آلان دو بوتون .. الفلسفة حين تساعدنا على تغيير حياتنا

Tuesday 26th of January 2021 09:17:34 PM ,
4860 (منارات)
منارات ,

علي حسين

يطلق عليه لقب فيلسوف مدرسة الحياة، فيما يصفه البعض بانه صاحب فلسفة لن تصمد طويلا ،لكنه يدعونا ان نتمثل درس " سقراط " الذي ظل يطالبنا ان لا ننصت أبدا إلى إملاءات الرأي السائد، بل الإنصات إلى إملاءات العقل .

أحب الفلسفة التي تلقي بظلالها على الناس ، والتي تخرج من جدران الجامعة لتتجول عبر مواقع التواصل الاجتماعي ، وهو يتذكر كيف كان سارتر يكتب اصعب المؤلفات في المقاهي ، ويدير اهم الحوارات بين شباب غاضب على المجتمع ، ويؤمن ان مهمة الفلسفة أن تعلمنا كيف ينشأ الغضب عند الانسان ، وما هي آلية الحب التي تسيطر عليه . فضل آلان دو بوتون ان يواجه القراء مباشرة من دون فذلكات ولا مصطلحات قاموسية ، متمرداً على إملاء التقليد الفلسفي ، لا ينكر ما يقال عنه انه يروج للفلسفة كطريقة لعيش الحياة وتقبل الموت يكتب :" احساسنا المفاجيء بالتعلق بالحياة حين نُدرك الموت الوشيك يشير ربما الى أنه ربما لم يكن فقدان رغبتنا في الحياة طوال هذا الوقت بسبب عدم وجود نهاية منظورة ، بل انها نسختنا اليومية منها .. بعد تخلينا المعتاد بخلودنا ، سيتم تذكيرنا حينئذ بمجموعة الاحتمالات غير المجربة القابعة تحت سطح الوجود الذي يبدو خارجيا وغير مرغوب " ، وهو يتذكر ما قرأه في واحدة من رسائل مارسيل بروست :" لم نكن بحاجة الى الكارثة لكي نحب الحياة . كان يكفي التفكير باننا بشر ، وبأن الموت قد يأتي هذا المساء " . يرى ان التشاؤم ربما يكون مصدر مهم للرضا النفسي ، ورغم ان الفكرة يصفها البعض بانها مجنونة وغريبة ، إلا ان دو بوتون يرى مثل فيلسوفه المفضل " سينيكا " بأن التفاؤل مصدر لخيبات الامل : " يعتمد شعورنا بالرضا في الحياة على توقعاتنا بشدة. فكلما زادت توقعاتنا، كلما زاد الحنق، ومشاعر المرارة، وخيبات الأمل، والشعور بالاضطهاد. تجتمع قوى كثيرة في مجتمعنا لتُثير أمالنا بطريقةٍ غير عادلة. بُنيت ثقافتنا التجارية والسياسية بكل أسى على صناعة الوعود من سنياريوهات بعيدة الاحتمال. اعتمدت هذه القوى على ميل عقولنا الفطري، على الرغم من خطأه، للاعتقاد بأن امتلاك الأمل والطيبة هو مفتاح السعادة. المتفائل والمتشائم كلاهما يتمنيان أن تأخذ الأمور في الحياة منحى جيد على قدم المساواة. ولكن إدراك بأن الأمور قد تسوء، يجعل المتشائم أكثر براعة في ضمان النتائج الجيدة التي يحاول كلٌّ من المتشائم والمتفائل الحصول عليها في النهاية. إن ذلك المتشائم الذي لم يتوقع أن يحدث شيء جيد أبداً، هو من يضحك في نهاية المطاف " .

كان سينيكا ،المولود عام خمسة للميلاد، قد كتب أننا يجب أن نبدأ كل يوم من خلال التفكير بعمق في كل عذاب يمكن أن تلحقه الحياة بنا، وهو يطالنا بأن نفكر في كل شيء ، ونتوقع كل شيء . خلال حياته، شهد سينيكا في حياته كوارث هائلة ومآسيَ شخصية ، كان يهيئ نفسه كي يعمل في السياسة ، لكنه في اوائل حياته اصيب بالسل ، حيث بقى طريح الفراش ، ما أدى الى تفرغه للقراءة واطلاعه على كتب ارسطو فنراه يكتب "ادين بحياتي للفلسفة" ، وكان الفيلسوف الروماني يرى ان المشكلة ليست في قصر الحياة ، بل في الاستعمال السيئ للوقت الذي نتوفر عليه ، يكتب بوتون : " يجب أن لا نغضب لأن الحياة قصيرة و لكن يجب عوضا عن ذلك أن نستفيد من كل الوقت المتوفر ، أشار إلى انه يمكن لبعض الناس هدر آلاف السنين بنفس السهولة التي يضيعون بها سنوات حياتهم ، وحتى لحظتها سيشتكون بأن الحياة هي قصيرة جدا. في الواقع الحياة طويلة بالقدر الكافي لنحقق الكثير من الأعمال إذا قمنا بالاختيارات المناسبة ، إذا لم نضيعها في الأمور التافهة "

إذن كيف يجب أن نقضي وقتنا حسب سيينكا ؟ ، كان الهدف الأسمى للفيلسوف الشهير ، هو العيش في ظل الفلسفة التي وجد فيها عزاءً في مواجهة المحن التي مر بها والتي انتهت باصدار الامبراطور نيرون امرا بان يقتل الفيلسوف المشاغب " سينيكا " نفسه على الفور . يخبرنا هيغل وهو يكتب مقالاً يبدي فيه إعجابه بالفيلسوف الروماني ، ان سينيكا لم يرضخ للحظات الضعف المعتادة ، اذ واجه الواقع عبر موته حيث اسهم في خلق ربط دائم بين جوهر كلمة "فلسفة" ومقاربة هادئة للواقع الكارثي الذي يحيط به..هكذا تتحول الفلسفة الى عزاء في اصعب المحن ، وهو ما يؤكده دو بوتون من ان الفلسفة يمكن أن تساعدنا في النظر إلى العالم :" نحن الأنواع الوحيدة القادرة على فهم الكون ، حتى ولو بطريقة محدودة ، وأعتقد أننا سنفعل جيدًا للالتزام بهذا المنظور ، إذا تمكنا من تحرير أنفسنا من نفسنا ، فسوف نكون قادرين على تبني وجهة النظر هذه" .

في كتابه الشهير عزاءات الفلسفة – ترجمه الى العربيه يزن الحاج باسلوب متميز وممتع قرب النص الاصلي كثيرا للقارئ العربي – يحاول دو بوتون ان يشرح كيف يمكن للفلسفة التي يعتقد البعض انها اصبحت من الماضي في زمن وسائل الاتصال الحديثة ، ان تقدم لنا حلولًا لمشكلات وتساؤلات تمس وضعه الراهن في حياته اليومية، كما انها تساعدنا او تقدم لنا العزاء من خلال استعراض مواقف انسانية مر بها هؤلاء الفلاسفة ؟ .

آلان دو بوتون المولود في سويسرا عام 1969 ، لاب ولد في الاسكندرية بمصر ، وغادرها بعد عام 1952 ليؤسس شركة استثمار في سويسرا ، يخبرنا انه كان على خلاف مستمر مع والده الذي اراد منه ان يصبح رجل اعمال ، يقول في حوار ترجمه الى العربية حنان العلياني: " عندما بعت أفضل الكتب مبيعا كان الامر بالنسبة لوالدي اشبه بالسخرية لم يكن يعجب بما افعله وتساءل عما سأفعله بنفسي" ، قرر ان يصبح مؤلفا للكتب منذ اللحظة الاولى التي قرأ فيها للكاتب الفرنسي رولان بارت :" لم أكن سأُصبح ما أنا عليهِ الآن لو أنني لمْ أكتشف في بداياتِ العشريناتِ من عمري أعمالَ الفرنسي رولان بارت ، كان بارت مُبْتَكِراً في أسلوبه وفي عرض مؤلفاته " وسيقرر بعد ان تعرف على مؤلفات بارت ان يدخل عالم الفلسفة ، فما ان انتهى من قراءة كتاب رولان بارت " " شذراتٌ من خطابِ محب " حتى وجد المخطط الذي سيضع من خلاله كتابه الاول عن الحب ، وستكون دراسة بارت عن صمويل بيكت مدخلا لان يقدم الان دو بوتون كتابه " كيف غيّر بروست حياتك " :" لم يكن التاثير على مستوى الأفكار بقدر ما كان على مستوى الأسلوب والنهج الذي اتبعه. لم يكن يتصور ان كتبه ستصبح على قائمة الاكثر مبيعا "

في طفولته درس في مدرسة داخلية باكسفورد ، يصف نفسه بانه كان طفلاً خجولاً ، قرأ كتب التاريخ والفلسفة والادب عام 1991 بدأ دراسته للحصول على الدكتوراه في الفلسفة الفرنسية ، لكنه فجأة ترك الدراسة ليتفرغ لتاليف كتب تُقرب الادب والفلسفة لعامة الناس .

عام 1993 يصدر اول كتبه بعنوان " مقالات في الحب" ، بعدها يدخل عام 1996 ، عالم الشهرة بكتابه " كيف يمكن لبروست أن يغيّر حياتك؟" الذي بيع منه اكثر من مليون نسخة - ترجمه الى العربية يزن الحاج - بعدها توالت كتبه وكان اشهرها "عزاءات الفلسفة ، وكتاب "قلق المكانة"- ترجمه الى العربية محمد عبد النبي - فضلًا عن كتب عديدة تناولت موضوعات الجنس والحب والدين والسعادة والفن .

في عزاءات الفلسفة يقترب آلان دو بوتون من مقولة سقراط الشهيرة " اعرف نفسك " ، حيث يعتقد بوتون ان هذه العبارة هي تلخيص لحياتنا وايضا تمثل قدرتنا على معرفة الذات ، ويؤمن ان أحد مهام الثقافة أن تعْرض لنا الوسائل التي تُساعدنا في مهمةِ معرفةِ ذواتنا :" نحن أحوج

إلى مفرداتٍ لنصوغ بها مشاعر وحالات ذهنية نمر بها، نحن أحوج ما نكون إلى التشجيع لأن نتوحد مع أنفسنا بانتظام، نحن أحوج ما نكون إلى الأصدقاءِ والمتخصصين، الذي يستمعون إلينا بتعاطف و بدقةٍ عالية، ونحنُ أحوجُ ما نكون إلى الفن، ليُضِيءَ جوانباً بعيدةَ المنال لأرواحنا. وقبل كل شيء، نحن بحاجة إلى أن تتبنى أنفسنا خصلةَ التواضع، لتَسْهُل علينا مهمةُ فِهْمِنا لذواتنا " .

في عام 2008 ، أسس آلان دو بوتون مدرسة الحياة. مقرها في لندن وباريس وأمستردام وسيول واسطنبول وساو باولو وبرلين وزيوريخ وملبورن ، تقدم مدرسة الحياة تعليما يركز بشكل خاص على قضايا العمل والعلاقات وتروج للفلسفة باعتبارها طريقة مهمة لعيش الحياة ، وهو يحاول ان يجيب على اسئلة ما هي الفلسفة ؟ وهل الاهتمام بها مضيعة للوقت ، من خلال كتب تسعى لخلق جسرًا من التواصل الحميمي بين القارئ ، وبين الأعمال الأدبية والفلسفية الخالدة. وهو لايسعى لتقديم تحليل نظري ونقدي لهذه الكتب ، وانما يصر على نبش ما تخبئه هذه الكتب بين اوراقها من اشياء ربما تفوت على القراء ، كما انه لايروج لهذه الكتب بطريقة تحمل فذلكات النقاد ، وانما يتبع المضمون الجوهري لهذه المؤلفات ، من اجل ان يعثر القارئ على طريقة سهلة وممتعة توصله إلى اكتشاف الدروس الانسانية ويعلمنا طريقة الشغف بأدق تفاصيل حكايات الكتب ومؤلفيها

يخبرنا دو بوتون ان " مدرسة الحياة " مهمتها بسيطة جدا وهي السعيّ في زيادةِ انتشارِ الذكاء العاطفي كمفهوم بين الناس: " نطمح ان تساعد الفلسفة على مساعدتنا كبشر في اكتسابِ الذكاءِ العاطفي في علاقاتنا، وأماكنِ أعمالنا، وفي الاقتصاديات، والثقافة " .

يضع دو بوتون خمسة قواعد اساسية تسعى لها مدرسة الحياة ، اولها ان نعرف ذاتنا ، فهو يدرك ان الغرض من الفلسفة قد لخصه سقراط قبل اكثر من 2500 عام بعبارة واحدة " اعرف نفسك " يكتب :" نحن أحوج ما نكون إلى التشجيعِ لأن نتوَحد مع أنفسنا بانتظام ،وقبل كل شيء، نحن بحاجةٍ إلى أن تتبنى أنفسنا خصلةَ التواضع، لتَسْهُل علينا مهمةُ فهمِنا لذواتنا . القاعدة الثانية تتلخص في فهم الآخرين ، فمثلما علينا ان لا نتوقع الكثير من الآخرين، ،فعلينا أيضاً أن نتعلّم أن السلوكياتِ الخاطئة تَنْبع دائماً من الألمِ والتوتر، لا من شرّ يُضْمَر لنا. نحتاج لتوجيه تعاطفنا وشحذ خيالنا باتجاه أهداف لم نعتد عليها : أولئك الذين يحبطوننا أكثر" ، ويرى بوتون ان القاعدة الثالثة في مدرسة الحياة هي في العلاقات والتي هي المصدر الوحيد والأكبر لسعادتنا ومعاناتنا في آنٍ معاً: " نسعى لشخص نبادله الحب على مرّ العقود، ونبادِلُه الرغبة المتقدة، والالتزام، والاهتمامات. نحلم بشخصٍ يفهمنا، شخصٌ نستطيع مشاركته الشوق والأسرار، شخصٌ نكون معه على طبيعتنا كما يجب.

القاعدة الرابعة هي العمل الذي يجب من خلاله ان نخلق قيمة حقيقيةً من وظائفنا وإن يكونَ العمل ضمانا ذا مغزى وليسَ ترفاً:" نريد أن يَعْمل الناس بمهارةِ وإقناع، وبالتالي، كيف يُمْكِنُ أن تكونَ المجتمعاتُ ناجحةً ومثمرة"

القاعدة الخامسة وهي الثقافة والتي يقترح أن تكونَ ذاتَ قيمة نظراً لقدرتها على تلبية احتياجاتنا من التعليمِ والتوجيهِ والتعزيةِ وتكوينِ وجهاتِ النظرِ والتشجيعِ والتصحيح :" يمكن أن الثقافة تساعدنا على إدارة المشاكل العادية من الحياة اليومية مثل الميلِ إلى الانزعاجِ غيرِ المفيدِ مع الأشخاصِ الذين نحبهم، وفقدان المنظور فيما يتعلقُ بالمسائلِ البسيطة، والتخلي عن التعاطفِ مع الأشخاصِ الذين يستحقون في الواقع تعاطفنا، وأن نقسو على أنفسنا حينما نخطئ. ونحن نعتقد أن العالم حتى هذه اللحظة، لم يَسْتَغِلَ الإمكاناتِ العلاجيةِ الحقيقيةِ للثقافةِ كما هو مطلوب ولا نتعلم كيفيةِ الاستفادةِ منها بطريقةٍ منهجية "

يجد دو بوتون بان مخالفة السائد هو مهمة الفلسفة الاولى وفي كتاب "عزاءات الفلسفة"، يستعين بسقراط للإشادة بالقدرة على مخالفة الآراء السائدة في أي عصر، بل ضرورة وأهمية ذلك في بعض الأحيان. يدعو دو بوتون من خلال هذا النموذج إلى عَدم الانصياع لقوة الجماعة والعقائد المهيمنة على مجتمعٍ ما في لحظةٍ ما، والاحتكام بدلًا من ذلك إلى صوت العقل والضمير، حتّى يبني المرء معتقدات فردية خاصة به دون أن يخشى الاصطدام بجدران المؤسسات والثوابت. غير أنه لا يذهب إلى حد التطرف في دعوته هذه، فيكتب : " يُرينا الفيلسوف سقراط طريقَ النجاة مِن وهمين شديدين: أن ننصت دومًا، أو أن لا ننصت أبدًا، إلى إملاءات الرأي السائد. ولكي نحذو حذوه، سنفوز حتما لو سَعينا ، بدلًا من هذا ، إلى الإنصات دومًا إلى إملاءات العقل".