في ذكرى الفنّان (فؤاد شاكر)..الظل والضوّء.. وما بينهما

Wednesday 23rd of December 2020 06:24:26 PM ,
4838 (عراقيون)
عراقيون ,

جاسم عاصي

الاحتماء بالظِل هروباً من الوقد، والاستدلال بالضوء بحثاً عن الحقيقة، سمتان لن تفارقا صورة الفنان (فؤاد شاكر) فهي مراقبة دائمة، لما هو حوّل الآخرين، مقتربة أكثـر لكي تُحيط بالفنان ذي الحساسية المرهفة إزاء المشاهِد، لقد بقي الظِل حزام الباحث عن لذة الوجود والجدار الذي يحتمي خلفه،

وهو الغطاء الدائم للجسد ، ذلك لأن الفنان ينشط أمام ما يرى ويبحث في أزقة بغداد وحواريها، لكي يقترب من نبض الحياة، مقتفياً آثار سيّرها مجسّداً دقائقها التي تُقاس بالأنفاس، والضوء يمتد أمامه دليلاً للتائه في الزحمة التي حلَّ فيها، فامتلكته على غير حسابها النمطي .

يدخل الجميع المكان، لكن الفنان له طقوسه حين الدخول، تسبقه عين الكاميرا التي استعارت حسّه المرهف، ونظرته الشعرية للأشياء، فكل قطعة من جدار وباب وشرفة وشناشيل في أزقة بغداد تعرفه، لأنه يذكرها بسرها الموروث. فكلما اقترب منها هلّت في وجهه، وتبرجت لا تبرج الجاهلية الأولى، وإنما بقدر سرائرها الذاتية، فهي عروس المكان الشعبي، يستقرئ ما ضمُر في باطنه. ويرى ما بداخل زوايا البيوت دون أن يدخلها، فهو يشمها في حس كاميرته للروائح بقدر الملامح، لأنه مراراً صوّرها، ومراراً تطلع في أشكالها، جدران وشناشيل، وستائر وزخرفات أبوابها ومدّقاتها النحاسية ، مقاهي الحارّة وروّادها من المتعبين، المسطر حيث ينتظر المتعبون الأمل بالعمل، الذين ألفوه وهو يحمل كاميرته على كتفه، فلا يزدحمون عليه لالتقاط صورة، لأنهم يعرفون ؛ أن فؤاد لم يأت إلا من أجلهم، فهو سارد صوّري لحكاياتهم المليئة بالأوجاع. إنه مدوّن لآلامهم المتناسلة طالما هنالك تفاوت طبقي وفئوي في الواقع. لا يشكوه وجعهم وحرمانهم، بل يجدوه يترجمها من خلال الصوّر بدقة قد لا يحسون بها، فهو مصوّرهم الذي يرى غير ما يرون، ويرى ما لا يراه الآخرون السادرون في غيّهم وطمعهم ، فتطمئن قلوبهم . يطمئنها فؤاد بحسّه المرهف، وشعره الصوّري الإنساني وهو يمارس حرفته المغلّفة بالموهبة. فهو موهوب في اقتناص اللقطة، ومرهف في اكتشاف مؤثراتها، العارف بالكيفية التي تُسهم في بلوّرة الرؤى المكينة في تحقيق بنية جمالية لصورته. ولعلَّ حكمة الظهور والاختفاء خلقت له نمطاً من فلسفة، فلسفته الذاتية في رؤية ما حوّله . فالفلسفة ليست في الكتب فحسب ، إنما في عين الكاميرا وريشة التشكيلي، تمارس حراكها كلما ابتدأ الرحيل . فلسفته تنشط كلما اقترب من الضوء، مزيح الظِل الذي يتوّسل له ليُحدد فيضاً لضوّء، يخلق له إطاراً جميلاً، فيتحقق جدل العلاقة في الاختيار . لأنه يهرب من تأثير الكُتل الأسمنتية والمجالات المقفلة نزوعاً نحو فضاء أوسع، بحثاً عن حرية صورته. كان مثل هذا التشوف يلازمه، فيبدو كشاعر هيمان في الأمكنة يبحث عن ملاذ شعري خالص ، ولا ندري لِمَ يندفع إلى المغادرة كلما عنّت له المشاعر الغامضة، فتأخذه الأمكنة بين أذرعها. فهو شاعر الظِل والضوء والزقاق والجدار بكل مكوّناتها. إنه والمكان صنوان لا يفترقان. غير أنه لا يكتفي بما يمنحه من قدرة على التخييل ، كما يفعل فعله عند الساردين، أو من ذوي الغوايات الجميلة. بل كان مكانه ملازماً للمستجّد . لذا فقد لازم المغادرة والدخول كما النهر في جريانه، حالماً بالساحر من الأمكنة. ولعلّه لم يفكر بسحر المكان، غير أن عينه الثالثة من يستنطق رغبته في الكشف. لازمت عينه عين الكاميرا، وأودعتا معاً الحكم للعقل، فكانت الرؤى والرؤيا أكثر نصاعة. صحيح أنه يترك للقطة مسارها الشعري، لكنه اندفع بوعي الضرورة في التمييز والاختيار والبوح . أداته في الأداء الشعري العين السحرية التي أدهشته منذ الصبا، يوم كان الأب يتركه بين يديّ صاحب الكاميرا الشمسية على الرصيف. وحتماً سحره المشهد بقداسته ودهشته، فراح يستسلم لعيّن المصوّراتي، ولا يدري أنه سيدهش الطبيعة باختياراته في يوم ما، ويسحر الرائيين بندرة لقطاته. يجلس أمام العين السحرية، ويقطع أنفاسه كما قال له الأب، خوفاً من أن تفشل المحاولة. وحين يصطف بالقرب من قامة الأب، يبدو ضئيلاً لا يفكر بأنه سوف يكون قامة فنية في قابل الأزمنة، تراوغه مثل هذه العيّن السحرية، لكنه خضع للجنين الذي بدأ ينمو بداخله، والذي يلّح في السؤال منذ بدء لحظة إدخال المصوّر يده ليبحث عن المجهول في صندوقه ، وحين أخرجها ترك خرطوم القماش متهدلاً إلى أسفل الصندوق الصاجي، فتح مجرّاً صغيراً من خاصرة الصندوق المكعب الشكل، أخرج قصاصة مضببه، لا يدري ما هي . الصقها على خشبة امتد عنقها، وراح يداور حركات غامضة. كان كل ما يجري أمامه يدخل في باب الخيال والسحر، وقامته لا تفتأ تنظمّ لقامة الأب. ولحظة فتح المصوّر المجّر تارة أخرى، انكشف سحر الساحر، وظهر المستور. ورقة تقطر ماء ، وأصابعه ذات النهايات الملوّنة بالداكن، كأنها تعرّضت للحرق، وهي تحمل ورقة فيها مربعات تنطبع عليها ملامح وجهه. وابتدأ السؤال، ما الذي أدخله إلى بطن الحوت؟ من أودعه في حاضنة الصندوق؟ فإنه لم يسمع بعد بقصة يونس والحوت والبحر . لكن أدهشه المشهد الذي تركز في السؤال : كيف دخلت بجسدي إلى الصندوق ؟ وكيف خرجت منه بورقة مندّاة ؟ هذه الأسئلة لازمته وكانت تدفعه للبحث عن مثل هذا السحر، لا ليكون ساحراً، بل عارفاً. ليت سر السحر لم يتكشف له. اتسعت الرؤيا ولم تضق عبارة الصورة. كانت اكتشافاته تنضوي في مجال الحرفة والإبداع ، ففي الأولى عرف سر وسحر العيّن، ووسعت رؤيته سحر عينه، وفسحت المجال لعقله أن ينشط على حد رؤية ( مرلوبونتي ) للصورة والمصوِّر. وفي الثانية حرص على أن لا يُبدد نظراته سُدى، بل كان رائده التدقيق في ما يرى ويكتشف، وكان الظِل والضوء، وبالتالي الأسود والأبيض أكثر بلاغة من لغة اللسان، اكتشف أن في الوجود بلاغات متعددة، لذا راح يلاحق بلاغة الصورة، والعمل على استدراج بلاغة عيّن الكاميرا، سحرته الأمكنة ،الشوارع، الأرصفة ،المقاهي، القابعون في اللامأوى، النساء المتلهفات للمعيل، القابعات في قعر التاريخ، الشيوخ المهضومون في الوجود، الجالسون على الأرصفة في المساطر، الشباب الضائع في خضم الفراغ اليومي، الأشعة الساقطة على ظلال الجدران ووشمها، الشجر والنخيل، العمارات التي لا ينكسر ظِلها، والبيوت الآيلة للسقوط، لكنها تستقبل الشمس بوفرة، فيستوطن مساماتها الحر وتحترق جوانبها وتحيلها إلى هياكل أشباح. ويطول صيفها على شتائها خوف السقوط تحت وطأة تساقط المطر، عمال المسطر الذين ينتظرون باستمرار من ينادي عليهم، لكنه تألم حين توالت أخبار استهداف الموت المجاني لهم. كأن لا أمكنة تضم حيوات غيرهم. ساحة الطيران غدت سجلاً للموت. وحمامات ( فائق حسن ) لاذت بقامات الرجال والنساء والصبية الذين أصبحوا أكثر قرباً من بعضهم . هالتهم الاهتزازات فأبوا أن يغادروا اللوّحة، ويستسلموا لقضاة الشر، المتسربون من مدارسهم، والممتهنون حِرَف الذل ، فهم نماذجه الدائمون.

هكذا اتسعت رؤيته من اتساع رؤية الأمكنة التي يدخلها كل يوم وهو في جوّلاته العفوية في مدينة بغداد، غير أن الغربة ضاقت بفؤاد يوماً. ولم تطلقه العزلة عن فرن الوطن، فعاد، وعاش، واكتوى كجمهور المبدعين، الذين ينسلّون من بيننا. لم تطأ أقدامه الرصيف إلا ليكتشف فيه السحر الفطري، ولم يراقب خيوط الشمس، إلا لكوّنها تراوغ الظِل، ولم تبهره صورة الرجل وهو ينفث دخان نرجيلته سوى كوّنه يراقب ما بداخله، وحرص على اختيار اللقطة التي تُعبّر عن هذا السر الذاتي في النموذج . وكانت مراقبته للمتسوّل سواء في الشوارع أو المقاهي أو على قارعة الرصيف حيث المأوى إلا من أجل تسقط سر تاريخ الجماعات، ليكتب تاريخهم، يوثقه بالصورة . إنه مطمئن على أن للصورة الآن بلاغتها ومجالها الحيوي الذي عمل على تنميته (مراد الداغستاني، ناظم رمزي، لطيف العاني، إمري سليم) وتوالت الأجيال حتى غدت تتسع باتساع الرؤى والرؤيا ( فؤاد شاكر، عادل قاسم، جاسم الزبيدي، كفاح الأمين عبد علي مناحي، علي طالب، ناصر عسّاف، صفاء ذياب، رسول الجابري) توزعت في صوّرهم المشاهد واتّحدت مركزّة على الإنسان في الوجود. وفؤاد لم نجده يوماً وهو يفارق كاميرته، ولا استقر به الحال في مكان واحد، بل راح يبحث في الأمكنة. لكن السؤال الذي يراوده: ما الذي يحاول تصويره بعدسة كاميرته حين عاجله شبح الموت.. تألم ؟ فوجئ ؟ اندهش من هو قادم على بعد ؟! هل التقطَ له صورة ؟ هل خضع له ؟ لا أشك في هذا . فالقدر يصعب التحكم في عناصره المتبدلة . غير أنه مصّر على أن يُمسك بكاميرته ويسقطا سوياً في أي الأمكنة، فكلها له ومنه، ولم يتركها نهباً للموت. ولم يخضع لجبروت السقوط على الرصيف، بل مات واقفاً كالأشجار، أو كعمته النخلة الشامخة، لأنه صانع تاريخاً لها، نثرت عليه الطبيعة أزهارها حين غادر الأسود والأبيض، مكللاً بالألوان ، وبالتأكيد اندهش لعظمة كاميرته وسأل: كيف استطاعت أن تختزن كل هذه الألوان ؟ إنها مستحقاته من كل ما راقبه واكتشفت عناصره الجمالية.

فؤاد شاكر ... الذي كلما نظرت إليه، لا يتصدر رؤيتي سوى (إليوشا) دستويفسكي . أنه كان يشبهه في شبابه، بقفطانه الأسود، وياخته القصيرة المنشاة، وشعر رأسه المنسرح على الجانبين . الآن وفي بداية المطاف، كان الأب ( زوسيما ) إني لأرى المعادلة مقلوبة. فقد حضر الأب ليقر اعترافات الابن . لم يكن اعترافه لسيدنا الأب سوى عن تلك العلاقة التي جمعته مع الكاميرا ، فهي سيرته الفنية ، ولا سيرة له مع غيرها ، فلا ضير أن يسترسل في حضرته راهباً مجيداً ومثابراً في حضرة الصورة.