جوديث بتلر.. كورونا الذي أعاد لنا كوابيس كافكا

Tuesday 2nd of March 2021 08:59:44 PM ,
4887 (منارات)
منارات ,

علي حسين

في كتابها الثاني والعشرين " قوة اللاعنف " ، تؤكد جوديث بتلر بان عصرنا يدعونا إلى تخيل طريقة جديدة للبشر للعيش معاً في العالم . الكتاب الذي صدر قبل ان يجتاح وباء كورونا العالم بايام قليلة تُجادل فيه الفيلسوفة الامريكية بأن اللاعنف غالباً ما يساء فهمه على أنه ممارسة سلبية تنبثق عن منطقة هادئة في الروح، أو كعلاقة أخلاقية فردية مع أشكال السلطة الموجودة. لكن في الواقع، اللاعنف هو موقف أخلاقي موجود في خضم المجال السياسي :" عندما أقوم بالعنف ضد إنسان آخر ، فإنني أرتكب العنف بنفسي أيضًا " .

الفتاة التي قررت في الخامسة عشر من عمرها أن تصبح مثل ملهمتها سيمون دو بوفوار ، بعد ان قرات كتابها الشهير " الجنس الآخر" ، وظلت عبارة دو بوفوار الأكثر شهرة " لا تولد الواحدة امرأة، بل تصبح كذلك " ترافقها خلال مسيرتها الحياتية ، حاولت ان تنعش ايام مراهقتها بغنائم من هيغل وسبينوزا ، طعمتهما بحماسها الشبابي ، واهتمامها الواسع بالقراءة ، فكان عليها ان تتعلم الفرنسية لتقرأ ملهمتها ورفيقها سارتر بلغتهم ، ولهذا قضت معظم اوقات عام 1970 منغمسة في النصوص الفلسفية والادبية ، تخبرنا ان علاقتها بالفلسفة بدأت من قبو المنزل ، حيث كان والدها يحتفظ بكتب الفلسفة ، في هذا القبو تعرفت على افكار سبينوزا ، في المدرسة سيطلق عليها الاساتذة لقب " الثرثارة " لانها كانت كثيرة السؤال ، حيث كانت ثلاثة أسئلة تشغلها آنذاك : لماذا عاش سبينوزا حياته ملعوناً ومطروداً، وحرم من الكنيس اليهودي ؟ هل يمكن تعتبر المثالية الألمانية مسؤولة عن النازية ؟ كيف يمكن للمرء أن يفهم اللاهوت الوجودي الذي نادى به كيركغارد ؟ ..اغرتها عبارة سبينوزا :" كل انسان سبب لوجود انسان " في ان تتعمق في الحث عن الذات حيث نشرت عام 2002 كتابها " الذات تصف نفسها " الصادر عام 2002- ترجمه الى العربية فلاح رحيم – والذي تكتب فيه :" أحاول أن أبدأ قصة عن نفسي، أبدأها من مكان ما وأحدد الزمن في محاولة للشروع في متتالية أقدم بها روابط سببية أو بنية سردية في الأقل. أسرد، وأقيد نفسي في أثناء السرد، أصف نفسي، أقدم وصفي إلى آخر على شكل قصة يمكن لها أن تلخص كيف ولماذا أنا ما أنا عليه أيضًا " .

في السادسة عشر من عمرها تتعرف على افكار هيغل وستلعب كتابات الفيلسوف الالماني دورا هاما في حياتها ، حيث وجدت في الفلسفة دعوة للعيش بطريقة حرة ومختارة ، وقد ظلت بتلر تجادل ان الفلسفة ليست ذكورية في الاساس ، وأن هناك دائما نساء في الفلسفة وعلى مر تاريخها ، وتمضي بتلر الى القول لا شيء يمنع امراة شابة من دراسة الفلسفة ، ومن ثم انتاج افكارها الفلسفية . بعد اطلاعها على هيغل، ستتبنى مفهوم الاعتراف الذي أثر في حياتها السيّاسيّة والفلسفيّة فيما بعد، نظرا لالتصاقه بوضعها الذاتي. فالرغبة في العيش، كما تحدث عنها اسبينوزا، غير ممكنة في نظرها إلا من خلال الاعتراف الهيغيلي، بحيث لا يرتبط الاعتراف بتحقيق الرغبة في العيش فقط، وإنما العيش بطريقة حرة ومختارة .

عام 1984 تقرر الحصول على الدكتوراه برسالة بعنوان " مفهوم الرّغبة عند هيغل " .. ورغم تعلقها بسيمون دي بوفوار فانها تصف الوجودية بانها عقيدة غير واقعية ، " تمدنا بقيم زائفة " ، ورفضت ايضا مشروع كانط التنويري الذي تصفه بالرومانسي ، وارتبطت بالمدرسة النقدية حيث تسير على مقولة الالماني تيودور أدورنو من انه لاتوجد حياة حقيقيّة ضمن حياة زائفة ، وتفترض بتلر أنه لا يمكننا أن نناضل من أجل حياة جيّدة، حياة تستحق العيش، دون الاستجابة للحاجيات التي تسمح لنا بضمان الاستمراريّة.

انحازت جوديث بتلر الى منذ البداية الى فكرة هيغل التي يؤكد فيها على واجباتنا الاساسية تجاة بعضنا البعض ، حيث اكتشفت عند صاحب " ظاهريات الروح " اننا لسنا مخلوقات متوحدة ، منفصلين عن بعضنا البعض . تكتب بتلر :" في قراءتي لهيغل ، وجدت هذا الاكتشاف انني مربوط بالآخر ، وان الأخر مربوط بي ، وان كلانا مربوط بعالم حي ينير وضعنا كمخلوقات حية وعلاقتنا التبادلية المتجسدة ، وحسا من الالتزام الاخلاقي والذي هو التزام ايضا للمحافظة على عالم يجعل حياتنا ممكنة وجديرة بالعيش " . وهي تعترف بانها تعلمت من هيغل درس اخلاقي من ان حياة الفرد ليست حياته لوحده ، بل انها تنتمي لصيرورة عيش تتجاوز الفرد وتضمه الى حيوات اخرى :" لا يمكنني الهيمنة على الآخر دون ان افقد بوضوح المساواة الاجتماعية " .

اهتمت بتلر بسؤال الرغبة ، وهي تدرك ان هذا السؤال ليس بمعزل عن العلاقة مع الغير، كما أنه لا ينفصل عن سؤال الهوية وعلاقتها بالذات، فالهوية ليست سابقة على الوجود الاجتماعي بالقدر الذي يكون فيه هذا الوجود هو أساس الهوية .

ولدت جوديث بتلر في الرابع والعشرين من شباط عام 1956 ، في مدينة كليفلاند لعائلة هاجرت من المجر ، الأب مجري الاصل يعمل طبيبا للاسنان ، والام روسية عرفت بنشاطها المجتمعي . تعرضت الام لتجربة صعبة حين لقى معظم افراد عائلتها حتفهم في المحرقة النازية ، في طفولتها اصر الوالدان ان يدخلاها مدرسة دينية يهودية ، لكنها بعد ذلك ستختار دراسة الفلسفة لتحصل على الشهادة الجامعة من جامعة بيل عام عام 1978 ، تكمل بعدها الماجستير والدكتوراه في نفس الجامعة .عام 1984 ، تمضي رحلة اكاديمية في جامعة هايدلبرغ بصفتها باحثة ، في عام 2002 ، يتحقق حلمها بالجلوس على كرسي سبينوزا للفلسفة في جامعة أمستردام . عام 2006 حصلت على كرسي " حنة أرندت" للفلسفة في كلية الدراسات الأوروبية بسويسرا، وستفحص جوديث فيما بعد سؤال آرندت عن الحياة الجيدة وتكتب :" : ميّزت حنة آرندت بشكلٍ حاسم بين الرغبة في العيش والرغبة في العيش الكريم، أو بالأحرى الرغبة في حياة جيدة " كانت ارندت قد كتبت في كتابها " حياة العقل " أن :" المجد الحقيقي هو في الطريقة التي نثبت بها هويتنا وافعالنا "، وتشرح لنا جوديث هدف ارندت من هذه الحياة قائلة :" لم يكن البقاء بالنسبة لحنة آرندت ولن يكون هدفًا في ذاته، ما دام أن الحياة لم تكن أصلا جيدة ، فالحياة الجيدة وحدها تستحق أن تُعاش. لقد وضعت ارندت حلاً لهذه المشكلة السقراطية " . انتُخبت عام ٢٠٠٩ رئيسة محكمة هوسرل حول فلسطين، والتي تجمع عدد من المثقفين الأمريكيين حول القضية الفلسطينية من اجل السعي لسلام دائم وعادل بين فلسطين واسرائيل، وذلك بفضل موقفها الثابت من رفض وشجب عنف اسرائيل .. وقد اصدرت عام 2012 كتاب " مفترق الطرق ..الهوية ونقد الصهيونية " - نقلته الى العربية نور الحريري - حيث سعت من خلاله إلى فضح الزعم القائل إنّ كل انتقاد لإسرائيل هو معاداة للسامية، منتقدة عنف إسرائيل ، وقهرها الاستعماري للسكان الفلسطينيين وترحيلهم وطردهم من اراضيهم .

جوديث بتلر التي تعمل اليوم استاذة للادب المقارن في جامعة كاليفورنيا ، تعيش في مدينة بيركلي ، كتبت مقالا تقول فيه ان الفلسفة تثبت من جديد انها موجودة دائما ، واشارت في مقال بعنوان " الرأسمالية لها حدودها " الى ما أكده من قبل سلافوي جيجيك ان الوباء ربما يساعدنا على خلق مجتمع بديل خارج النظم الراسمالية، مجتمع يحقق نفسه بأشكال التضامن والتعاون العالميين ، وكتبت بتلر ان العزلة التي فرضها الوباء تتكيف مع "اعتراف جديد بترابطنا العالمي". واضافت ان الفيروس لا يميز بين البشر :" يمكننا القول أن الفايروس يعاملنا على قدم المساواة ، ويعرضنا لخطر الإصابة بالمرض ، وفقدان شخص قريب منا والعيش في عالم من التهديد الوشيك" ، وتشير الى أن فايروس كورونا كشف لنا ان المجتمع البشري هش ، وتضرب مثلا بامريكا التي تصفها بانها اكثر الدول التي لم يكن لديها استعداد مسبق لمواجهة الوباء ، فيما تنتقد اجراءات ترامب التي تصفها بالعنصرية ، وتشير باتلر الى ان الراسمالية حاولت من خلال الوباء اعادة انتاج وتعزيز سلطاتها ، خصوصا في المناطق التي انتشر فيها الوباء بكثرة ، وهي تقول ان مثل هذه الامور لم تفاجا المواطن الذي يدرك ان الراسماية تتعامل معه باعتباره ترسا في عجلة انتاج كبيرة .

وتؤكد بتلر الى ان دونالد ترامب يسعى لاستغلال الوباء في الحصول على ولاية ثانية :" واحد من السيناريوهات التي يمكننا تخيلها الآن وهو إنتاج وتسويق لقاح فعال ضد فيروس كورونا الجديد. ترامب الطامح لتسجيل نقاط سياسية ليضمن إعادة انتخابه، سيسعى بالتاكيد لشراء حقوق حصرية للولايات المتحدة للقاح " وتسخر بتلر من بعض البلدان الاوربية التي تعتبر حياة الأوروبيين فوق حياة الجميع " ، وتضيف في انتقادها للترامب الذي تقول انه لايزال يؤمن بأن السوق هو الذي يقرر كيفية تطوير اللقاح وتوزيعه؟ وتطرح بتلر سؤلا مهما :" هل يصح أن نفترض أننا نعيش وفقًا لمعايير هذا العالم المتخيل؟ " .

وتحمل جوديث بتلر النظام الراسمالي مسؤولية خلق التفاوت بين البشر ، وهو الامر الذي لم يفعله الفايروس نفسه حسب قولها :" إن الفيروس وحده لا يميز ، ولكن نحن البشر بالتأكيد نقوم بتشكيله وتحريكه كما نحن من القوى المتشابكة للقومية والعنصرية وكراهية الأجانب. يبدو من المحتمل أننا سنرى في العام المقبل سيناريو مؤلم تؤكد فيه بعض المخلوقات البشرية حقوقها في العيش على حساب الآخرين ، وإعادة كتابة التمييز الزائف بين الحياة المؤلمة وغير المؤلمة ، أي أولئك الذين يجب الحماية من الموت بأي ثمن ومن يعتبر أن حياتهم لا تستحق الحماية من المرض والموت ".

وقالت بتلر ان ما يساعد على التصدي لخطر الفايروس هو في احياء القوانين الاشتراكية التي تحمي الضعفاء ، والدعوة الى الحركات الاجتماعية للوقوف في وجه " الغول " الراسمالي ، ونذهب بتلر الى ان المستفيد من غياب المساواة هو وباء كورونا، الذي :" يعيث في كوكب أنهكته العولمة، والاستهلاك المجنون للموارد، وظهور فئة من البشر لا تتجاوز الـ1 % من السبعة لتسعة مليارات من سكان الكوكب، هذا الواحد بالمئة قد اختطف العولمة في الطريق وحوَّلها لتصب في مصالحه الخاصة، بصرف النظر عن الـ99 % من البشر الذي أخذوا يغرقون في الفقر والجوع والحروب، اكتشف البشر أن سلة الخيرات التي كان من المفترض أن يتشاركها الكل قد أخذت تصب في سلة الواحد بالمئة. أثبتت العولمة عقمها وتحولت الشعوب للتوق للرجعة لحدودها والانغلاق على ذاتها ورفض الآخر.. رد الفعل تجاه لا عدالة العولمة تضخم لرفض البشر واحدهم للآخر، والتشكيك والمطالبة برفع السدود والحوائط على حدود الدول وقلوبها لحماية ذاتها" .

في شقتها المطلة على البحر تتأمل جوديث بتلر في العالم الذي استحال أمامها الى مريض يحتاج الى جراحة سريعة لازالة ورم خبيث من جسده ، وتؤكد في حوار معها عبر الانترنيت على أن الحديث عن فكرة مناعة القطيع ، والتي تفترض أن أولئك الذين لديهم القوة الكافية لتحمل الفيروس سيطورون مناعة ستدفع في ظل ظروف الوباء والحرمان الذي يعاني منه الضعفاء والفقراء في المجتمع التي تعتبر ضعيفة أو غير مقدرة للبقاء : " هذه ليست عقوبة إعدام صريحة من النوع الذي يصدره القضاة. لكن الموت هو نتيجة معروفة ومقبولة لسياسة تهدف إلى استعادة النمو الاقتصادي والربح كهدف واضح لها. لن أسمي هذه الخطوة سلبية. وهو شيء أكثر من التواطؤ مع عنف شخص آخر. إنها بالأحرى حسابات تحسين النسل التي تعتمد على العمال الذين يمكن الاستغناء عنهم واستبدالهم لتحقيق هدفها المتمثل في تنشيط صناعة منتجة وسط الوباء. " .

وتسمي بتلر مثل هذه الاجراءات بأعتبارها شكلا من أشكالًا العنف القانوني الذي يستهدف الأقليات. وتذهب الى القول ان الذين سيحرمون من الرعاية الصحية سيجدون انفسهم وهم يلجأون الى القانون لطلب المساعدة أن المتهم والحكم هما شخص واحد. وتصف ما يجري اشبه بكابوس تقدمه احدى قصص كافكا ، التي تصر على ان الحياة دائرة كابوسية .

وتختتم بتلر حديثها بالقول انها تأمل السماح للأعداد المتزايدة من البشر في أن ترغب في عالم متغير :" آمل أننا نستطيع جميعا الحفاظ على هذه الرغبة متّقدة " .