:31:33 PM ,
4917 (منارات)
منارات ,

علي حسين

الشاعر الإيطالى الشهير دانتى أليغييرى، أحد أشهر شعراء وفلاسفة القرون الوسطى، اشتهر بكتابه الملحمى “الكوميديا الإلهية”، الذى كان له أثر كبير على المؤلفات الأدبية والفكرية .

يخبرنا كُتاب سيرة دانتي اليجيري ان مذنباً ظهر في سماء مدينة فلورنسا ليله السابع من آب عام 1264،وقد اعتبر سكان فلورنسا ظهور هذا المذنب دلالة على مجيء إنسان عظيم، وبعد شهور قليلة وفي أيار من عام 1265 ولد طفل للسنيور اليجبرو اسماه دورانتي، والذي اختصر الى دانتي. كان طفلاً بائساً، فقد والدته وهو في الخامسة عشرة من عمره وتوفي والده بعدها سنوات قليلة، كانت ملامح وجهه تضفي عليه مسحة من الحزن، في صباه تعرف على فتاة جميلة اسمها بياتريس ابنة أحد أثرياء فلورنسا، كان كلما ينظر اليها يظن إنها ليست من سكان هذا الكوكب، بل هي ملاك هبط من السماء، وتشاء الظروف أن تغيب بياتريس سنوات لتظهر من جديد، يكتب دانتي في يومياته :”كانت سائرة عبر الشارع، وفجأة لفت ناظريها الى البقعة التي كنت واقفاً عليها وأنا على أشد ما أكون من الارتباك والحياء، وفي أدب جم لا تمحي سمته، تلطفت عليّ بابتسامة محتشمة».

هكذا كانت بداية قصة الحب.كان دانتي يعرف أن حبه لبياتريس لا أمل منه، فقد كان قصير القامة، مقوس الأنف، تبدو على وجهه ملامج التعب، والأكثر من هذا كان فقيراً ومغموراً، ويتذكر كيف كانت الفتيات يسخرن من تقاطيع وجهه وخجله.. لكن ذات يوم يقرر أن يجعل من حبه لبياتريس التي ماتت بعد زواجها من أحد الاثرياء، دافعاً لأن يكتب ملحمته الشهيرة”الكوميديا الإلهية».

امامي نسخة من كتاب”الكوميديا الالهية” لدانتي قام بترجمته الدكتور حسن عثمان – وهي النسخة التي اصدرتها دار المعارف المصرية صدرت الطبعة الاولى عام 1955 ثم توالت طبعاتها وستصدر قريبا عن دار المدى بترجمة حسن عثمان وبمراجعة المترجم المتميز معاوية عبد المجيد – ويخبرنا المترجم حسن عثمان في تقديمه ااطبعة الاولى إنه كرس أكثر من 25 عاماً من حياته لدراسة دانتي وترجمة ملحمته، وكيف إنه سافر الى إيطاليا وانكلترا وامريكا ليبحث في مكتباها عما كتب عن شاعر ايطاليا الكبير، ونكتشف مع حسن عثمان ان الكلمات كانت سلاح دانتي لانجاز رحلته من الجحيم الى الفردوس. يكتب الشاعر الانكليزي ت إس إليوت:”إن العالم الحديث منقسم بين دانتي وشكسبير، وليس ثمة ثالث بينهما”. وكنت مثل اي قارئ مبتدئ أتوهم إن قراءة الكوميديا الالهية عمل سهل اشبه بقراءة إلياذة هوميروس او إنياذة فيرجل، فاذا بي أجد نفسي أمام عمل أدبي ضخم به اشارات للآداب الكلاسيكية وعلم اللاهوت في العصور الوسطى والشؤون السياسية الإيطالية والكثير من القضايا الأدبية التي ما يزال الباحثون يتجادلون يختلفون حولها. فنحن أمام قصيدة ملحميّة تتألف من 14 ألف سطر شعري تقريبًا تصف رحلة دانتي بين الجحيم والمطهر والفردوس. تبدأ القصّة باستيقاظ دانتي من نوم عميق وهو تائه في غابة مظلمة. وبعد عدة محاولات فاشلة في الهروب يلتقي دانتي بالشاعر فيرجيل، الذي بدوره يخبر دانتي بأنّ الطريق الوحيدة للخروج هي بالعبور من مركز الأرض مرورًا بالجحيم. فيقود فيرجيل دانتي عبر الجحيم فيشاهد فيها مشاهد مرعبة من العذاب ويلتقي فيها بالعديد من الشخصيات التي ذُكرت في الكتاب المقدس والآداب الكلاسيكية. وتنتهي الرحلة في الجحيم بلقاء مع إبليس ثم يهربان من هناك وينتقلان إلى المطهر. يصعد الإثنان جبل المطهر ويلتقيان بأولئك الذين ينتظرون الذهاب إلى الفردوس في رحلة تطهرهم. وهنا أيضا يلتقي دانتي بشخصيات حقيقية وخيالية كلّ منها له حكاية يخبرها. وقرب ذورة جبل المطهر يغيّر دانتي مرشده في الرحلة ويتابع نحو الفردوس وصولًا إلى رؤية الرب.

كتب دانتي الكوميديا الإلهية وهو في المنفى بعيداً عن مدينته المحبوبة فلورنسا. ولذا نجد موضوعي المنفى والخلاص يتكرران كثيراً في الملحمة. كما يظهر العديد من أصدقاء دانتي السياسيين في القصيدة في أجزائها المختلفة. أما شخصية بياتريس التي ظهرت في القصيدة فهي شخصية الفتاة التي احبها في الصغر وعشقها في فترة الشباب وقد ماتت وكان عمرها 24 عامًا لتظهر في الملحمة في قصيدته ممثّلة لكل ما هو خيّر وجليل.

وتعد الكوميديا الالهية، من نواح عديدة، قصيدة حب تمتدح جمال بياتريس الأخلاقي، وقدرتها على الوصول بدانتي إلى رؤية الخير الأعظم، إذ إنها تقوده، في رحلته حتى يلتقي بأرواح المباركين. ويقف دانتي في بهجة ونشوة، ويتفهم في ختام ذلك كله، الحقيقة النهائية للحياة، وما يعنيه الكون.

يخبرنا الايطالي جيوفاني بوكاتشو مؤلف الكتاب المذهل”الديكاميرون”إن أبناء شاعر ايطاليا الكبير دانتي :”شعروا بالحنق لأن الرب لم يعط والدهم دانتي وقتاً اضافياً ليمكل عمله الشعري الكوميديا الإلهية،وفي إحدى الليالي رأى أصغر أبناء دانتي والده يقترب منه في الحلم مرتدياً عباءة بيضاء، فبادره الأبن سائلا هل كان مايزال حياً؟ ليجيبه دانتي بأنه حي، انما في الحياة الحقيقية وليس في عالمنا. عند ذاك، سأله هل كان قد أتم الكوميديا الالهية؟، لتأتي الإجابة بـ (نعم لقد اتممتها).بعد ذلك أصطحب دانتي ابنه الى غرفة نومه القديمة حيث وضع يده على تجويف مغطى بحصيرة على الحائط وقال (هنا ما كنت تبحث عنه طويلاً) وعندما استيقظ الأبن هرع واحضر أحد تلامذة دانتي ليكتشفا معاً وجود ذلك المكان الذي احتوى على أوراق قديمة، تبين فيما بعد إنها الاناشيد الاخيرة من الكوميديا الالهية والتي قيل أن أبياتها الأخيرة.

كتب دانتي الكوميديا الالهية تعويضاً عن حياته التي عانى فيها الشقاء، فهذا الانسان المطارد، الممقوت، خلق عالماً رحب به وصادقه ولرفع من شأنه، وأدخله عالم العظماء . وكان كتابه الكوميديا الالهية اشبه بملجأ رجل حالم ، عانى من القهر في حياته وهو يكتب في مقدمة الكوميديا الالهية :” ان الهدف من هذه القصيدة هو ابعاد الانسانية من حالتها الشقية الرزية ، وقيادتها الى عالم السعادة والغبطة “ والمثير ان دانتي وهو الكاثوليكي الملتزم دينيا ، زج بالبابوات ورجال الدين في الجحيم وصورهم في مشاهد من العذاب ، وكان الدافع من وراء ذلك هو ماكان يراه دانتي من انصراف رجال الدين عن امور السماء ، وانغماسهم في امور الدنيا ، وتقسيم الناس الى فئات متباغضة ومتطاحنة ، وكان يرى لدى العديد منهم ، الاهتمام بجمع الاوال وتكديسها ، منشغلين بها عن تادية رسالتهم الدينية . ولهذا نجد دانتي في “ الجحيم “ ساخطا على الخديعة والكذب . وكثيرا ما بدا له العالم مليئا بالاخطاء . واثارت اعمال الملوك ورجال الدين في نفسه الاشمئزاز .واعتبر ا اغلب رجال الدين متغيرين متقلبين ، والقساوسة يملأون بطونهم بالاموال الحرام ، والبابا مرتش خارج على تعاليم الكنيسة .

عندما كتب دانتي “الكوميديا” لم يطلق عليها الاسم الذي عرفت به فيما بعد “الكوميديا الإلهية”، فهذا الاسم أضيف اليها بعد ذلك بزمن، وحين بدأت تطبع وتنشر بعد عقود من موت كاتبها.

لم تكن الكوميدياا الالهية هي الكتاب الوحيد الذي نشره دانتي ، فقد كان اول كتبه بعنوان “ الحياة الجديدة “ وفيه يروي قصة شبابه ، و كيف ان حب بياتريس ، بعث حياته من جديد ، وفي “ الحياة الجديدة “ نعثر على نواة للكوميديا الألهية حيث نجد المؤلف يقدم الحياة بكل ما فيه من احزان وافراح ، وما تحويه من زهد وتصوف .. عام 1308 نشر كتابه “ الوليمة “ وهو اشبه بدائرة معارف ، وقد اراد دانتي لكتابه أن يكون ضخما لكنه لم يكمله ونشر الفصول الاربعة الاولى منه ، والكتاب محاولة لنشر الفلسفة والمعرفة ، الفصل الاول يؤكد فيه ان علاقات الناس يجب ان تسودها المعرفة من اجل رفع مستوى المجتمع ،وفي الفصل الثاني يناقش مسائل الخلود ،وتقسيم السماوات ، مسترشدا بعلم الفلك ، ويخبرنا انه احب الفلسفة التي ظهرت له في ثوب سيدة رقيقة ، ويتناول الفصل الثالث الفلسفة ، والنفس ، وطبيعة الحب ، والعقل ، ومركز الانسان في العالم ، والصداقة ، ويبحث الفصل الرابع في موضوعة الاخلاق ومشكلة الشر والخير .

عام 1313 يصدر كتابه “ الملكية “ وهو اشبه بوصية سياسية ، حيث نجد دانتي ينعى حلمه السياسي الذي انتهى الى الفشل ، وقد تاثر في الكتاب بفلسفة ارسطو واراء الفلاسفة الرومانيين ، وبالكتاب المقدس ، وتعاليم توما الاكويني ، وبعض من اراء ابن رشد ، الذي كان دانتي يكن له الاعجاب . يكتب في ( الملكية) ان من يصلح للحكم هو الذي يستنبط من الآخرين احسن ما فيهم ، ويضيف ان على الحاكم ان يفضل العمل بدلا من الكلام ، وان من شروط اقامة الدولة هو اشاعة الوحدة والنظام والعدالة ، وحب الخير والحرية والسلام ، وفيه يطالب بفصل سلطة البابا عن سلطة الامبراطور ، فهو يعتقد ان خروج احدى السلطتين عن مجالها يهدد مصلحة المجتمع .

لم يكن دانتي اول من تناول عالم ما بعد الحياة كما جاء “ في الكوميديا الالهية “ ، فكثير من الباحثين يربطون بين “ الاسراء والمعراج “ و “ الكوميديا الالهية “ ، وقد كان المستشرق الاسباني “ ميغيل أسين بلاثيوس “ المولود عام 1871 والمتوفي عام 1944 ، اول من نبه الى التشالبه بين رحلة الإسراء والمعراج التى قام بها الرسول محمد “ ص “ ، والكوميديا الإلهية في كتاب بعنوان “ اثر الاسلام في الكوميديا الالهية “ والذي صدر عام 1919 ، وتدين الثقافة العربية ـ الاسلامية لميغيل اسين بلاثيوس بالكثير، فهو الذي قدم ابحاثا مهمة عن ابن عربي والغزالي وابن حزم، ودرس قبل ذلك آثار فلسفة الاندلسي “ ابن مسرة “على الفيلسوف الانكليزي “ بيكون” ، ثم صدر كتاب المستشرق الايطالي انريكو تشيرولي عام 1949 بعنوان “ كتاب المعراج ومسالة المصادر العربية والاسلامية للكوميديا الالهية “ ، اما التاثر برسالة الغفران للمعري ، فبعض الباحثين يضع مقارنات بين الكوميديا الإلهية ورسالة المعري ، ومن اهم الكتب في العربية كتاب “ تاثير الثقافة الاسلامية في الكوميديا الإلهية “ والكتاب الذي اصدره الراحل عبد المطلب صالح بعنوان “ دانتي ومصادره العربية والاسلامية “ . نحن نعرف ان رسالة الغفران تبدا بنهوض ابن القارح من القبر تلبية لسكان القبور ، والفصل الاول منها يصور لنا محاولات ابن القارح للوصول الى الجنة ، ورسالة الغفران كما تخبرنا عائشة عبد الرحمن “ بنت الشاطي “ التي حققت الكتاب باشراف استاذها طه حسين ، ان كتاب المعري انما هو جواب على رسالة وردت اليه من اديب عرف بابن القادح ، وكان رد ابو العلاء المعري ان كتب رسالة الغفران التي اصطحب فيها ابن القارح إلى العالم الآخر. إلى الجنة والنار، مندفعا في وصف من يلقيان فيهما وما يلقيان فيهما.. وفي الرسالة يرد المعري على جملة أسئلة يطرحها عليه ابن القارح مبديا رأيه في بعض الآراء والأفكار: في الشعراء والفلاسفة وفكرة التناسخ والتقليد،

كتب المعري كتابه “ رسالة الغفران وهو في الستين، سنة 1041 ، قبل وفاته بستة عشر عاما ، حيث قرر آنذاك أن يستقر في المعرة ، بعد رحلة غير موفقة الى بغداد ، حيث دفعه الياس الى الشروع بكتابة رسالته ، التي اراد من خلالها ان يخلق عالما اكثر انسانية ورحمة من عالمه القاسي والذي عانى منه كثيرا .

ولد أبو العلاء المعري العام 979 ميلادية . في معرة النعمان، شمالي سورية، فقد البصر وهو في الرابعة. وقد حاول ان يعوض فقدان البصر بالانصراف الى العلم والمعرفة فقرر ان يطلع على ما كتب السابقون، لا سيما على أشعار المتنبي، ( معلمه ) ، وسنجده يتبع خطى المتنبي بكتابة قصائد تحمل الحكمة الفلسفية وتامل الحياة وتقلباتها حيث وضعته هذه القصائد في الصف الأول من شعراء العرب. حيث قدم لنا دواوين مهمة “ اللزوميات” و “ سقط الزند” ، ليجد القارئ نفسه امام عبقرية شعرية وفلسفية لاتزال حية على رغم أن “ ابو العلاء المعري “ رحل عن عالمنا عام 1058 .

عام 1907 كتب جرجي زيدان في مجلة الهلال أن ابا العلاء المعري تخيل رجلا صعد الى السماء ووصف ما شاهد هناك ، ويضيف زيدان ان دانتي فعل الشيء نفسه ، ويطلق جرجي زيدان على الكوميديا الإلهية اسم “ الرواية الإلهية “ ، وفي عام 1914 قدم طه حسين رسالته للدكتوراه عن المعري وفيها يكتب عن الكوميديا الإلهية ان “ الفرنج يشبهونها برسالة الغفران بكتاب دانتي الايطالي ولكتاب ملتون الانكليزي ( الجنة الضائعة ) – ويقصد كتاب الفردوس المفقود كما ترجم في العربية – « .

الشيء المثير ان شخصية دانتي قريبة الشبه بشخصية المعري ، فقد كان دانتي يزهد في الحياة ، يبدو خجولا ، قليل الكلام ، يقتنع بابسط الطعام ، وياكل قليلا ، وكان اذا تمزقت ملابسه يصلحها بنفسه يقول عن نفسه انه عاش حياته كسفينة من دون شراع ، وسط عواصف هوجاء .