حول العلاقة بين الحب، والزواج، والألم..حوار مع آلان دو بوتون

Tuesday 26th of January 2021 09:13:36 PM ,
4860 (منارات)
منارات ,

ترجمة: حنان العلياني

سخّر ضيف هذه الحلقة -آلان دو بوتون – نفسه للإجابة على سؤال واحد ورئيسي: كيف نعيش حياة جيّدة؟ ضيفنا هو مؤسس “مدرسة الحياة، وهي مؤسسة عالمية تهدف إلى تطوير الذكاء العاطفي، كما تهدف إلى التطبيق العملي للسيكولوجيا، والفلسفة، والثقافة في حياتنا اليومية. يتميز ضيفنا في كتبه ومقالاته ومحاضراته بأسلوبه السهل والممتع، وهو ما خلق له جمهورًا عريضًا من القراء، وقد سبق وأن تُرجمت بعض أعماله إلى العربية مثل كتابي عزاءات الفلسفة وكيف يمكن لبروست أن يغير حياتك، كما تُرجمت أشهر مقالاته لم ستتزوج الشخص الخطأ على حكمة. آلان دو بوتون، يسعدني أن أرحب بك ضيفًا على حكمة في حوار لعله الأول لك عربيًا.

- من الفيلسوف الذي كان له الأثر الأكبر على آلان دو بوتون؟ ولماذا؟

لم أكُنْ سأُصْبِحُ ما أنا عليهِ الآن لو أنني لمْ أكتشف في بداياتِ العشريناتِ من عُمُري أعمالَ الأكاديمي وكاتب المقالاتِ الفرنسي رولان بارت.

كثيراً ما أحسستُ بالارتباك تجاه حنيني للكتابةِ في سنواتِ دراستي الجامعية، ولم يكن لديّ تصورٌ عما سأصبح عليه ككاتب، فلم يمر عليّ حينها ما يُمكِنُ أن يقدِّم لي الشجاعة للشروع في الكتابة. لم أكن متحمساً كفايةً للروايات، ولم أكن قادراً على أن أقْصُصُ حكايةً واحدة، ولكن الرواياتُ الواقعيةُ التي عَرَفْتُها آنذاك، كانت موضوعيّةً ولا تُثير اهتمام القارئ أو شيئاً من هذا القبيل، أما المذكرات، فكانت تفتقرُ إلى الأساسِ الفكري الذي لطالما احتجتُ إليه. ثم ما لبثتُ أنِ اكتشفتُ هذا الكاتب الفرنسي رولان بارت، الذي جعلني أتعلَمَ طريقةً جديدةً في الكتابةِ الواقعية. كانت جُلُّ أعماله حولَ الأشياء الأكثر من عادية، كمسحوقِ الغسيل وبرج إيفل والوقوع في الحب والتنانير ذات الأطراف القصيرة والطويلة وصور والدته.

ولكن في نفس الوقت، كان له تأثيرٌ على هذه المواضيع حينما استحضرَ التعليم التقليدي والعقلية الفلسفية. عرف بارت كيف يربط بين الكاتب المسرحي جان راسين والعطل الصيفية، وبين المفكر فرويد وتَرَقُب مهاتفةَ الحبيب. حيث لَفَظَتْ أعمالُهُ البَوْنُ الشاسع بين طَرَفَيّ النقيض التي اتّسَمَتْ بها أعمالُ أغلب الفنانين المعاصرين أمثال الشاعر الأيرلندي جيمس جويس ونظيره صمويل بكيت، والفنان مارسيل دوشامب ونظيره جوزيف كورنيل. تميّز بارت بنظرته الثاقبة لرؤية أدقِّ التفاصيل في المواضيع العميقة. كان بارت مُبْتَكِراً في أسلوبه وفي عرض مؤلفاته كغيره من الفنانين المعاصرين (توزعت أعماله بين البنوية ومابعد البنوية)، حيث حَمَلَتْ كُتُبُه الكثيرَ من الصور، والتلاعبِ بالخطوطِ المختلفة. كتبَ بارت كتاباً كاملاً بعنوان: س/ز، والذي تمحور حول قصةٍ قصيرةٍ لـ بلزاك، والتي تميّزتْ بتحليلِ كُلُّ سطرٍ بطريقةٍ لاتخلو من الهوس والتدقيق الموسوعيّ. لكن كتاباته لم تخلو من الحسّ التقليدي المتّسِم بالاتزانِ وضبط النفس. مشى بارت على خُطَى “الأخلاقيون” الفرنسيون (والذين لم أسمع بهم من قبل إلا من كتابات بارت)، أمثال الحكيم الفرنسي فرانسوا دي لا روش فوكولد وميشيل دي مونتين (رائد المقالة الحديثة) والأديب الفرنسي جان دي لا برويير والكاتب الفرنسي نيقولا شامفور. ألهمتني كُتُبُ بارت التي تَلَتْ هذا الكتاب وحتى آخرِ كتابٍ لَه، فكتابُ “شذراتٌ من خطابِ محب” ساعدني في تشكيلِ ملامح كتابي الأول في موضوع الحب. وماكتبه عن “راسين” و”بكيت” بوصفهم أبآءاً روحيين لكتاب “كيف غيّر بروست حياتك”، فالتأثير لم يكن على مستوى الأفكار بقدر ما كان على مستوى الأسلوب والنهج الذي اتبعه.

- تروّج حضرتك للفلسفة كطريقة لعيش الحياة وتقبل الموت. تعني الحياةُ الكريمةُ في عصرٍ العولمةٍ والاقتصاد المالي أشياءً مختلفة على غرار: معرفة معلومات وبيانات أكثر، وأن تكون خبيراً بشيءٍ ما. ونجد الفلاسفة في المقابل لا يتفقون على أي شيء، وهذه هي ماهية الفلسفة، وعليه قد يقولُ قائل أن الفلسفة ليست إلا مضيعة للوقت، فما هو تعليقك؟

أؤمن بمبدأ التعليم العاطفي، حيثُ يُصَمم التعليمُ لتحصيننا من نقيصتين اثنتين. الأولى: أننا لا نعيش فترةً طويلةً تمكننا من معرفةِ كل ما يجب علينا معرفته في هذه الحياة، والثانية: أن كل فردٍ منا يتسم بالغباء إلى حدٍّ ما. ولكننا –نظرياً على الأقل وبفضل التعليم- نستطيع في غضون سنواتٍ قليلة أن نبيني مخزوناً من الرؤى التي تتطلب من العباقرة سنيناً للحصول عليها. ثمرةُ آلافٍ من السنينِ من التفكيرِ المُتَبَحّرِ في علمٍ من العلوم قابِلٌ للاختزالِ في مجموعةِ كتبٍ في غضون ساعاتٍ معدودة. يُساهم النظام التعليمي في الفائدةِ الجماعيةِ بخلق لحظاتٍ وامضة من الذكاء الفردي، فيُسَاهِم في استقرار الذروة لعقولنا الفوضوية والصفيقة، وإطالة نجاتها في فترة العمر الافتراضي الواحد إلى ما لانهاية. فهي تسمح للغباءِ أن يَحْصُدَ محصول النبوغ، فالتعليم يسمحُ لنا بأن نحظى بحياةٍ نتمتع فيها بذكاءٍ أكثر مما نحن عليه. فغالبيتنا –كلٌّ على حدة- لسنا بأذكى من بقرةٍ أو طائر، ولكن على عكس الحيوانات، نمتلك القدرة على التعلّم من الأذكى في القطيع. فيشفع لنا أننا بين الفترة والأخرى نرتاد للذهاب إلى المدرسة. ولكن السؤال هو: ماهي المدارس الموجودة؟ فلدينا مدارس لتعليم الطيرانِ وجراحةِ الأعصابِ والهندسةِ الماليةِ وإدارةِ التوريدِ، فنحنُ قادرونَ على تعليمِ خصائص البلوتونيوم والمبادئ الكهرومغناطيسية، ونملك معلومات عن جسيمات البنتا كواركات ونظرية الكروموديناميكا الكمومية. ولكننا مازلنا انتقائيين في المجالات التي نرغب بتثقيف أنفسنا فيها، فنحن نقلقُ قلقاً بالغاً على من يُدرّس أبناءنا مادة الرياضيات، ولا نلقي بالاً لمدى جاهزيتهم للتأقلمِ مع الحياةِ الزوجيةِ أو التوتر. فطاقاتنا موجهةٌ للأسئلةِ الماديةِ والعلميةِ والتقنية، لا إلى الأسئلةِ النفسيةِ والعاطفية.

نتعلَمُ الكثيرَ في المدارسِ وفي فصولنا الدراسية عن الصفائحِ التكتونية، وتكوّن السُحُب، ولا نتعلّمُ ما يكفي عن كيف ينشأ الغضبُ أو آلية الحب، ونُعَلّم الكثير عن خصائص السبائك المعدنية، والقليل عن الحسد والشعور بالذنب. فكما لو أننا نعتقد ضمنياً بأن الإدراك العاطفي في جوهره شيءٌ غير قابل للتعَلُّم، وبعيدٌ كل البعدِ عن المنطقِ والمنهجية. وعليه فإننا نجد أنفسنا ننبذُ الغريزة الفردية والحدس. إننا نترك الجميع يبحثون في متاهة مشاعرهم على طريقتهم الخاصة، وكخطوةٍ قويةٍ وحكيمةٍ، أقتَرِحُ أن يُعيدَ كلُّ جيلٍ اكتشاف قوانين الفيزياء بمفردهم. تحيزنا أثقَلَ كاهِلَنا: تزامنَ التقدمُ الاستثنائي في المجالاتِ الماديةِ والتكنولوجيةِ مع الركودِ النفسي. فنحنُ أقلُّ حكمةً من السومريين، وخبراء في تغييرِ أماكنَ إقامتنا، بينما نبقى مبتدئين في استخدام وظائفنا الذهنية. بحوزتنا تقنية الحضارات المتقدمة على المستوى لعاطفي التي لم تتغير من عصر الكهوف. إننا قادرون على التنقل في الكون بسرعة أسرع من الصوت، ونعاني في التعامل مع المحتوى الجامح في الفص الأمامي من أدمغتنا. نمتلك الشهية والغضب المدمر في الكائنات الرئيسيات البداية والمتمثلة في امتلاك الرؤوس النووية. تعريفنا لمفهوم الذكاء سببٌ لذلك جزئياً، حيث اُستخدمت من دون تمييزٍ بين معانيها الكثيرة وغير المتوافقة، فنميلُ للاعتقادِ بأن الذكاء الحقيقي قد يعني شيئاً من قبيل جمع الشهادات من جامعاتٍ مرموقة، والبراعةُ في حل المشاكل التقنية والتحديات التجارية. نثور ضد بعض حدود تصنيفاتنا، فنلاحظ فيما نصنفه بالحيوات الذكية أنواعاً من الحماقة القوية والمستمرة والمتسقة جنباً إلى جنب بطريقة اعتيادية، وتحتفي بأشكالٍ من الألمعية. فنتعجب أنّى لها أن تكون بهذا الشكل الألمعي وفي نفس الوقت تكون مشوشة، أنَى لها أن تكونَ فطِنةً وميالةً للانتقامِ وعدم التصالح في ذاتِ الوقت، حياةٌ يشيد بها النظام التعليمي، ولكنها مهزومةٌ من العالم. نحن على شفى حفرةٍ من الاحتمالات المبهمة، فالحاجة ماسة لمصطلحٍ يلتقطُ معنىً صريحاً وواضحاً، ولا يقل أهمية عن القدرات العقلية.

يمكننا جمع خمسةُ مهاراتٍ إدراكيةٍ مميّزة تحت عبارة “الذكاء الاجتماعي”: فِهْمُ الانسانِ لذاته (تاريخه النفسي، وأعماله الروحية، وتمَكُّنهِ من مشاعره ونضجها)؛ المقدرة على الإحساس بالآخرين والتعايش معهم (بتوفر القدر المطلوب من الصبر والمسامحة والسكينة والإحسان وحسن الظن)، واكتسابِ موهبةِ التعاملِ في العلاقات (بكل ما تتطلّبُه هذه العلاقات من التواصلِ واظهارِ الضعفِ والكرمِ والحسِ الفكاهي وتفَهُمِ الرغباتِ الجنسية وتقديم بعضِ التنازُلاتِ)، وفهم الركائز العاطفية لهذا العالم العملي، والانفتاح على مشاعر الشكر والتقدير مع التكيف مع الألم بما يحفظ الكرامة، والتكيف مع الخسارة والوفاة. أوجه القصور في هذا المقام هي انعدام وجود الاهتمامات الثانوية بكل أسف، فكل شيء يمكن أن يُشّكل خطأً كارثياً مثل أسوأ الأخطاء التي قد تحصل في المجال المادي أو التقني. تتنازل حياتنا بسهولة عن أبعادها العاطفية كما هو الحال في التأثير الأكبر لاقتصادنا وسياساتنا وحروبنا.

- ذكرت في كتابك “عزاءات الفلسفة ” بأن باعة الكتب يمثلون وجهةً قيّمة لمن يشعر بالوحدة، أخذاً بعين الاعتبار عدد الكتب التي كُتبت لأن مؤلفيها لم يجدوا من يتجاذب أطراف الحديث معهم، فهل يشعر آلان دو بوتون بالوحدة بطريقة ما؟

لعله يوجد عددٌ من الاعترافاتِ المسببةِ للحرجِ والتي يمكن أن نبوح بها عدا كوننا وحيدين، فالفرضية الأساسية هي أنه لا يوجدُ شخصٌ محترمٌ قد يشعرُ بأنه معزولٌ قط، إلا إذا غيّر بلده أو أصبح أرملاً/أرملة. لكنّ الحقيقةَ الجليةَ هي أنّ أقصى درجاتِ الوحدةِ هي جزءٌ لا يُمْكِنُ تغييره من تكوين الانسان الحسّاس والذكي، هي صفةٌ أساسيّةٌ في الوجودِ المُعَقّدِ للإنسانِ وتكوينه، ولهذا عدةُ أسبابٍ جوهرية:

اعتراف وإقرار الآخرين باحتياجاتنا – مع أننا نشعرُ بالراحةِ لمشاركةِ غالبيةِ هذ الاحتياجات، سيكون مزعجاً للمجتمع ككل. فكثيرٌ من الأفكار القابعة في خبايا عقولنا غريبةٌ أو متناقضةٌ أو حاذقةٌ أو مثيرةٌ لدرجةِ أننا لا نشعرُ بالأمانِ للإفصاح عنها لأي شخصٍ آخر. لذا نجدُ أنفسنا بين خيارين ألا وهما: إما أن نكون صادقين مع أنفسنا، أو نكون مقبولين من الآخرين، ولعلنا نتفَهّمُ اختيارنا للخيار الأخير. يتطلّبُ الاستماع لتجارب حياةِ الآخرين جهداً لا يُستهانُ به لكي يتَمَكّن المستمعُ من التعاطف مع ما يمرون به من تجارب، ولا ينبغي لومُ الآخرين على فَشَلِهِم في التوصلِ لِفَهْمٍ عميقٍ لذواتنا، فلعلّهم يريدون الالتقاء بنا، ولكن يجب أن نتقبل الجهد الذي يبذلونه للحفاظ على أن تكون حياتهم هي محور الحديث معهم. سنرحل عن هذه الدنيا وحيدين، مما يعني أن آلامنا في هذه الحياةِ نتحمَلها وحدنا، وبالرغم من وجود من يشجعنا في هذه الحياة، إلا أننا نُبْحِرُ وحيدين في المحيطِ ونجابه الغرقَ في الأمواجِ العاتية، ومهما بَلَغَتْ لَطَافَةُ الآخرين، فإنَهم سيُلَوّحون بكل هدوء من شاطئ الأمان. من المستبعدِ جداً أن نَجِدَ شخصاً تتوافقُ أرواحنا معه تماماً، على الرغمِ من توقنا للانسجامِ الكاملِ مع هذه الروح، سنجد تنافراً مستمراً، لأننا وجدنا على ظهرِ البسيطةِ في أوقاتٍ مختلفة، فنحن ثمرةُ لاختلافِ العائلاتِ والتجاربِ والخلفياتِ الثقافية. فلن نتفق جميعاً على رأي واحد إذا شاهدنا نفس الفيلم، ولن نتشارك نفس الأفكار حينما ترتفع أعيننا للسماء المزيّنة بالنجوم، فقد تتدفق من أحدنا مشاعرٌ فياضة، وقد تستثار مشاعرُ الشَجَنِ والحُزْنِ في نفوسِ بعضنا لاسترجاعهم تفاصيلاً مؤلمة عن حياته الخاصة، الأمر فعلاً مُحَيّرٌ لدرجةِ الفكاهة.

لن نجدَ الأشخاصَ المناسبين ليفهموننا على الأغلب، ولكنهم متواجدون حولنا وإن لم تسنحِ لنا الفرصة لنلتقيهم. فلعلنا مررنا بهم في الشارع، حتى وإن لم يكن لدينا أدنى فكرة عن إمكانية التواصل معهم. ولربما أخذهم الموت قبل أسبوعين في مدينة بعيدة، أو لم يُكتب لهم أن يُخلَقوا إلا في القرن الثاني والعشرين، فهذه ليست مؤامرة، ولكننا نحتاج جرعةَ حظٍ زائدةٍ لنتواجدَ معهم.

وقد يزيدُ الطين بلّة لو كنا أشخاصاً عميقي التفكير وحاديّ التبصر، فتَقِلُّ إمكانية وجودُ أشخاصٍ متسقين وذواتنا. أليست تلك بالأسطورةِ الرومانسيةِ القائلةِ بأنّ الوحدةَ هي الضريبة التي يتعيّنُ علينا دَفْعُهَا لِنُكَفّرَ عن الغموضِ والتعقيدِ الذي يَكْتَنِفُ عُقُولَنا؟

فمنذُ زمنٍ بعيد، كانت الرغبةُ العارمةُ في أن يحظى البشرُ بعلاقةٍ حميميةٍ أقوى من الرغبةِ في خَلْقِ حديثٍ مُثْمِر، فينتهي الأمرُ بِنا أنْ نَجِدَ أنفسنا مُحَاصَرِينَ بعلاقاتٍ مع أشخاصٍ لا نجدُ الكثيرَ لِنَقُولُه لهم لمجرد أننا كننا مهتمين بشكل الأنف ولون العينين الجذابتين. وبالرغم من كل ما قيل، من المفترض ألا نكون متوجسين أو مرتبكين بسبب هذه الوحدة المنتشرة. فالكاتب الألماني “غوته” والذي حَظِيَ بالكثيرِ من الأصدقاءِ في حياته، ثارَتْ ثائرتُهُ في لحظةِ غضبٍ قُبَيْل وفاته وقال: “لم يفهمني أحدٌ قط كما ينبغي، ولم أفهم أحداً كما ينبغي، ولم يفهم أي أحد أي شخص آخر”. ثورة غضبه كانت مفيدة، خصوصاً من رجلٍ عظيم كـ “غوته”.

وجود درجة من التباعد بين الشخصيات وحالة اللاتفاهم المتبادلة ليست علامة على أن الحياة سلكت بنا مسلكاً خاطئاً، فهذا ليس خطأنا، بل كان حرياً بنا أن نتوقعه بادئ ذي بدء، وحينما نفعل ذلك ستنهلّ علينا الفوائد:

عندما نتقبل حالة الوحدة، فإننا نصبح مُبْدِعِين، فعلى سبيل المثال: تُلْهِمُنَا الوحدةُ لكتابةِ رسالةٍ ووضعها في قارورة، والوحدةُ تدفعنا للغناءِ ولكتابةِ الشعرِ ولتأليفِ الكتبِ والمدونات. هذه النشاطاتُ تنْبَثِقُ من إدراكنا بأنّ الأشخاصَ حولنا لم يفهمونا بصورةٍ أفضل، قد يكون هناك من يمكنه أن يفهمنا، ولكن يَفْصِل بيننا وبينهم عوائقُ الزمانِ والمكان. يُعدُّ التاريخ الفني سجلٌ للناسِ الذين لم يحظوا بفرصةِ تواجدِ من يتجاذبون معهم أطراف الحديث بالقربِ منهم، فيمكننا استخراجُ رموزِ الحميميةِ في ثنايا كلماتِ الشاعر الروماني الذي وافته المنية في السنةِ العاشرةِ قبلَ الميلاد، أو في كلمات المغني الذي يَصِفُ حالةَ الشجنِ التي نمرُّ بها في تسجيلٍ قديم من عامِ 1963 في مدينةِ ناشفيل. تخْلُقُ الوحدةُ في دواخلنا أشخاصاً قادرين على اقتناص الفرصةِ المناسبةِ لعلاقةٍ حميميةٍ، فيما لو حصلت تلك الفرصة، فهي تُعَمِقُ الأحاديثَ التي نحظى بها مع أنفسنا. فالوحدةُ تُضْفي على شخصياتنا خصيصةً فتُمَيّزَها. فلا نجترُّ أراءً ليست لنا، بل نُطَوّرُ أراءَنا الخاصة. قد نكونُ معزولين حالياً، ولكننا أقربُ بكثيرٍ من أن نحظى بروابطٍ مثيرةٍ لاهتمامنا مع أي شخصٍ نحدِدُهُ في نهايةِ المطاف.

حتى الناس الذين نعتقدُ بأنهم لا يعانون من الوحدة، هم وحيدون في الحقيقة. فأولئك الذين لا تفارق البسمةُ محيّاهم في الوقت الحاضر، سيأتونك في أحلكِ أوقاتِ حياتِهم بعدَ تعاقبِ السنين قائلينَ بأنهم يشعرون على الدوام بأن الآخرين لا يفهمونهم فهماً كاملاً. الصداقةُ المقربةُ والتي اتسمت بالمرح في أغلبِ لحظاتِها ليست دليلاُ على أنهم وجدوا ضالتهم، بل هي دليلٌ على اليأسِ الممتدّ الذي يجعلهم يخفونَ حقيقةَ وحْدَتِهم غير القابلةِ للإصلاح. يورثنا شعورُ الوحدةِ شعوراً رائعاً ومغرياً بطريقةٍ غريبة، فيوحي لنا بأننا أكثر من مُجَرّدِ أنماطِ عاديةِ تستوعبها التعاملاتُ الاجتماعيةِ، ولا شك في أن ذلكَ مدعاةٌ للفخرِ، والاحساسُ بالعزلةِ في الحقيقة كما نظنُ – شعور يمنعنا من أن نشعر بخوفٍ من الغطرسة- دليلُ عمقِ في شخصيةِ الانسان. فعندما نعترفُ بشعورنا بالوحدة، فنحن نُوَقِعُ على عضويتنا لناديٍ يضمُّ أناساً تعرفنا عليهم من خلالِ رسوماتِ ادوارد هوبر وقصائدِ الشاعر شارل بولديير وأغاني ليونارد كوهين. يمكننا أن نَلِجَ تجربةً عظيمةً وطويلةً كأشخاصِ يعانون من الوحدة؛ وعجباً نجد أنفسنا محاطين بالرفقاء. الشعورُ بالوحدةِ الدائمةِ والثابتةِ أفضل من المعاناةِ مع التنازلاتِ في مجتمعٍ كاذبٍ غالباً فالوحدةُ بكلّ بساطةٍ ثمنٌ قد ندفعه لتَمَسُكِنا بأرائنا الصادقةِ والطموحةٍ لِما يجبُ على الرفقةِ أن تكونَ عليه.

- ذكرتَ أن الحب يعني أن نكشِفَ عن مساوئ الشُرَكاءِ، وأن نُعْطِي أفضَلَ التفسيراتِ بسخاءٍ لِمَا قد يُصرّحُون بِهِ. فكيفَ نحصل على هذا، بينما نحنُ في حقيقتنا كائناتٌ خطرة؟

يتصَرّفُ الأطفالُ الصغارِ بطريقةٍ غيرِ عادلةٍ وصادمةٍ بصورةٍ مثيرة في بعضِ الأحيان: يصرخون على من يعتني بهم، يدفعون بغضبٍ عارم وعاءً من المعكرونة ذات الأشكالِ الطريفة، ويرمون شيئاً جلبْتَهُ للتو لهم. لكننا نادراً ما نشعرُ بالاستياءِ أو الجرحِ بسببِ تَصَرّفِهِم. السبب في ذلك أننا لا نفترضُ في الأطفالِ الصغارِ الدافعَ السلبي، أو النيةِ السيئة. نتَوصّلُ إلى التفسيرات التي تُؤكْد على خيريتهم. لا نعتقدُ بأنهم يفعلون ذلك لمجردِ اغضابنا. نفترضُ بأنّ سببَ ذلكَ أنّهُم يشْعُرُون بالتعبِ، أو يعانون من لثةٍ متورمة، أو أنهم غاضبون بسببِ ولادةِ فردٍ جديدٍ في العائلة. لدينا مخزونٌ هائلٌ من التفسيراتِ البديلةِ والجاهزةِ في أذهَانِنَا، ولا يَقُودُنَا سبَبٌ واحدٌ من هذهِ الأسبابِ إلى الذُعْرِ أو الاهتياجِ بصورةٍ رهيبة. هذا على عكس ما يحصُلُ مع البالغينَ بالمجمل، ومع من نُحِبُهُم على وَجْهِ الخُصُوص. ها نَحنُ أولاءِ نَتَخَيّلُ أنّ الآخرينَ يتَقَصّدوننا بأفعالهم. حينما يتأخرُ الشريكُ عن عيدِ ميلادِ أُمِنا بسببِ العمل، نَفْتَرِضُ أنهم يتَحَجّجُونَ بذلك. إذا وعدونا بأن يبتاعوا لنا معجون أسنانٍ إضافي ثم “نسوا” ذلك، فإننا نفترض أنهم تعمدوا ذلك. ربما يتلذوذن بفكرة أن يتسببوا لنا بقليلٍ من الضيق. لكن لو طَبَقّنَا التفسيرَ الذي نَجْنَحُ إليه في حالةِ الأطفال، سيَكُونُ أولَ افتراضٍ يتبَادَرُ لأذهاننا مُخْتَلِفاً جداً: ربما لم يحظوا بقسطٍ من النومِ الليلةِ الفائتةِ، ولا يفكرون بطريقةٍ واضحةٍ بسببِ الاجهاد، وربما يُعانُون من ألمٍ في الرُكْبَة، وربما يَقومون بعملِ ما يُعَادِلُ اختبارَ حدود التسامُحِ الأبَويّ.

لا يصبح سلوكُ البالغين لطيفاً أو مقبولاً بطريقةٍ سحرية من وجهةِ النظرِ هذه، ولكن دَرَجَةُ الانزعاجِ تبقى في حدودٍ ضئيلة. إنه لأمرٌ مثيرٌ أننا نعيشُ في عالمٍ نتعلّمُ فيهِ كيفَ نكونُ لَطِيفِينَ مَعَ الأطفال; فحتماً سيكون لطيفاً أكثر أن نُصْبِحَ كُرَمَاءَ تجاه الجانبِ الطفولي في داخلِ كُلّ واحدٍ منا. ليست مرحلةَ البلوغِ مرحلةً يبْلُغَ مَدَاها منتهاها; فما نسميه الطفولة (تبقى مغمورة ولكن مهمة) في حياتنا. لذلك فإن بعض من الممارسات التي نفعلها بسهولةٍ نسبياً مع الأطفال، يجب أن تستمر للأبد، لتكونَ ذاتَ صِلَةٍ عندما نتعامل مع الكبار. إن إعادة التصوّر التصحيحية، والدقيقة، في داخل حيواتِ الآخرين، جزءٌ من التفكيرِ التعاطفي الذي نحتَاجُهُ باستمرارٍ للقيامِ به مع من حولِنا. نحنُ بحاجةٍ إلى تَخَيّلِ الاضطرابِ، وخيبةِ الأملِ، والقلقِ، والارتباكِ الهائلِ في الناسِ الذين قد يبدو عَلَيْهِم ظاهريا العداونيةُ واللؤم. حينما ننُظر إلى بعضِ أخطاءِ الرُفَقَاءِ كما نَظْرَتُنَا لأخطاءِ الأطفالِ، فإننا نَفْعَلُ لَهُمْ صَنِيعَاً. نُدْرِكُ تماماً بأنّ النَظَرَ لِتَصَرُفَاتِنَا وكأننا أَصْغَرُ مما نحنُ عَلَيْهِ يَنُمُّ عن مُرَاعَاة، وننسى أحياناً أنّ الامْتِيَازَ الكبيرَ الذي يُمْكِنُ أنْ يَحْظَى بِهِ أيُ شَخْصٍ هو أنْ تَكُونَ النَظْرَةُ لَهُ أبْعَدَ مِن أنه شَخْصٌ بالِغٌ للتَعَامِلِ مَع –ومسامحة- الإخفاقاتِ، أو الغضبِ، أو العَجَزِ عن التعبيرِ عنِ الذات، أو الجَرْحِ في ذاكَ الطفلِ الذي بدَاخِلِهِ.

عن موقع الحكمة