عبد المحسن الكاظمي شاعر الارتجال

Sunday 15th of March 2020 08:00:12 PM ,

ذاكرة عراقية ,

منذر الخفاجي
وسط حديقة جميلة في مدينة الكاظمية المقدسة ينتصب تمثال شامخ يحكي شموخ صاحبه. رأس مرفوع كالنخل، جبين واسع كالضفاف يكاد يشف عما يكتنفه من إباء، عينان كبيرتان توحيان للناظر بذلك النقاء وصدق السريرة، إنه تمثال الشاعر الكبير الشيخ عبد المحسن الكاظمي شاعر الفطرة والارتجال والوراثة، إذ إنه يتصل بنسبه من جهة الأم بشاعر الطالبيين الشريف الرضي فورث عنه ملامح من شعره واخلاقه وإبائه.

ولد أبو المكارم عبد المحسن بن محمد بن علي بن المحسن بن محمد بن صالح بن علي بن الهادي النخعي في مدينة الكاظمية المقدسة في محلة التل على مقربة من مرقد الامامين الجوادين (ع) وذلك ليلة النصف من شعبان 1282هـ- 1865م وكانت أسرته من الاسر الميسورة التي عرفت بالمجد والغنى فكان جده الاكبر الحاج محسن من كبار التجار وكان يؤمه الفقراء يلتمسون معروفه ثم خلفه في مكانه الحاج علي جد شاعرنا ولكن هذه الاسرة مالبثت ان اضطربت امورها المادية فعوضت التجارة والغنى بالادب والعلم فنهض بها افذاذ العلماء والأدباء فقد انجب الحاج محمد ابن الحاج علي ثلاثة أولاد هم الشيخ محمد حسين الذي كان من مؤسسي النهضة الادبية في مدينة الكاظمية والشيخ احمد الذي كان شاعراً مطبوعاً ملماً بأشعار العرب يقول عنه الشيخ محمد رضا اسد الله: (ان الشيخ احمد كان يحفظ ديوان الحماسة كله وشعر أخيه عبد المحسن وجل اشعار العرب) أما ثالث اولاد الحاج محمد فهو شاعرنا الذي فاق اخويه علماً وأدبا.
درج عبد المحسن بين بيئات الادب وحلقات الادباء ودرس العلوم الاسلامية كما اطلع على الآداب الفارسية، وقد استفاد الكاظمي من خزائن مكتبات الكاظمية فنهل من كتاب الجمهرة والعين كما استوعب الكثير من كتب اللغة فنشأ شاعراً مجيداً ولغويا كبيراً، يقول عنه السيد عز الدين آل ياسين: (كان يملي شعره عن طبع وأُفق، ووحي حاضر وبديهة مستعدة وروح قوية وقريحة متحفزة وله في الشعر نفس طويل يعود الى كثرة ما كان مختزناً في حافظته من شعر العرب) وقيل ان هذه الحافظة تسع ما يربو على الاثني عشر الف بيت من اشعار العرب.
نزح الكاظمي عن بغداد بعد مطاردة المحتلين له وبعد ان اضطر اهله الى رمي جميع ما انتجه من شعر في نهر دجلة خشية وقوع شاعرهم تحت طائلة السلطات، فغادر العراق الى الهند ثم استقر به المقام في مصر وقد عرفته مصر شاعراً جزل التعبير مبتكر الاسلوب سريع البديهة عبقري الارتجال كما عرفته مثالاً لحسن الخلق أبياً عفيفاً يفصح شعره عن شرفه العريق ونسبه الرفيع:
لو على قدر همتي واعتزامي صال نطقي بلغت كل مرامي
همّة ترهق النجوم وعزم ضارب في الجبال والآكام
وإبائي يرى من الضيم ان يحمل في الدهر منة للغمام
كان شاعرنا شديد التعلق بعقيدته متمسكا بدينه وحبه لأهل البيت "ع" فقال معبراً عن حبه وحنينه لزيارة مرقد الامام علي "ع" وهو في مصر:
كن غديري يا بدران تم لي العذر وابدي مناك ليل التمامِ
واحمل الروح للامام فجسمي حيل ما بينه وبين الامامِ
عرف شاعرنا بارتجاله الشعر في غاية الروعة والاجادة وحسن التركيب وشعره المرتجل مهما طال وكثر فهو يتدفق حلاوة وسلاسة فكان يرتجل ما يربو على مائة البيت يقول محمد مهدي الجواهري: (إن أهم الميزات التي تتجلّى في حياة الكاظمي وفي شعره ايضا – وهو صورة صادقة عن حياته – كونه مرآة صافية لجيله ومجتمعه، وعلى غير هذا القياس يصعب في رأيي المقارنة بينه وبين شعراء العراق والآخرين حتى من الذين عاصروه كالزهاوي والرصافي والشبيبي والشرقي وهنالك ميزة ثانية هو كون شعر الكاظمي ذخيرة من ذخائر اللغة العربية النقية ومفرداتها الجميلة) ونرى هذه اللغة النقية مع صدق العاطفة وقوة السبك تتجلى في كل شعره ولنستمع اليه في هذه الأبيات
الرائعة:
أجيراننا بمغاني الحمى ومن أين مني جيرانيه
سروا يخبطون الدجى والحشا على أثر آثارهم سارية
امامهم القلب جار لهم وعيناي خلفهم جاريه
كما يدل شعره على اجادته لمختلف أغراض الشعر وهذه الابيات في الرثاء:
صروف الدهر أهونها اشدّ اذا نزل القضاء فلا مردُّ
أجل الرزء ما ترك البرايا تروح على مرارته وتغدو
وأدهى الخطب ما جلب الرزايا ولم يحسس له برق ورعدُ
وهذه في الدهر:
أرأيت كيف الدهر ينتقلُ بالمالكين وكيف يقتبلُ
ما الدهر الاّ دولة خضعت لقضائها الاملاك والدولُ
ما شاء أو شاءت رغائبه لاما تشاء البيض والاسلُ
خلف الكاظمي ديواناً كبيراً بمجلدين احتوى على 175 قصيدة ضمت 8618 بيتا كلها من الشعر الرائق الجزل قال عنه الدكتور مصطفى جواد المحقق المشهور: (ان قصيدته التي مطلعها:
الى كم تجيل الطرف والدار بلقع اما شغلت عينيك بالجزع أدمعُ
تصلح لأن تكون (المعلقة الثامنة) في اسلوبها وفصاحتها وطرازها البدوي وصحة معانيها و قوة مبانيها)، وصدق مصطفى جواد فقد جمعت هذه القصيدة من معاني البلاغة ما يجعلها اعجوبة في وقتها وهي قصيدة طويلة يقول الكاظمي فيها:
أأنت معيري عبرة كلما دنت يحفّزها برج الغرام فتسرعُ
وهل عُريت أرضٌ كسوت أديمها بماء شؤوني فهي زهراء ممرعُ
فمن حرّ أنفاسي وفيض محاجري مصيف تراءى في ثراها ومربعُ
ألم تر جرعاء الحمى كيف روّضت وسال بمحمر الشقائق أجرعُ
فهاتيك من دمعي وهاذاك من دمي فللعين ذا مبكى وللقلب مجزعُ
أما توفيق البكري فقد قرنه بالشريف الرضي ومهيار الديلمي بقوله:
الكاظمي ثالث اثنين الشريف الرضي ومهيار الديلمي) وكتب عجاج نويهض في جريدة الزمان 1961 قائلا):
"شعر الكاظمي جزء حيوي من تراث النضال العربيُ هو شعر كالذهب لا يفقد قيمته ابداً على اختلاف الايام" لقد كان الكاظمي مدرسة في الشعر، مدرسة من اجمل مدارس الشعر العربي وأجودها بقيت تزخر بعطائها فكانت مرآة لروح الامة ونبراساً لها وروضة تجد فيه العطر العبق الذي ينعتها:
نحن قوم اذا شهدنا الهياجي بهر الموت يومُنا المشهودُ
نحن قوم العلا الألى إن يهموا لم تعقهم تهائم ونجودُ
حلفوا للعلا فإما قيام ترتضيه العلا وإما قعودُ
ومشوا للردى فإما صبور يقف الموت عنده أو صعود
واذا لم يكن سوى الموت ورد دون نيل المنى فنعم الورود
ذاكرة عراقية : كنا قد نشرنا هذا الموضوع في ملحقنا سنة 2015، وقد تبين انه منقول عن مقال للاستاذ منذر الخفاجي الذي نعيد نشر المقال باسمه، فمعذرة للكاتب والقاريء الكريم..