أول دخولي بغداد سنة 1932

Sunday 27th of December 2020 06:51:05 PM ,
4840 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

أمين الريحاني

فمن الجمرك إلى جسرمود جادة كانت ترابا في الصيف، ووحلًا في الشتاء، وهي اليوم شارع واسع مزفَّت مشجَّر، أطُلق عليه اسم الملك فيصل، إلا أن في ساحته عند الجسرجنينة مدورة تشكو العطش والإهمال، وتشتاق الزهور!

وفي هذه الساحة، وسط الجنينة، تمثال الملك فيصل في القيافة العربية، على جواد شبه عربي، صنعه المثال الإيطالي المشهور بياترو كانونيكا. وقد صنع أيضًا تمثال عبد المحسن السعدون القائم في باب شرقي. أقف عند هذين التمثالين لأقول الكلمة الواجب قولها، لا تأسُفًا على خمسة آلاف الدنانير ثمنهما، ولا تنقصًا من شهرة صانعهما، بل تنبيهًا للحكومة العراقية التي تحتاج حقٍّا إلى مستشار في الفنون الجميلة، فلا تُقدِم مرة أخرى على هذه مثل هذه الفعلة في تكريم رجالها الخالدين ،إن في هذين التمثالين البرهان الموجع على افتتاننا بما هو للغربيين من الآثار الفنية، وعلى ظننا أنها كلها ممتازة، وعلى جهلنا بما يكون من إسفاف الفنان الغربي، إذا انتُدب لعمل وطني فني في بلادنا.

إني على يقين أن حاضرهذين التمثالين لخير من مستقبلهما.فإنهما قائمان اليوم فوق مرمر سدَّتيهما بسلام وأمان. أما غدًا، عندما تنشأ الفنون الجميلة في البلاد، وينبغ في الأمة الفنانون، ويصبح المثقف البغدادي في تذوقه جمال الفن، كما هو في تذوقه الشعر والأدب، فلا أمان على التمثالين ولا سلام.

غدًا تحمل صحافة بغداد عليهما؛ لأنهما من سقط المتاع، لا فن فيهما ولا حقيقة، ولا الوقفة « عبد المحسن » لا الوجه وجه فيصل ولا الجواد جوادًا فيصليٍّا، ولا الوجه وجه وقفةً من وقفاته الوطنية الرائعة. غدًا — أقول — يحم القِدر، فيثور ثائر الشعب على التمثالين، فينزعهما من مكانيهما، ويرمي بهما في دجلة، غير آسف على تلك الدنانير التي قبضها ذلك الفنان الإيطالي، ثم تنتدب الحكومة العراقية، التي تكون قد استنارت بنور الفنون، مثَّالًا عراقيٍّا أو سوريٍّا أو مصريٍّا ليصنع للرجلين الخالدين ما يليق بهما من التمثيل بالصُفر أو بالرخام. عندئذ يتم التكريم لهما، وخصوصًا للملك فيصل في ذكرَيه— شارعه وتمثاله.

هيا بنا، قد انفتح الجسر، وهو لا يزال ذلك الجسر الخشبي الذي يُفتح مرتين في النهار لعبور السفن. ولا يزال القسم الذي يُفتح منه كما كان. أما القسم الأكبر فقد فُرش مَمَرُّ السيارات منه بالزفت، فخفت الأصوات تحت الدواليب. والعلَمان — تبارك العلَمان الأبيض والأحمر — فهما مقيمان على عهد مخترعهما العبقري، فلا يزالان قيد أيد بشرية ترفعهما وتخفضهما لضبط سير بين الكرخ والرصافة، وهما على ما يظهر من الآثار الفنية الخالدة، تبارك العلمان.

أما ونحن الآن في بغداد للمرة الثانية فإننا نتوكل، بعد الله، على الملازم راسم سردست ليهدينا إلى ما أصُلح وأنُشئ وجُدد خلال السنين العشر الأخيرة. إن أولها النزُل ذات الأسماء الإنكليزية المضللة — نزل وندزور، نزل كارلتون، نزل كرزون، نزل مادجستك وأحسنها، هو هذا النزل الذي نحن فيه، فقد كان اسمه نزل مود، فتغير بعد ذلك مرارًا،وصار يُدعى نيغريس بالاس؛ أي قصردجلة.إنه صادق في الشطر الأخير من اسمه، فهو على دجلة. أما الشطر الأول فهومثل أسماء النزل الأخرى كذب وتضليل. ليس في بغداد اليوم قصور، إلا إذا قلنا قول القاموس: إن القصركل بيت من حجر، وقد سُمي كذلك لاقتصاره على بقعة من الأرض بخلاف بيوت الشعر، فلا ينتقل مثلها. إذن كل بيوت بغداد قصور. إما إذا كان القصر قصرًا لقصور الناس عن الارتقاء إليه — لا نزال رهن القاموس — فليس في بغداد قصر واحد؛ لأن أعلى بيوتها لا تتجاوز الثلاث طبقات، ولا يقصر دون ارتقائها لا العُرْج ولا ذو الفتوق.

لنصرف النظر عن الاسم إذن، ونسرحه في هذه الغرف القائمة حول صحن كبير التي ينشد فيها المسافرون — وجلهم من الأوروبيين — الراحة والهناء — والأوروبي من مأكول ومشروب، وإنهم ليجدون كل ذلك. ويجدون فوق ذلك ما هو حقٍّا جديد؛ أي الغرف المجهزة بالحمامات الخاصة.

كان صحنه بستانًا، فيه أشجار النخيل والرمان«وأزاهر الفل والمرجان، وظلال بينها وشاذروان. ولما زرته ثانية كان قد اضمحل البستان، واختفى ترابه تحت فراش من البلاط الأبيض، وما بقي من أشجاره غير نخلة واحدة، أقامت في قلبه وحيدة، وكان إلى جنبها قسطل من حديد، يرفع رأسه إلى ما فوق صدرها، ويحمل إليها — على ما أظن — روائحَ ما تحت أرض الصحن من مجارير. رثيت حقٍّا لحال تلك النخلة، التي فُرض ذلك الرفيق عليها، فظللته كرمًا، فأفسد جوها لؤمًا. وأظنني لفت نظر المدير يومئذ إلى هذه الفجيعة ،وإنه ليسرني أن أقول الآن إن مدير التيغرس بالاس عمل برأيي، ولكنه تحرى فيه المساواة فقضى على القسطل والنخلة معًا، وقد أمسى الصحن ساحة بيضاء، عارية، جامدة، عقيمة، يتسابق فيها ابن المدير ورفقاؤه على الدراجات، وتدخلها فتحط فيها السيارات. إنا لله …ما دام يوسف الكلداني التلكيفي مديره.

دام المعاونون والخدم من إخوانه الكلدانيين التلكيفيين. فإن أبناء تلكيف متصفون معروفون؛ حيث كانوا بالنشاط والإقدام، والصدق والاستقامة، واللطف والتهذيب. تلك ما قد يكون شائنًا لسمعته ولفضائله غير ذلك ال « قصر دجلة » هي الحقيقة. وليس في الأمريكي، الحافل بالكئوس والقناني، المغري بابنة الدالية، وابنة الشعير الغالية، « بار» الذي يديره ابن عم يوسف، الحذق اللبق، البسام على « بار » وبكراسيه العالية. ذلك ال الدوام، فيمزج العقيق والذهب والمرجان — الوسكي والرُّمَّ والجِن والجان — ولا يبالي،« نعيمه » بما يكون من شأنها في رءوس الشبان، المسلمين والكلدان، الذين يتهافتون عليه تهافت الذباب على أديمه. فيا يوسف، ويا ابن عم يوسف، ارفقوا في الأقل بالشبان العراقيين، وفرِّغوا زجاجاتكم في بطون البريطانيين.

ولا تتشبهوا في مطبخكم بهؤلاء الإنكليز، الذين قد يحسنون كل شيء في الحياة، إلا الأكل وفن المطبخ، فيسلقون الخضر ويحسبونها مطبوخة، ويشوون اللحوم، ويقدمون معها الأبازير والسوائل المقبلة ليكمل طبخها الضيوف، كلٌّ على مائدته. والعجل والثور والخنزير، يا يوسف، إنك فيها عدو العرب، تجيء بالثور في التنك، وتجلب الخنزير بالصناديق، وتطبخ منها وتقدمها — باردة — لأبناء لندن ولا بأس — وتفسد بها — ولا رحمة في قلبك، ولا رحمة عليك — معد العرب وأذواقهم — ودينهم! وماذا يفعل خس بغداد بخنزير يور كشير؟ وما لذة الحبارى، يا ابن تلكيف، وهي تستحيل في مطبخك؟

أما الخدم فإنهم جديرون بالثناء لما يحسنونه من الخدمة، ولما فُطروا عليه من اللطف والمعروف. ولكننا نتقزز من الساكو البيضاء في النهار، ومن الثوب الأسود

الرسمي في الليل، ونحن في بغداد، يا يوسف، لا في لندن، والثوب الرسمي للخدم، إن كان يفتقد الأجسام المعد لها، اللائق بها، وكان يفتقد النظافة والكي بالمكواة الحامية كل يوم، فهو شيء فظيع، ولا نظن أن الإنكليز أنفسهم يستأنسون به، ويرضون عن لابسه. فلو استُغني عنه في نُزُل بغداد، وألُبس الخادم ثوبًا وطنيٍّا، أو ثوبًا نوبيٍّا؛ أي مصريٍّا — قفطانًا أبيض ومنطقة حمراء — لكان ذلك أكثر ملائمة للمكان، وألطف في نظر الضيوف وأجمل. ما سوى هذا فإن نزل يوسف لخير النزل ببغداد.

عن كتاب( قلب العراق 1935)