هديب الحاج حمود والاجيال الديمقراطية في العراق

Wednesday 12th of February 2020 07:17:02 PM ,

عراقيون ,

د. عقيل الناصري
تاثر الجيل الثاني من الديمقراطيين العراقيين بأفكار الجيل السابق له، جيل الرواد الأوائل في العشرينيات ، والجيل الثاني في الثلاثينيات الذي اصطلح عليهم : جماعة الأهالي والجماعات الماركسية . حيث تأثر طالب الحقوق الشباب هديب الحاج حمود بأفكار الرواد الأوائل للمساواتية الذين إشتقوا لأنفسهم طريقاً آخراً غير الطريق الماركسي..

وهم الذين كانوا يؤمنون بالأفكار التقدمية الملتقية مع الرؤية الماركسية لواقع العراق في الكثير من المفاصل وخاصةً الغائية منها والمنصبة على تحقيق العدالة النسبية في توزيع الثروة الاجتماعية..
وفي سبل ماهيات ارتقاء المؤسسات السياسية المجتمعية، كما إنهم (جماعة الأهالي ومن ثم الحزب الوطني الديمقراطي) نظروا إلى الاشتراكية في الإطار الأرحب للديمقراطية والحريات الليبرالية لكل الطبقات والفئات الاجتماعية. فلم تكن الاشتراكية بالنسبة لهم نقيضاً للبرالية أو بديل عنها، حسب تحديد الأكاديمي عامر حسن فياض، بل كانوا ينظرون إليها كامتداد للقيم الليبرالية وأوصلوها إلى آفاق جديدة في الحياة السياسية والاجتصادية.
أما المتأخرون من الجيل الثاني للفكر الديمقراطي الليبرالي البرلماني في العراق .. الذي ينتمي إليه الراحل هديب الحاج حمود.. فقد بدأت تأثيراته العملية الملموسة ، بل وحتى الفكرية المجردة ، بعد الحرب العالمية الثانية حيث ظهرت فئة اجتماعية جديدة أكثرا تنويرا ، ومتأثرة بالانتقال النوعي لما أفرزته الحرب العالمية الثاني من أفكار تحررية على نطاق العالم وبالأخص في العالم الثالث.. ومنها ما سار فيه العراق من سبل الولوج الحضاري. إذ حطموا بنضالهم العنيد ونظراتهم الاجتماعية الدقيقة لماهيات الصراع ، موجات تدفق حركة الحياة الدائرية المغلقة والمنطلقة من الخلية الاجتماعية الأولى – العائلة ، حيث كانت تجثم بصلابة هائلة قوة تأثير اللحود على الواقع الحي والرجل ورؤياه على مختلف مناحي حياة العائلة والمثل الأكثر سطوعا يضرب حول أنانيته وذكوريته الفكرية من المرأة.. وكذلك مدى تأثير أفكار السلف الموغلة بالقدم بحيث يقيم حولها منطقة من الفراغ والبطلان .. مما يضع البنى الاجتماعية في انقطاع دائم عن العالم الخارجي المتحرك .وقد انتبه جيل الراحل هديب الحاج حمود إلى هذه الناحية منذ ولوجه العملي في الحياة الحزبية وتجربته الحياتية منذ توريثه مشيخة الحميدات في النصف الثاني من الثلاثينيات، وقد تعمق في قراءة مغازيها الاقتصادية والسياسية والجمالية بل وحتى الحقوقية التي حاول تغييرها منذ ذلك الحين عندما تأثر بمعلمه الذي درسه اللغة الإنكليزية وبث فيه ، والآخرين من الطلبه الفقراء، الروح النقدية للنظام الاجتماعي شبه الاقطاعي وما يفرزه من عدم المساواة بين الأفراد، رغم أنهم نظراء في الخلق.. حتى تماثل الطالب هديب، ابن الشيخ، مع هذه الأفكار وعقد صلات صداقة صافية النزعة والطموح مع أبناء الفلاحين رغم معارضة شيوخ العشيرة له.. وقد تبلور هذا السلوك الاجتماعي لديه في علاقاته الحقوقية مع الفلاحين حيث مارس فعلاً (ثوريا في حينه) عندما أخذ يتأثر بالأفكار اللا عنفية التي نادى بها غاندي ..إلى الرؤية الفلسفية للكاتب الروسي تولستوي الذي تماثل هديب وإياه في إنصاف الفلاحين ومساعدتهم وتعليم أبنائهم، مروراً بالكثير من الواعين في تاريخنا العربي الإسلامي أو غيرهم من فلاسفة العصر الحديث. وانطلاقاً من تلك النظرات الفلسفية والحقوقية ذات البعد المساواتي التي نادى بها الكثير من الإصلاحيين.. قام منذ بدء الخمسينيات بتطبيق هذه الفلسفة النظرية إلى واقع مادي متجسداً في تقسيم الحاصل بينه، كملاك، وبين الفلاحين مناصفةً كما كان يقدم لهم الكثير من الخدمات وكذل الأدوية وبعض من المنح والأهم العلاقة الإنسانية المتفقة مع قناعاته الفكرية. هذا الفعل أثار احتجاج كل الملاك والإقطاعيين في المنطقة بل في الفرات الأوسط ، وأدخله في صراع معهم، لا بل عداء تناقضي معهم من جهة، وحفز الفلاحين في عموم المنطقة، ومن ثم انتشرت في الكثير من مناطق العراق، للمطالبة بذات الحق من جهة أخرى وخاصةً المطالبة بإلغاء قانون التوزيع القديم.. ولقد كان موقفه هذا متماثلاً مع موقف الكاتب الروسي الكبير ليف تولستوي .. لكن يبقى العامل الذاتي لديه ورؤيته الطبقية لماهيات العلاقة العشائرية القائمة على الاستغلال وسيادة قانون الغلبة والقوة..أهم الحوافز التي أثارت مكامن روحه النقدية لمساوئ هذه العلاقات غير المتكافئة.. هذه المواقف العملية صنفته ، حسب التقارير البريطانية، من كونه قريب من الشيوعية.. لذا تم اعتقاله وأخيه موجد، وبعض من أقاربه في حركات الفلاحين في الشامية/ محافظة الديوانية عام 1954 باعتباره محرضاً ضد العلاقات الإقطاعية في الريف. ومن ثم محاكمته التي انتهت بالإفراج عنه بدفع كفالة نقدية وفضل البقاء في السجن تضامناً مع الفلاحين ومطاليبهم العادلة، على دفع الكفالة التي رأى فيها انتقاصاً من موقفه السياسي.
هذه الممارسة العملية لهديب الحاج حمود رفعت من مكانته ليس في حزبه ( الحزب الوطني الديمقراطي) فحسب .. بل بين أوساط الفلاحين حتى سمي قانون مناصفة الحاصلات التي أصدرته وزارة فاضل الجمالي الثانية (بقانون هديب) رغم عدم تطبيقه وإهماله من قبل السلطة والإقطاعيين، وكذلك ازدادت مكانته السياسية في نظر الحركة الديمقراطية العراقية، بمختلف توجهاتها، باعتباره رائداً في هذا المجال .. حتى أُطلق عليه لقب ( تولستوي العراق) كما أن هذه المواقف السياسية والاجتماعية دفعت بعبد الكريم قاسم إلى تعينه وزيرا للزراعة في أول وزارة لثورة 14 تموز.
من هذا المنطلق العضوي كان لهديب الحاج حمود الدور المهم في تعضيد وتعميق ثقافة وفكرة التغيير العضوي المسترشد بالفكر الاشتراكي الفابي وبالنظرة الراديكالية الإصلاحية ولألياتها التغيرية وهدفها الاجتماعي ولمنفعة الطبقات المنتجة في الريف، من خلال وقوفه بوجه الجوانب المظلمة من التقاليد والنظم والقوانين التي كرسها واقع التخلف والسلطة الملكية والنظام الإقطاعي في الوقت نفسه، رغم أنه من حيث موقعه الطبقي هو من الشيوخ المالكين وكان المفروض أن يكون مع السلطة الملكية.. لكنه انسلخ عن هذا الموقع وتبرأ منه بسلوكه الفكري والعملي.
وساهم هديب الحاج حمود من خلال منصبه الوزاري ومن خلال موقعه السياسي في الحزب الوطني الديمقراطي في تطبيق أفكاره الإصلاحية وتحرير الفلاحين من ظلم وجور المؤسسة الإقطاعية وأول عمل قام به هو إلغاء قانون دعاوى العشائر المدنية والجزائية الذي كان يحابي شيخ العشيرة ويزيد من عبودية الفلاح له، وذلك بعد مرور أسبوعين على نجاح الثورة. ومساهمته الجادة في سن قانون الإصلاح الزراعي في 30 أيلول 1958.
لقد ساهم الراحل في الحياة السياسية كداعية إلى الإصلاح على شتى مناحي الحياة تحت مظلة الديمقراطية فكرا ونظاماً.. وعليه يمكننا أن نطلق عليه بحق ( مثقف عضوي) حسب مفهوم غرامشي حيث زاوج بين الموقف النظري الفكري وبين الممارسة العملية لفعل صيرورة التغيير التي كان يؤمن بها .
لقد فقدت حركة التيار الديمقراطي خاصة ذات البعد الاجتماعي ، شخصية سياسية نيرة ، في هذا الظرف العصيب الذي يمر بها البلد وذات الحركة التي استمدت بعض من مقوماتها من تاريخية شخوصها.. فكم يحتاجهم العراق كمثل يضرب بالنزاهة والاستقامة وفي تغليب العام على الخاص والانطلاق من مصالح البلد ومن غائية النظام السياسي المستهدف بناء دولة المواطنة والقانون وسيادة الرفاه الاجتماعي .