بلوكي وكري.. وأول سينما في بغداد

Sunday 29th of November 2020 07:43:26 PM ,
4821 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

علي أبو الطحين

أفتتحت في بغداد مساء الثلاثاء الخامس من أيلول سنة 1911 أول صالة سينما صيفية في البستان الملاصق للعباخانة والعائدة لشركة بلوكي وكري البريطانية. وقد حضر العرض جمهور كبير من الوجهاء البغادة وموظفي الحكومة العثمانية في بغداد لما ينيف على مائتي شخص. وصفت جريدة "صدى بابل" لصاحبها داود صليوا الصادرة يوم 10 أيلول تلك المناسبة بكثير من التفصيل :

"كان المكان الفسيح مضاء بمصابيح من نور الكهرباء بين أبيض اللون وأحمره وأصفره وأزرقه على الجدران وفي رؤس الاشجار." وعزفت الموسيقى العسكرية ألذ الالحان والعود والسينكمان بتريمان بأطيب الأنغام. ثم لدى الساعة الثالثة شرف سعادة القومندان علي رضا باشا المفخم فوقف الحاضرون للسلام ولدى الثالثة والنصف شرف والينا المحبوب أحمد جمال بك المعظم فأنتصب القوم لسلامه باحترام وعنئذ اخمدت تلك الانوار الساطعة وانحصر الضياء بالمرسح فظهر عليه كتابة تشير الى المشهد الذي سيمثل. وهكذا تصف "صدى بابل" العروض السينمائية الثمانية التي قدمت في تلك الليلة، حيث يتم أضاءة المصابيح بين مشهد واخر وتظهر الكتابة التي تشير الى المشهد التالي، حتى المشهد الاخير وهو حفلة تشييع جنازة ملك بريطانيا ادورد السابع، فذكرت، حيث ظهر المرسح بما يجذب القلب الى تلك المظاهر التي تكاد ان تكون طبيعية وليس تمثيلية صناعية. وتغيرت مشاهد البروغرام مساء الجمعة، فكانت اجمل منظراً واغزر فائدة من مشاهد البروغرام الذي قبله، وعرضت فيه صحيفة من تاريخ بابل وهو اسمى المشاهد واكثرها اعتباراً لما فيه من جليل الفائدة وعظيم التأثير في النفس وفي كل ذلك لا تخال الا انك ترى الحقيقة الطبيعية لا تمثيلا خيالياً وليس الوصف كالبيان ومن شاهد ويشاهد يشهد لهذه المشاهد.

ثم حثت الجريدة،"القوم على الحضور الى ذلك المحل فيجدون ما يلذ لهم ويطيب فيحمدون الدليل والمدلول عليه معاً ولا سيما اذ يرون الفرق بين هذه المشاهد اللطيفة الادبية وبين تلك المشاهد الالعابية والرقص والخلاعة في القهاوي".

ذكر اعلان لسينماتوغراف بغداد بان ثمن التذكرة لدخول السينما هو 4 غرش صاغ للصفوف الامامية و 8 غرش صاغ للصفوف الاخيرة (وهي المحل الاجمل). وتشير بعض الوثائق البريطانية ان دائرة البلدية بغداد حاولت فرض رسوم على تذاكر الدخول للسينما كالتي تستحصل من الصحف اليومية، وحين رفضت شركة بلوكي وكري ذلك، حاولت مرة أخرىبأستيفاء رسوم 20 بارة لمصلحة سكة حديد الحجاز، الا ان الشركة لم ترضخ لذلك ايضا، متذرعة بعدم وجود هذه الرسوم في سينمات العاصمة اسطنبول.

وبعد النجاح الذي حققته سينماتوغراف بغداد لشركة بلوكي وكري، قام احد تجار بغداد المدعو يوسف عيسائي باستيراد آلات عرض سينمائية وأسس سينما أخرى في بغداد بأسم السينماتوغراف الشرقي، وقد تعرضت هذه السينما الى حريق كبير في مساء يوم الاثنين 30 آذار 1914، فذكرت جريدة صدى بابل : فبينماكانت ليلة الأثنين العابرة وقدأكتظت ساحةالسينماتوغراف الشرقي العائدة لحضرة يوسف أفندي عيسايي بالمتفرجين اذشعر مدير التشخيص بارتفاع درجةالكهرباء . . وقام احدالقائمين في صحن المحل عندما رأى اشتعال السلك الذي يوصل ضوء الكهرباء فخوفا من حدوث لحريق قام بقطع ذلك السلك فعالجه بضربها ياه بآلة حديدية كانت بيده فقطعه ولكن لسوء الحظ سقط الرأس المشتعل منه على الشريط (السينمائي) فاشتعل وشبت النار للحال وعلا لهيبها فالتهمت المظلة (الجادر) فوقه وسرى اللهيب الى جوانب المحل كلها فارتفعت الاصوات والصراخات وقد ترك اغلب المشاهدين عمائمهم وكوفياتهم وعبائاتهم واحدذيتهم للنجاة بانفسهم ولكن الحمد لله لم يصل ضرر الى احد ما سوى المحل والالات التي تقدر خسارتها ما بين 400 الى 500 ليرة.

ومن المفيدذكر ما أشارت أليه وثائق القنصلية الامريكية في بغداد،عن قدوم شخص أمريكي أسمه ميشيل مانتريس الى بغداد في تشرين الأول سنة 1908 ومعه آلة عرض سينمائية، وقدم العديد من العروض للجمهور، ربما منها العرض الذي أقيم في دار الشفاء في الكرخ، وبعض العروض التي أقيمت في مقاهي الميدان سنة 1909.

من هما بلوكي وكري أصحاب سينماتوغراف بغداد ؟

توماس بلوكي تاجر بريطاني ولد في لندن في 15 أيلول 1842، وقدم الى العراق في بداية الستينيات من القرن التاسع عشر ليعمل كاتبا في مقر شركة لنج في بغداد،حيث كان اخوه فريدرك بلوكي يعمل وكيلا للشركة في البصرة.

في 30 نيسان سنة 1870 تزوج توماس بلوكي في بغداد من كارولينا زفوبودا، وهي من عائلة بغدادية من اصول اوربية مستوطنة في بغداد منذ بداية عهد الوالي داود باشا. وكان اخويها جوزيف وهنري يعملان على مراكب شركة لنج. ولدت كارولينا في بغداد سنة 1852، وانجبت لتوماس بلوكي، احدى عشر من الابناء، مات ثلاث منهم في الطفولة، وماتت هي بالكلوليرا التي ضربت بغداد سنة 1889.

حققت شركة لنج نجاحا كبيرا في العراق وأصبح لتوماس بلوكي دور كبير في أدارة مقر الشركة في بغداد خصوصا امام المضايقات والعراقيل التي كانت تضعها الحكومة العثمانية، التي فشلت في تأسيس شركة مماثلة رغم الاموال والجهود التي بذلت لمنافسة شركة لنج. في سنة 1887 ذهب توماس بلوكي الى لندن للتفاهم مع أصحاب شركة لنج ربما للحصول على بعض الامتيازات، وحينما فشل في مسعاه قدم استقالته من الشركة وعاد الى بغداد ليؤسس شركة تجارية للأستيراد والتصدير خاصة به.

أتخذ بلوكي من خان سلطان حمودة مقر لشركته، ويقع الخان في فرع متشعب من شارع الرشيد–حالياً- بأتجاه محلة قنبر علي، ونشطت الشركةبتجارة مكائن ومعدات السقي الزراعية ومكائن هبش التمن والطحن وصنع الثلج، فضلا عن وكالات الشحن البحري و التأمين والبنوك وغيرها. لحاجة بلوكي الى مساعدين للعمل في الشركة قدم الى بغداد في سنة 1889 شاب اسكتلندي ذو ثمانية عشر ربيعا اسمه توماس كري، وهو من مواليد غلاسكو في 26 شباط 1871. كان توماس كري ذكيا ونشطا أعتمد عليه بلوكي في ادارة الشركة.

في سنة 1892، ذهب بلوكي الى لندن ليتزوج من ابنة عمه أيما بلوكي ويعود بها الى بغداد لتقوم بتربية اولاده الصغار من زوجته الاولى وكان قد ارسل الكبار منهم الى مدارس داخلية في انكلترا. ثم قرر في نهاية التسعينيات بالاستقرار في لندن، فجعل من توماس كري شريكاً له في الشركة واصبح اسمها "بلوكي كري وشركاهم". فيكون توماس كري مديرا للشركة في بغداد، وتوماس بلوكي ممثلا للشركة في لندن.

تطور عمل شركة بلوكي وكري في العراق بأطراد واشتهرت الشركة بنصب مضخات السقي للزراعة على نهري دجلة والفرات، حيث ذكر اناعداد المضخات التي نصبتها الشركة بلغت اكثر من الف مضخة قبل الحرب العظمى، وكان للشركة في مقرها الجديد في العباخانة ورشة صناعية تضم عددا من المهندسين والعمال لتصليح المكائن والمعدات،فضلا عن القيام بمختلف الاعمال التجارية. واصبح توماس كري رئيسا لغرفة التجارة البريطانية في بغداد، كما دعته مملكة النرويج ليكون قنصلا لها في بغداد.

عندما اعلنت الحرب العظمى في سنة 1914 قامت الحكومة العثمانية بالحجز الاحتياطي للرعايا البريطانيين، وكان توماس كري مع بعض العاملين في شركة لنج والمهندسين العاملين في بناء السدة الهندية من ضمن مجموعة رحلوا للحجز في اسطنبول، لكن لكونهم مدنيين تم هناك اطلاق سراحهم، فعاد ثلاث منهم، بضمنهم توماس كري، عن طريق البحر عبر قناة السويس الى البصرة لتقديم العون والمساعدة القوات البريطانية لما يملكونه من خبرة ومعلومات كبيرة عن العراق. وهكذا كانوا مع قوات القائد طاوزند حين سقطت الكوت بيد القوات العثمانية وتم أسرهم مرة آخرى. عانى توماس كري كثيرا في الأسر ، حتى تدخل السفير الامريكي في أسطنبول لأنقاذه وكان على شفير الموت في احدى المستشفيات. بعد الحرب حصل توماس كري على تعويض عن بعض ممتلكاتهم من الشركة في بغداد وبقي يعمل في التجارة في لندن حتى وفاته سنة 1934، أما توماس بلوكي فكان قد مات في لندن سنة 1915.