إذن مات وحيداً جان دمو مثلما تموت الفيلة الصغار وحيدة

Wednesday 26th of February 2020 07:04:37 PM ,

عراقيون ,

عبدالقادر الجنابي
هكذا مات جان دمو وحيدا، في غرفة في استراليا بسكتة قلبية... هكذا تكون نهاية عالم حلمي متفرد. نعم الفيلة الصغار تموت لوحدها. لكنه خبر مؤلم: إذ في وقت يخرج فيه العراق الى الضوء بعد ان عاش في ظلمات حقيقية، يموت هذا الهامش الجميل الوحيد الذي يذكرنا بأن العراق كان له حلم شعري كبير، إنساني عميق، قبل ان يسطو عليه برابرة الظلام العروبي.

نعم جان دمو هو عين البراءة العراقية التي تمزقت بسبب إديولوجيات الموت التي لم تسمح للعراقي بأن يعبر عن نفسه كائنا له أشعاره، أعماله الموعودة، مساهماته الثقافية... وانما أبقته مهمشا هنا وهناك وكأنه مجرد واحد بين آخرين اعتلوا كل المنصات. لكن هذا امر، له مكان آخر للخوض فيه. الآن القارئ يريد أن يعرف من هو جان دمّو الذي يصعق خبر موته كل الشعراء والأدباء العراقيين. يقال ان جان دمو المولود منتصف اربعينات القرن الماضي، في مدينة كركوك، كان تلميذا في متوسطة كركوك، ذكيا في مادة الرياضيات، لم يمر في خلده بأنه سيكت شعرا. كانت عائلته الفقيرة، كبقية عوائل شعراء جيل الستينات المنبوذين، تبني آمالا عليه ليعيلها في المستقبل. كل شيء كان يسري وفقا للعرف الاجتماعي حتى التقى بالشعر الاوروبي الذي وجده مختلفا عن جل الشعر العربي.. أخذ يقرأ ويُصعق في آن... حتى اخترقته القصيدة الى حد التلعثم؛ الشلل الذي كان يرائي به جان دمو حتى اخر لحظة من حياته: احتقاره لممتهني الشعر. فها هو عنصر هائم بين "جماعة كركوك"، يستهزئ بكل قصيدة تقرأ أمامه، واعدا الجميع بأنه سيكتب القصيدة الكبرى. شاعرية دمو حقيقية، مظهرُه، قرفه من الشعراء المُعتبَرين الذين سرعان ما تنهار ثقتهم بأشعارهم ما إن يحضر... تشردُه وقصائده الصغيرة والجد غريبة كهذه التي نشرها في منتصف الستينات في مجلة "العاملون في النفط" مقابل ثلاثة دنانير، عنوانها سطر طويل: "الجندي الذي سافر في القطار ونسي أن يقول للبروفيسور نعم"، والقصيدة مجرد رقم: "3".
أي مشهد هذا عندما يقرأ عبدالوهاب البياتي، مثلا، قصيدة (أي قصيدة) تجعل دمّو ينطرح على الأرض ضاحكا ومرددا: "بابا أنت تضحكنيّ" كل هذا التصرف البذيء المنطوي على استهتار بهيبة شعراء يسطلون رؤوسهم ليل نهار من أجل "قصيدة" تغذي عند الآخرين رجاء وهميا، كان جزء من الأوكسجين الذي تنفسته الشعرية العراقية الجديدة في فترة ليبرالية قصيرة عرفها العراق مابين 1964 و1968. ذلك أنه "لاينبغي للشاعر أن يعجز الأذهان بحقنها بثقة غير محدودة في أب أو قائد يصبح كل نقد يوجه إليه تدنيسا، بل بالعكس، عليه هو أن يتكلم الكلام المدنّس دوما والسباب المستمر"، كما وضح بعمق الشاعر السوريالي بنجاما بيريه.
كتب رياض قاسم مرة في اوائل 1993 في جريدة "الجمهورية" كلمة تحت عنوان "مساحة جان دمو" جاء فيها: "هنالك أسماء في حياتنا الثقافية موجودة تجدها في كل حلقة دراسية أو ندوة يدعوا إليها... شعراء أو قصاصون أو نقاد... ما هو مستوى ابداعهم ... أضاع تكرار أسمائهم على الكثيرين من طرح هذا السؤال فهم موجودون فما الضير في ذلك لا يضرون ولا ينفعون... ولكن حين يجيء أسم أحدهم أمام جان دمو فإنه يطلق ضحكة مدوية .. ماذا تقول... يسألنا: شاعر... هذا شاعر ويضحك ويضحك لدرجة أننا نرى أسم هذا الشخص يطير ويتلاشى ولايعود الأمر يحتاج إلى أي تساؤل حول مستواه وقدراته فلقد اطلق جان حكمه وما كان في ذهنك غير ثابت أو محسوم قد حُسم خلال هذه الدقائق وكأن بناء متهدما ينتظر من يدخله لينهار تأتي ضحكة جان لتفعل ذلك... من هنا فإن جان دمو أكثر نفعا من الذين يسهبون ويفصلون ولا يقولون شيئا... فهو لا يقول إلا القليل ولكنه يقول الكثير في هذا".
عاش جان دمو في بيروت، عندما كانت ملجأ الهاربين من النظام البعثي الى الحرية، في أوائل السبعينات وطرد منها بعد سنتين من التسكع على قارعة المجتمع، أشبه ببطل رواية كنوت هامسن "الجوع". أعطاه يوسف الخال قصائد ليترجمها لكنه فقد القصائد والدفتر الذي يمتلكه.
رواد مقهى "الأنكل سام" و"ميلك بار" الجامعة الامريكية، كذلك بعض زبائن) "روز اند كراون"nbsp; الوردة والتاج) كانوا يعرفونه، كانت دورته اليومية تبدأ في "الأنكل سام" مرورا بشارعي "جان دارك و"بالاس" ثم لتعود منتهية في بيت أحد أصدقائه الكثيرين إذ لم يكن لدمو مكان يبيت فيه، (وهنا اعتمد على فاضل عباس هادي الذي كان معه في بيروت( .
ذات مرة التجأ إلى النوم على سطح احدى البنايات وبالتالي كان مضطرا الى الهبوط في الفجر قبل ان يستفيق البواب. وإذا سألته الى متى؟ يجيبك بكل براءة وعفوية عديمة الاصرار: سأكتب رواية هائلة!
أما في بغداد فكانت المتاعب في شتى الأنواع، اطرفها هي ان جان دمو في اواخر الستينات كان يضطر الى التخفي في النهار، عند هذا أو ذاك هروبا من تأدية الخدمة العسكرية. على ان العسكر القوا القبض عليه في النهاية ووضعوه في السجن لبضعة أيام. فما كان منه إلا أن نادى، ذات ليلة، على الحارس وقال له "هل لنا أن نستنشق رائحة البحر، وفي الليل نسامر نجوم السماء"، رمقه الحارس بنظرة اندهاش، ثم مضى بعيدا عن الكوة الضيقة التي كان يقبع خلفها جان دمو والاحلام تسامره ضد عالم اصبحت فيه الأحلام نقيصة كبرى.
لم يكتب جان دمو قصائد كثيرة. وكل ما نشره لا يعدو عن شظايا من عمل شعري كبير لم ينجزه. من أعماله التي لم تكتب: "ثاني أوكسيد البيجاما"، "مصطلحات الماء" و"حذاء في الجبهة" وهي رواية مضادة لقوانين تجريم الأفواه الباصقة على موائد الحرب.
نشر دمو الكثير من الترجمات الشعرية والقصصية والنقدية في عدد من من المجلات والجرائد العراقية، من بينها ترجمة لقصائد تيد هيوز نشرت في أحد أعداد "الأديب المعاصر"، ودراسة طويلة في مجلة "الأقلام" كتبها صديقي الرسام السوريالي البريطاني كونروي مادوكس عن "سلفادور دالي". له أيضا أراء تختلط فيها الحكمة بالفكاهة السوداء، عن أي موضوع تسأله. وغالبا ما يأتي الجواب في لحظة انشراد شعري يذكر باجوبة السائرين في نومهم. مثلا، عندما كان يشغل منصب المسؤل عن ارشيف جريدة "الجمهورية" طلب منه مدير التحرير، في أوج الحرب العراقية – الايرانية، أن يأتيه بصور الحرب، فأجابه جان مندهشا: أي حرب!
لكن لدمو آراء تنطوي على ثقافة جدية: هاك مقطعا من رسالة بعث بها من بيروت إلي لكي أنشرها في مجلتي "الرغبة الإباحية" يقول فيها: "القصيدة هي شكل المعاناة العفوية في لحظة من لحظات الاتفاق مع الذات والكون. هي عرس العقل كما يقول فاليري، وهي عرس تهشيم العقل كما يقول بروتون. إنها العلو الساخن المبتهج كما يقول رينيه شار. وهي صرخة الكائن المهموم ضمن كون اخرس وعابث. لربما هي اتحاد المألوف مع الغامض؛ نافذة للشكل في استقصاءاتها الفريدة وفي عذاباتها المتوترة"
عندما كان دمو في بيروت، تعرف الى صديق لبناني مأخوذ بشاعريته، فكان هذا الصديق يدفع وجبة طعام مقابل عدد من القصائد. ويبدو ان الأمر دام لعدة أشهر ما استطاع الصديق اللبناني جمع الكثير من القصائد، بعث بعضها الي، فقمت بنشرها في "الرغبة الإباحية" (نيسان 1974) مع تعريفه للقصيدة المذكور أعلاه. لكن هذا الصديق اللبناني اختفى كليا واختفت معه ما أملاه دمو من قصائد شهية بالتأكيد مقابل وجبات غذاء مدفوعة كان جان في أمس الحاجة اليها. آمل أن يقرأ صديقنا اللبناني الذي لم اعد أتذكر أسمه خبر موت صديقه فينشر قصائد دمو.
يستحق جان دمو كل الثناء ذلك لأنه حتى يحافظ على نقائه في عراق الوشاة القتلة (عراق صدام) لم يكن أمامه سوى أن يتصرف بشكل شاذ ما جعل منه، حتى في نظر أصدقائه، أشبه برجل مضحك، لكن بفضل هذا التصرف ولامبالاته المطلقة الرافضة "بعين مفتوحة ما يقبله كل أولئك وعيونهم مغلقة: الانتفاع من كونهم شعراء" (على حد عبارة رينيه شار)، استطاع أن يخلّد لنا، أشبه بصورة شمسية، تلك السنوات حيث كنا متهيئين للولوج في قعر المجهول لنأت بالجديد، لكن حراس الموت البعثي كانوا بالمرصاد. أستطيع التصريح دون أي اجحاف بأن جان دمو هو في نظري أفضل من كل ما انتجه جيل الستينات من دواوين، إذ يكفي ان تستحضر في ذهنك جان دمو هذا الشاعر البلا قصيدة حتى تصدق أنها مجرد دواوين؛ تراث في مزبلة. (هذه المقدمة كتبت عام 1992 كمدخل لأشعاره في كتابي المفقود "انفرادات الشعر العراقي الجديد".
 عن: موقع ايلاف