الشعر السردي الغنائي في طيور الفريد سمعان

Wednesday 13th of January 2021 06:45:12 PM ,
4851 (عراقيون)
عراقيون ,

عبد العزيز لازم /المدى

كاتب راحل

تميزت الأعمال الشعرية والدرامية للشاعر العريق الفريد سمعان بقوة الخيال وقوة العاطفة المنحازة لقضايا الإنسان المصيرية انطلاقا من همومه اليومية .

نلمس ذلك حتى في قصائده السياسية التحريضية المباشرة ، فهو لايكف عن ملامسة نقاط الوجدان الشعبي ارتباطا بما يحصل في واقع الحياة ، وينعكس الكشف الوجداني الذي يتوصل اليه بشكل جمرة متأججة تؤثث البنية اللفظية في قصائده . وتأتي مفردة "الطيور" لتعطي دلالتين مترابطتين أولاهما فكرة التحليق وثانيتهما معنى الكائن الحي الذي يمتلك القدرة على الطيران . وكلتاهما عاليتا البث الدلالي والحركي داخل النص الأدبي .

لقد رافقت المفردة مجمل الشغل الثقافي البشري عبر العصور فكانت دائما عنصرا رئيسا في البنى الملحمية والأسطورية بل وقدمت أفرشة ثرية للحكايات الشعبية التي تتحدث عن الأبطال الخارقين للحدود بين البلدان . أي أن الكائنات الطائرة هي المخلوقات الوحيدة التي تعبر تضاريس العالم وتعتبره بيتها الكبير ، هذه الصفة بالذات هي التي دعت الشعراء وذوي الخيال المنفلت للاستنجاد بالطيور لتحمل مشكلاتهم الفلسفية وشغفهم بالتحليق . لقد وصف جون شتاينبك المثقفين بانهم كالطيور المحلقة عاليا التي لا تعرف التمييز بين حدود البلدان وهذا يعني قدرة هؤلاء على احتواء الكون عن طريق خاصية التحليق عاليا في أحلامهم ورؤاهم . لكن الفريد سمعان استطاع بدأب فريد الاغتراف المحسوب من وقائع الحياة التي خبرها شخصيا وتحميلها المدلولات المطلوبة ثم شدها على ظهور طيوره وأحلامه لتسيح خلل البقاع الزرق الشاسعة ، وهذا ما اكسب الكثيرمن أعماله ومنها قصيدة "الطيور" بعدا ملحميا عالي الغور رغم بساطة لغته الشعرية . وقد وجد الشاعر في شعر النثر الذي هيمن على قصائد مجموعته رحابة سردية بما يلائم الأجواء الملحمية .

من الناحية الإجناسية يمكن تصنيف قصيدة "الطيور" التي تضمنها ديوانه الذي يحمل نفس العنوان ضمن مصطلح القصيدة التحادثية Conversational Poem"" ، وهو تيار شعري انطلق على يد الشاعر الرومانسي والفيلسوف الانكليزي "سامويل تايلور كويريج " عام 1790 ومن اشتغالات هذا التيار الشعري الذي أنجبته المرحلة الرومانسية في الشعر العالمي هو ممارسة التأمل العاطفي باستلهام حقائق الحياة اليومية وتقوم البنية السردية الشعرية على التخاطب مع كائنات الطبيعة والبوح لها بمكنوتات الذات والاستماع الى أصواتها الداخلية التي تطلقها كينونتها الطبيعية . و كانت قصيدة كولرج الشهيرة " العندليب" تجسيدا تطبيقيا لفكرة التحادث الوجداني بين الانسان والطير حين استحوذ الحبور على ولده عبر علاقة رقيقة مع طائر "العندليب" بعد سماع صوته مما أدى الى نفي العلاقة المألوفة بين الكآبة وطائر العندليب . كما حصل ذلك التحادث مع الطيور في قصيدة " الى قبّرة " للرومانسي بيرسي بيش شيلي وهو احد مجايلي كولريج .

إن "عندليب " الفريد سمعان أو "قبّراته" او "طيوره" تتكون وتخلق دورها السردي الشعري استدرارا للظروف التاريخية العراقية . فتلجأ الى الأسطورة وكذا الأجواء الملحمية والموروث الشعبي لسكب رصيدها الثيمي على بساط المتلقي ناشرة خطابا تحريضيا كثيفا في الأجواء . إنها تطلق رنينا كئيبا منسجما مع معاني الهجرة التي تمارسها الطيور الى أصقاع مجهولة . لكننا سرعان ما ندرك ان تلكم الطيور هي حاملة لمعاني الأحباب الذين اضطروا لمغادرة حواضن أحلامهم بسبب ضروب القهر والاستلاب. وقد أتاح الشاعر لهؤلاء الأحباب ان يتحولوا من طيور الى نجوم ويتبادلوا تلكم الكينونتين لأن كلا من النجوم والطيور يوفران صورة التحليق والنوى بعيدا عن مواطن الروح الأليفة مما يولد حالة الميلانخوليا الخلابة داخل النص وخارجة . وعلى نهج الملاحم في الروي توفر خارطة القصيدة استهلالا حكائيا لتهيئة القارئ لطبيعة الثيمة التي تخوض فيها :

لا شيء في الأفق / وللأرض التي نسكنها / وتحتوي الأخطاء والأحزان

وكل ما تكتمه

رغائب دامية مغموسة بالغدر

والأحقاد

والقتل وحب الذات

واللعب على الحبال

والمحرمات ..

إن تلك الحركة الشعرية تؤدي الى ترطيب الأذهان واستقرارها على خطاب قادم ذي هوية ستنفرج عن لون خاص بها يأخذ امتداداته من الاستهلال . لذلك تبدا القصيدة بسرد ما جرى وتأثيث الحقائق بزخرف المفردات المتأججة وسكبها بأوعية الجمل الشعرية المبثاثة ، فتظهر بنية :" ومنذ آلاف السنين " لتزيح الستار عن سرد ساخن يضم تقنية التساؤل المر حول ما حدث وسيحدث :

لا أدري كيف غادرت

أعشاشها هذه النجوم

ولا كيف مضت .. لعلها سارت

مع قافلة .. مع الغيوم

لعالم

لا صوت فيه للإرهاب

ثم يستمر الجهد اللفظي بسرد النقاط السوداء الاخرى التي يصنعها الإرهاب الذي يظهر باعتباره قوة غاشمة تجتاح العراق وتمعن في عمليات إلغاء الحياة والتخريب بوسائل مختلفة تدربت عليها جيدا ، فهذه القوة تتخذ شكل الوباء الكاسح يجهد السرد في تصويرها ارتباطا بالأفعال التي تمارسها. وبعد ان يستغرق ذلك كل الجزء الأول من القصيدة ، يتحرك الجزء الثاني نحو كائنات ذوات كينونة رئيسة في جسد النص وهي النجوم . إن حركة النجوم تماثل حركة الطيور ، فهي تمارس الهجرة ايضا لكن هجرتها تتميز بصفة الاضطرار على العكس من هجرة الطيور التي هي جزء من طبيعتها . ويمكننا بعد دراسة المكانة السردية الدرامية لكل من الطيور والنجوم ان نحدد حقائق دوريهما فالطيور تحتل مساحة المنقذ او المخلص بينما تحتل النجوم مساحة الضحايا التي لحق بها حيف شاسع أحرق قلب الشاعر وتعامل معها على وفق حجم الحريق الذي داهم وجدانه . وكان من نتائج ذلك ، اللجوء الى الرمز الذي يمكن ان يوفر تصريفا معنويا للضغط المرهق الذي تسببه المأساة ، مأساة الهجرة القسرية بعيدا عن الوطن . يتحادث مع الطيور :

قولي لنا

أيتها الأجنحة المهاجرة

ردي على أسئلة

تعيش في أعماقنا

كل الطيور

في شتى بقاع الأرض

تشتهي الغناء ... والرقص

على الأغصان

أو تناجي بعضها

إلاك ... يا طيورنا

فانت آثرت البكاء والنحيب

يحاول الشاعر هنا سحب المأساة على " طيورنا " التي هي جزء من بيئتها ، اي البيئة العراقية الخاصة التي تعيش عقدة المشكلة الشائكة اي انه مضطر لتجنيس الطيور وإكسابها خصوصية مستمدة من ساحة الأحداث التي يتحدث عنها رغم انه يخاطبها باعتبارها كائنات تتخذ من العالم الواسع وطنا لها . لكن الوطن العراقي مع راهن وقائعه المأساوية يعيش في ضمير الشاعر فيرفع رأسه نحو السماء لالتماس التصريف الضروري لشحن تراجيدي قائم .

مع ذلك لا يكتفي السارد بهذا التصريف فيخاطب القتلة الذين تسببوا في المأساة بروح القوة المتولدة من ثورة الضحايا الممكنة مهددا ومتوعدا:

لكل صرخة صدى

لكل مقلة دموع

لكل شلال هدير صاخب

لسوف تأتيكم غدا

رسائل الحقد العراقي الأصيل

وسوف تنهال على أوكاركم

عواصف من الغضب .......

.........................

غدا يقودكم الى مزبلة التاريخ

جيش الشرفاء

ثم يعود الشاعر في ختام القصيدة الى الغناء المباشر فيودع شيئا من وصاياه الى الطيور :

أيتها الطيور

احملي أنفاسنا الى بيادر الحب

الى خمائل اللذات

والجنائن المعلقة

وضمدي الجراح والآهات

بباقات الأمل

الشاعر هنا يمارس الانسجام الغنائي مع بيئته فكثيرا ما تغنى الناس بهذه الكائنات الجميلة والبريئة وتحميلها رسائل وجعهم لإبلاغها الى أحبابهم . ولازال الناس يتذكرون كلمات مغنيهم المهاجر يخاطب الطيور ويطلب منها الذهاب الى أهله للسلام عليهم واستجلاب رائحتهم اليه وإبلاغهم عن وجع الفراق ، وبذلك يتوصل الشاعر الى تحقيق الانتماء الصميمي المخلص الى إرث بلاده التاريخي والوجداني . إن سمعانا يواصل تأكيد مصداقيته في تجذر حالة الانتماء عنده الى حضن الشعب العراقي وتاريخه وينشأ الشعر لديه خطابا انثياليا جامحا لنشر رسائل الشعب وطليعته المثقفة الى آفاقها الرحبة . انه يقيم الوحدة الراسخة بين النضال السياسي الأمين المصرار والشعر . وبذلك استحق ان يكون شاعر الشعب.

سبق ان نشرت في جريدة المدى 2014