معالم ثقافية بغدادية لاتنسى.. ماكينزي مكتبته الفاخرة

Wednesday 2nd of December 2020 08:42:00 PM ,
4824 (عراقيون)
عراقيون ,

جواد غلوم

كان من النادر جدا ان يزور مثقفو العراق بغداد دون ان يحثّوا الخطى الى مكتبة ماكينزي التي كانت تقع في قلب شارع الرشيد شريان بغداد الثقافي والاقتصادي معا،والتي رفدت المثقف العراقي بكل ماهو جديد وراقٍ في سنوات القرن المنصرم مما كانت تطبعه لندن واوربا عموما من كتب ومؤلفات غاية في الثراء الفكري،

كان معظم روّادها من المثقفين العراقيين التي استهوتهم الثقافة الغربية الى جانب اهتمامهم بتراث اسلافهم فأنجبت عقولا متنورة نتجت عن تلاقح فكري حضاري بين الشرق والغرب، مع ان مؤسسها السيد كينث ماكينزي الاسكتلندي المولد والمحتد حرص كثيرا على تزويد المكتبة بالمؤلفات الانجليزية التي تعنى بثقافة العالم الاسلامي ومنها كتب التراث العربي والتأريخ وادب الرحلات وقد عدت ماكينزي وقتذاك من افضل المكتبات التي تخصصت في العلوم الاسلامية كلها تقريبا اضافة الى بعث التراث العربي الاسلامي واعتبرت مصدرا اساسيا لهذه العلوم ليس في العراق والوطن العربي فحسب وانما في اقطار العالم اجمع .

وكينث ماكنزي هذا قد شدّ رحاله الى بغداد بصحبة صديقه همفري بومان المكتبيّ اللندني العريق الذي توسّم في كينث القدرة على ادارة عمله ونشاطه ببغداد بعد ان وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها العام / 1918 والغريب ان صاحبنا كينيث ماكنزي الجريح في الحرب الاولى والذي لمّا يشفَ تماما بعد لجراحه البليغة ؛ اصرّ هو ورفيقه ان يطّلعا على احتياجات المدارس والمؤسسات التعليمية العراقية من الكتب والتآليف المتنوعة لتكون مصادر للبحث والدراسة في بلادنا وفعلا اتفقا مع الحكومة العراقية على انشاء مكتبة تقوم بتغطية احتياجات الدولة من لوازم وقرطاسية ومصادر ومناهج وتلبية الطلب الذي تريده الدولة لمدارسها ومعاهدها ولجميع المراحل وتم تهيئة مكان مناسب في سراي الدولة لهذا الغرض وكان ماكنزي اول الامر يستلف ماليا من الدولة لإدارة مكتبتهِ بسبب افلاسه وخواء جيبهِ لكنه سرعان ما بدأ يقف على قدميه ويعيد المبالغ التي استلفها من الحكومة واخذ يموّل مكتبته ذاتيا وماهي الاّ بضع سنوات حتى انفصل عنها في العام /1925 واصبحت مستقلة تماما بعد ان حققت ارباحا جيدة واخذ يدير نشاطها ذاتيا ونقلت محتوياتها من موقع السراي التابع للحكومة الى بناية النادي البريطاني الذي كان موقعه في قلب شارع الرشيد (والذي كان يسمّى وقتذاك شارع الجديد لحداثته ورقيّه) بجوار جامع السيّد سلطان علي في منطقة السنك واصبح اسمها باللغة الانجليزية (Mackenzie & Mackenzie Proprietars Bookshop ) منارة للعلم والادب والرقيّ الثقافي الثريّ ومقصدا للمثقفين الباحثين عن المعرفة الرصينة سواء من علوم اسلافنا الاسبقين او مايردنا من الفكر الغربي من ثقافة الحداثة والتنوير.

ثمّ انتقلت مرة اخرى بكامل محتوياتها الى بناية جديدة اخرى في احد محلات بناية (لينج) التابعة للبريطانيين وكان موقعها في شارع الرشيد ايضا.

اتسعت رحلات ماكينزي المكوكية بين بغداد ولندن واخذت الطرود الخاصة بالكتب تتناقل بين حين واخر بين العاصمتين حتى ان احدث المؤلفات التي تصدر في لندن سرعان ماتراها في بغداد في غضون شهر واحد وهذه المؤلفات التي كان ينتقيها ماكينزي كانت تخص مجالات العلوم والاداب والفنون كافة ولم تعد تقتصر على المناهج الدراسية والمصادر العلمية التي كانت مطلب الدولة حصرا.

وفي احدى زياراته المتكررة للعاصمة البريطانية، شدّه الشوق والحنين الى ملاعب صباه ومسقط رأسه في اسكوتلندا التي ولد فيها عام /1880 فقرر زيارة معارفه وما تبقّى من اهله هناك وكانت الصدف الجميلة له بالمرصاد فرأى حبيبة صباه وهي ايضا احدى قريباته وعزم على ان يتزوجها على عجل ودون تباطؤ وفعلا تمت مراسيم الزواج خلال تلك الزيارة وبعد ذلك اصطحبها معه الى بغداد، اذ كانت تلك الفتاة وجه السعد عليه بشكل لم يكن يتوقعه هو نفسه حيث استمرت الطرود البريدية بالضخّ بين بغداد ولندن دون توقّف وامتدّ نشاطها الى مختلف بلدان العالم حتى وصلت الولايات المتحدة الاميركية ومعظم دول آسيا والشرق الادنى مرورا بايران وشبه القارة الهندية شرقا، عدا نشاطها الواسع الذي امتدّ غربا حتى شمل معظم اوروبا.

ولأن السيد ماكينزي مغرمٌ بالعراق وبغداد بالذات الى حدّ الشغف فقد قام بطبع عدة كتب عن العراق في عشرينيات القرن الماضي منها (مراد الى مراد )والذي طبع في لندن سنة/ 1911 لمؤلفته المس غيروترود وقد اعاد هو طبعه في العام/ 1924 على نفقته الخاصة، ويتضمن الكتاب وصفا رائعا ساحرا لهذه المدينة التي يصفها دوما بمدينة السلام والتي احبّته وأحبّها، كما طبع كتبا اخرى مثل (مدن العراق القديمة) لمؤلفته دورثي مكاي وتم طبعه العام /1926 وكتاب (طريق الصحراء من بيروت الى بغداد) للمؤلفة نفسها وكتاب تشارلس هوبر المسمّى (القانون الدستوري في العراق) والذي طبعه العام /1928 وغيرها وغيرها الكثير فيما يخصّ الشأن العراقي حصرا اما بقية مطبوعاته في الشؤون الاخرى فيصعب حصرها في هذه المقالة القصيرة .

ونظرا لكثافة الطلبات على مطبوعات مكتبة ماكينزي وصعوبة تلبيتها كلها وعدم قدرته وحده على تسيير نشاطها الآخذ بالتزايد بوتائر سريعة فقد اضطر الى الاستعانة بصهره وشقيق زوجته الاسكتلندية السيد " دونالد ماكينزي " والذي كان يقيم في لندن وطلب منه سرعة الحضور الى بغداد ليكون عونا له في ادارة المكتبة وفعلا وصل السيد دونالد واصبحا معا يقومان بادارة المكتبة وبشكل افضل من السابق من خلال رحلاتهما المكوكية بين العاصمتين .

وفي شتاء يوم بارد وتحديدا في الواحد والعشرين من كانون الثاني /1928 غيّب الموت صاحبنا كينيث ماكينزي اثر اصابته بجلطة مفاجئة في الدماغ بينما كان يعيد ترتيب بعض الرفوف وسط مكتبته ونقل على اثرها الى المستشفى لكنه فارق الحياة بعد ساعتين من وصوله ودفن في المقبرة البريطانية في بغداد لكن المكتبة واصلت نشاطها فقد استمرّ صهرُه "دونالد " في مساعيه ليُبقي تألّقها ويعمل على مواصلة نجاحها ورفدها بالمزيد من الكتب والمؤلفات التي تعنى بالفكر الماركسي الذي كان جديدا على العراقيين وقتذاك واغنائها بالمفاهيم والاطر الاشتراكية لما عرف عن دونالد الميّال للفكر الماركسي الجديد ونزوعه الاشتراكي الواضح، والحق ان مكتبة ماكينزي اصبحت في عهده شعلة وهاجة لتعميم وجهات النظر والمباديء الاشتراكية وطرحها للقاريء العربي والتعريف بها ؛ تماما مثلما كان الكاتب المصري سلامة موسى يبشّر بهذه المفاهيم اليسارية الجديدة بمصر.

وفي سنة/1946 توفي السيد دونالد ماكينزي الشريك الوفيّ للسيد كينيث وآلت المكتبة بكلّ محتوياتها لإدارات عراقية متنوعة وأخذ نشاطها يتمايل بين مدّ وجزر لكنها لم تقم بذلك الجهد الذي كان يوليه السيدان الآنفا الذكر ومازلت أتذكر في احدى زياراتي لهذه المكتبة العريقة يوم تمّ قبولي طالبا في كلية الآداب عام/1969 حيث كنت ابحث عن ضالّتي عن الشاعر الانجليزي ووردزوث فلقيت معظم ماكتب وتناولتها من الرفوف بسعادة غامرة وتكررت زياراتي لها كلما احتجت شيئا لم اجده في غيرها، يومها كانت تتخذ شقة عالية في احدى العمارات مقرا لها في نفس شارع الرشيد، ورغم ضيق المكان فقد كان روّادها يرتقون سلالم البناية بلهفة بحثا عمّا يحتاجونه وأتذكر ايضا ان المكتبة في اواخر عمرها اختصت ببيع الكتب والمؤلفات المطبوعة باللغة الانجليزية واللغات الاوروبية حصرا وقلما تجد كتابا عربيا معروضا للبيع في رفوفها الى ان تمّ اغلاقها نهائيا في العام 1977 وغادرت الى غير رجعة .