كيف كان العراقيون يواجهون الامراض؟ الطب الشعبي في أوائل القرن الماضي

Sunday 15th of March 2020 08:04:11 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د. عباس فرحان الموسوي
عانى المجتمع العراقي بصورة عامة من امراض مختـلفة حاول معالجتها بشتى الطرائق المعروفة ، وبمختلف الوسائل المتاحة ، كان من اهمها الطب الشعبي ، الذي مثل المحاولات الاولى في علاح الأمراض ، وكان دليلاً على علاقة الانسان بالطبيعة ، ومدى تأثره بعقائده وعاداته وتقاليده التي امتدت اليها الخرافات والأوهام في بعض الاحيان.

لم يقتصر الطب الشعبي على التداوي بالاعشاب لمعالجة الامراض وانما استعملت فيه ادوية متنوعة مختلفة ( معدنية وحيوانية ونباتية) والنباتات لا تقتصر على الاعشاب بل اشتملت على مختلف انواع النبات الطبيعي ، فضلاً عن ( جذره وساقه وورقه واغصانه وثمره وبذرته وقشرته وعصارته ). ويدخل فيه الدعاء والطلاسم والسحر والخرافة.
وظهر في بغداد اطباء يمارسون الطب القديم. يعالجون مختلف الامراض وبعضهم يفعل ذلك مجاناً لا سيما في المناطق الشعبية. فقد كان الحلاقون والعطارون والعّرافون والكحالون والحجامون ورجال الدين والسادة والمشايخ وكبار السن والقابلات والسحرة والدجالون والمشعوذون هم طبقة الاطباء والجراحين.
برز في المملكة العراقية عامة وفي بغداد على وجه التحديد عدد كبير من الحلاقين الذين مارسوا مهنة الطب الشعبي وكانوا يقومون بختان الاولاد. وقلع الاسنان ومعالجة الجروح وتضميدها وازالة بعض النتوءات مثل الشامات بكيها بالتيزاب وبعضهم يقوم بالحجامة ومعالجة المصابين بالقرع وتفجير الدمامل وتربية دود العلق مع قليل من الماء في (كيزان الفخار) وتستعمل لغرض امتصاص الاورام المتقيحة وذلك بعد وضع الدودة فوق " الدمبلة " فتقوم بامتصاص الدم وتسقط بعد امتلاء جوفها وبعضهم يعيد استعمالها مرة ثانية بعد عصرها عصراً خفيفاً.
وكان للعطارين اثر كبير في معالجة الامراض بفعل الممارسة الطويلة والتعامل ( بالمواد العطارية ) السائدة آنذاك إذ اكتسبوا خبرة في وصف وجمع مواد الادوية الشعبية وجمعها لمعالجة بعض الامراض. ومارس العرافون [ العرافة] مهنة الطب الشعبي باستعمال الكي بوساطة قضيب صغير من الحديد او مسمار او منجل بعد ان يحمى بالنار يكوى به المريض الذي يشكو من آلام الظهر او بوساطة قطعة من القماش (عطابة) يشعل راسها ويطفأ ويستعمل عند الجروح والدمامل وعرق النسا وصداع الرأس.
وقام رجال الدين والسادة والشيوخ بعمل الاطباء بقراءة الأدعية. والآيات القرآنية الكريمة او بوساطة ( التنشير على المريض بالبخور او بقدح الماء ) بعد قراءة الأدعية عليه واعطائه للمريض. وقد أورد خيري العمري مثلاً معبراً عن ايمان بعض الناس بجدوى هذه المعالجات وقدرة رجال الدين على الشفاء من الامراض ، إذ يذكر ان وزير الصحة محمد مهدي بحر العلوم في الحكومة العراقية المؤقتة عام 1920 نصح اقاربه الذين قصدوه طالبين منه التوسط لدى احد الاطباء البريطانيين ليعالج مريضهم ، بان يراجع " الملا جواد " الذي يعالج الامراض بالأدعية .
ويعد ( فتاح الفال ). اكثر هؤلاء المتطببين الذين عرفوا بممارستهم " للدجل والشعوذة " في المجتمع البغدادي ، ينادي بصوت جهوري في الشوارع " فتاح فال – عداد نجم " ويقوم بكتابة التعاويذ والحجابات ورد المظالم وابطال السحر والحسد وفض المنازعات وفك الزوج المربوط ورجوع الغائب والمحبة وغيرها ، بخطوط غير واضحة او بكلمات غير مفهومة ويفرض اجور نقدية وعينية لا سيما الدجاج والصابون والسكر والشاي لكي يعزم عليها الجن [ حسب ادعائهِ ] بعد ان يعرف اسم من يريد الفال واسم امه ، على الرغم من ان هذه الوسائل لم ينزل الله بها من سلطان وهي لغرض ابتزاز الاموال بطرق سهلة وسريعة لكنها كانت مهن مقبولة اجتماعياً لدى الفئات البسيطة الساذجة التي تؤمن بما يقوله هؤلاء المشعوذون لا سيما في المناطق الشعبية من بغداد .
ويشير الملا عبود الكرخي. وهو شاهد عيان معاصر لتلك الحقائق – الى اسماء جمهرة كبيرة من أولئك الأطباء والحكماء بشعره الشعبي قائلاً :
ومحمد ابو الفينة طبيب القـوم
وسلمان بن باقر واحمد وعاشـور
والمرزه علي وحاج فرج فاهـم
وابو نشعه علي وسيد ابو القاسـم
وابن سيد ربيع الحلي و افرايـم
والجدة الحكيمة ريمة بنت سرور .
واثرت العادات والتقاليد في العلاج الشعبي ، فقد وضع بعض البغداديين المعلقات على ابواب بيوتهم كراس الغزال واباريق الخزف ذات اللون الاخضر لطرد الارواح الشريرة. وبهذا الصدد يشير بعض المؤرخين الى اعتقاد السذج من البغداديين والبغداديات بمعجزات طوب ابو خزامة ، اذ انهم يشعلون الشموع حوله ويتبركون به. وتقوم القابلة (الجدة) بحمل المولود الجديد في يومه السابع وتدخله في فوهته ثلاث مرات ثم تذهب به الى المصبغة حيث يقوم الصباغ بوضع بعض النقط على قطعة خاصة بالطفل ثم تذهب به الى محل السجناء ثم الى المدبغة والى الثكنة العسكرية لاخراجه من تحت السلاح ثم الى الجوبة ( مكان بيع الماشية ) وتعود به بعد ذلك وهي فرحة مسرورة. وقد ذكر الكرخي بعض معتقدات العامة من سكان بغداد وما فيها من خرافات واساطير فعلى سبيل المثال قيام الام بحمل سعفة طويلـة بعـد ان
تضرم النار بها بهدف معالجة طفلها المصاب بالحمى وتسير بها نحو النهر. فاذا انطفأت في منتصف الطريق كانت نذير شؤم بموت الطفل قائلاً :
الرجعيـة اذ مكموعهـا تـورط
بصخونة وحرارة مهلكة وانحـط
تشعل سعفة من مهجوهها للشـط
جبارة طويلة أطـول السعفـات.
ويمكن القول ان العادات والتقاليد قد أثرت في تحديد تخصص الاطباء بالامراض النسائية لعدم وجود العدد الكافي من العنصر النسوي المتخصص في هذا المجال فقد كان الموت بمرض حمى النفاس امراً طبيعياً لجهل الأمهات الحوامل والقابلات وانعدام النظافة وعدم وجود اللقاحات الضرورية للطفل الذي يترك للقدر وعناية الله ، وحاول الاطباء الشعبيون معالجة امراض المرأة المختلفة لا سيما الحساسية والآلام الداخلية التي تسمى مرض الحرارة (بالعشبة والجوبجيني). بعد قليها بالماء ثم شربها بشرط ان يحافظ على الهدوء وان لا يقوم أي احد بازعاج المريض خشية ان تنقلب الاية ويحصل ضرر الدواء بدلاً من نفعه حسب اعتقادهم.
وعالج الطب الشعبي مختلف الامراض التي عانى منها المجتمع البغدادي على سبيل المثال لا الحصر الروماتيزم وآلام المفاصل وتشنجات الاعصاب والضعف الجنسي والاكزيما والبواسير وتساقط الشعر وامراض المعدة. واستعملوا سعف النخيل والواح الخشب واللفائف في تجبير كسور الارجل والايادي ، وقد برع في هذا المجال خليل الحويشاوي وابناؤه استعملوا زيت سمك الجري وبطن سمك الشبوط ودهن الكوسج وزيت الزيتون لمعالجة كسور العظام بمختلف انواعها.
ووضع الاطباء الشعبيون الوصفات الطبية القديمة لكثير من الامراض ، فتناقلها الناس بالوراثة او عن طريق التجارب لامراض الحمى والشلل والعيون والاسنان والقلب والرأس والكلى والجلد والطاعون والملاريا ، وقد اشار الكرخي الى قسم من هذه الامراض قائلاً :
الملاريا باردة يسمونها في الحال
ذبوّا عالمريض جلال مال زمـال
واذا وجعته الكلية شوية مسلوكة
واذا جارت عليه يحموله طابوكة
اذا جارت على المـرأة او الرجال
واكله شوربة من تمـن المخمـور
طماطـة وفلفـل احمـر ريوكـه
الحكيم يكول خاصرته عليه اتجور
عن: كتاب (الحياة الاجتماعية في مدينة بغداد 1939 –1958)