أرنستو كاردينال: تجاوز لحظة الانكسار الى اللاخسارة

Tuesday 10th of March 2020 06:56:48 PM ,

منارات ,

حمزة الحسن
" لأني ضيعتك ـ كلانا خسرنا ـ لأني لم أحب أبدا مثلما أحببتك ـ وأنت، لأنه لن يحبك أحد مثلما أحببتك أنا ـ ومع ذلك أنت خسرت أكثر ـ اذ أني استطيع أن أحب واحدة أخرى ذلك الحب نفسه ـ بينما لن يحبك أحد أبدا، هكذا، مثلما أحببتك".
الشاعر أرنستو كاردينال

من الشخصيات النادرة في تاريخ الشعر الحديث، شاعر وراهب وعاشق وصوفي ورجل دين ثوري وعلى وصف كاسترو( رجل دين ماركسي) انقلابي شارك في محاولة انقلابية للاطاحة بدكتاتور نيكاراغوا سوموزا لكن الانقلاب فشل وهرب الاب والراهب والشاعر والمتآمر والصوفي والعاشق والمتمرد في حين عُذّب رفاقه حتى الموت، وعندما وصلت الجبهة الساندنية اليسارية الى الحكم أول مرة، عين وزير ثقافة، وهو اليوم يقود تمردا جديدا داخل الكنيسة بعد تمرده الشعري على الأشكال الشعرية السائدة اذ يرى ان الكنيسة في الأصل هي للفقراء لأن السيد المسيح كان ثائرا وثوريا وخطابه كان خطاب ثورة وهذا الخطاب يتسع لكل صور الانشقاق ويقود أرنستو اليوم خطابا فكريا يعرف بلاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية يجمع بين الدين والثورة والشعر واليسار والحداثة والحب والتمرد السياسي.
هذا التعدد في مستويات الشخصية وغناها الروحي والمعرفي والثقافي والأدبي بين الصوفية والثورية والشعر والحداثة والدين والكنيسة والاحتجاج والعشق لا يفسر في تلك القارة على انه ظاهرة غريبة كما يمكن أن يكون عليه في مناطق أخرى بعد زوال أو هدم الحدود القاطعة والوهمية بين الشخصية وبين الواجب أو" الدور" الأصلي، بين النمط وبين التعدد، بين الثورة وبين الدين، بين الشعر وبين الايمان، لأن الشعر الصافي هو شكل من أشكال الايمان، واذا كان أرنستو قد دخل في لعبة انقلاب على المؤسسة السياسية الى درجة تعريض نفسه للموت من اجل القضاء على دكتاتور بغيض بالسلاح، لكنه دخل مع الكنيسة هذه المرة في صراع عن طريق الحوار والاحتجاج والبديل، كما دخل في اختلافه الشعري عن طريق التمرد على الاشكال الشعرية، ومع انه موصوف برجل الدين الماركسي أو اليساري الا انه يعرف نفسه على انه رجل دين اشتراكي، ومن غير الممكن ضبط هذه الشخصية في اطار تعريف واحد لأنها خارج كل نسق وكل تصنيف وكل محاولة تحديد.
ارنستو كاردينال لا يتوقف عن الانشقاق( ولد في كريناتا، غرناطة، في نيكاراغو 1925) لأن الحياة عصيان مستمر وثورة دائمة ونشيد فرح لا يتوقف وليس لديه الوقت الكافي للشيخوخة والمراثي ولا فواصل بين وقت الحب ووقت الشعر ووقت الصلاة( أحد دواوينه: صلاة الى مارلين مونرو)و( تحية الى الهنود الحمر) لأن الصلاة والجمال والابتهال والشعر والثورة والحداثة هي البحث في روح الاشياء وفي قلب النور والعتمة والأمل، والهنود الحمر هم في قلب أرنستو كاردينال رمز الصلب المستمر، لأن المعركة لم تكن على الخشبة بل كانت على الأرض، وفردوس كاردينال كما يقول هو نفسه الآن وهنا، لأن التضحية ليست بلا ثمن ولا يجب أن تكون بناء على وعد بأمل بعيد، لأن الأمل نفسه كائن حي وملموس يوجد في الضوء والخبز والمسرة والمتعة والنظافة والفرح والبيوت والمال والصداقة والساحل والفن الخ.
هذه الشخصية المتعددة والثرية والعميقة والطليقة لا يمكن لها أن تعيش وتواصل الصلاة والاحتجاج والكتابة والثورة والشعر والتمرد المستمر داخل مناخ ثقافي وسياسي وأدبي وفكري واجتماعي قمعي لأن المؤسسة القمعية متعددة الأشكال وخطابات السلطة مبثوثة في صور وأشكال مموهة خارج مؤسسات الحكم بل تلوح في الظاهر معادية للسلطة السياسية ولكنها في الجوهر لا تقل عنها عسفا وقمعا ووحشية، ولأن أرنستو لم يكن فردا محتجا داخل كنيسة كما عرف عن الرهبان ولكنه محتج داخل ثورة مسلحة، وليس خارجا عن النمط الشعري داخل الشعر وحده لكنه خارج عنه داخل السلطة السياسية كوزير ثقافة أيضا( مرشح لجائزة نوبل) وكردينال لا يجد مشكلة بين أن يصلي من أجل الثورة أو من أجل الجمال أو من أجل الهنود الحمر أو من أجل المسيح، وثورته على السلطة الدينية والسياسية والثقافية لا تقل قوة عن تمرده على شروط الشيخوخة.
أرنستو مثل لويس بورخيس تجاوز اللحظة التي يكون فيها الانسان قابلا للانكسار: يذكر الكاتب والشاعر الأمريكي لويس بارنستون في كتابه السيروي( بورخيس: مساء عادي في بوينس آيرس) كيف انه كان ينزل السلالم من بناية قديمة يسكنها الشاعر والكاتب بورخيس حين طلب منه بارنستون أن يكون حذرا من السقوط لكن بورخيس التفت اليه، ضاحكا:(لا تقلق بارنستون، أنا تجاوزت اللحظة التي انكسر فيها) وحين يتجاوز الانسان والمثقف والكاتب لحظة الانكسار، يدخل في مغامرة الغواص والفن والحياة، ويتعالى على الألم والشيخوخة والاغراء واليأس، لأن لحظة تجاوز الانكسار هي لحظة اللاخسارة، وتصبح حياة بهذا المستوى نوعاً من الغرابة والانحراف أو غير المفسر في أفضل الأحوال من وجهة نظر أحادية ذات بعد واحد، لأننا نميل في الحياة كما في الادب الى تفسير الأشياء والمواقف بناء على بنية جاهزة وضيقة واللامفسر يحال الى النقص والخطأ، والعقلية التفسيرية المغرمة بالحدود والاختزال والتصنيف هي خاصة التخلف العقلي خصوصا في حقل الثقافة والادب لأن ما يفلت من التفسير ليس بلا معنى بل هو الجمال.
قبل الحرب الأخيرة وصلتنا دعوة لحضور لقاء أو ندوة لأحد الأحزاب كضيف وبما أنني لا أعرف ماذا أفعل في هذا النوع من اللقاءات كبوذي وجد نفسه في موكب كربلائي، فكرت في حلّين: إما أن أحمل مسبحة الصديق العزيز سعد صلاح خالص ـ ابن الشخصية الثقافية والوطنية الدكتور المرحوم صلاح خالص ـ المرسلة من اليمن والتي تكفي لربط عدة ثيران هائجة مع ان الطلب كان مسبحة صغيرة وناعمة وخضراء، أو السفر مع صديق شيوعي جمعنا يوما مكان الولادة والسجن ـ كنت ومازلت أعمل في السياسة والثقافة لحسابي الخاص،كقطاع خاص ـ والمنفى وبموجب الدعوة يحق لي الحضور مع صديق واحد، ومن باب الاغراء قلت له، في الهاتف: (كل شيء متوفر عدا الخمر على حسابك) وكما لو أن الخط انقطع لطول الصمت فقلت:(هل انت معي؟) وكان معي ولم يكن في آن واحد ، فقال: ( وماذا أقول للرفاق لو عرفوا انني حضرت مؤتمراً لحزب اسلامي...؟). قلت لنفسي بذهول في نهاية المكالمة:( لن نخرج من هذه المعتقلات النفسية الا بالانقراض ورب الكعبة).