لا الإصابَة أرجعَته ولا التهديدات نفعَت معَه.. قصّة أول منظم لتظاهرات الشعلة في ثورة تشرين

Thursday 9th of January 2020 08:48:04 PM ,

الحريات اولا ,

 علي الكرملي
يتنفّس الشعر ويعيش لأجله، لا يوجد في رأسه غير الشعر، في الشهيق حاضرٌ معه، وفي الزفير أيضاً. كأنَّهُ جيء به لهذه الحياة من أجل تلكَ الخصّيصَة حَصراً، ويالَها من خصّيصَة يحسده عليها كثيرون، فليس كل أحد يستطيع من الشعر.

حياته ليست كما حياة بعض شعَراء الترف الذين جعَلوا من الشعر (وسيلَةً) للوصول إلى مكاسب وأطماع يبتغونها، فتراهم يكتبون (زيفاً) لهذا السياسي، ويمتدحون (كَذِباً) لذلك القيادي. حياتُه بسيطة في منطقة بسيطة، تحمل من الكرامة، ما لا يحملها أولئك.
بينَما كانَ يُحَضّرُ لقصيدَةٍ عاطفيّة - فيها من الحزن ما لا يُحتَمَل - أطَلَّت احتجاجات الأول من تشربن، هُنا تركَ قصيدته التي أكمَلَ نُصفَها (بينما لم يكتمل نصفها الباقي حتى اللحظة)، لينزل للشارع، يصرخ بأعلى صوته، مُنادياً على أبناء منطقته لافتراش الشوارع.
نعم، افتراش الشوارع احتجاجاً لأجل هذه التربة في هذه البلاد، لإنقاذها من شِلَّة الفاسدين والقتلَة والسُّرّاق. بعد ليلَتَين ونهار، تمَكّنَ من تجميع الناس والنزول في شوارع الشعلة، لتمتلئ بالبشر، صغير وكبير، شيخ عشيرة، وأكاديمي، جمعَ الكُل في مكان واحد.
كان ذلك في اليوم الثالث من تشرين، وهو ثالث يوم من الاحتجاجات أيضاً، لتستمّر منطقَتهُ (الشعلَة) في تظاهرات ليليّة لا مثيل لها، تُرَدّد الشعارات والأهازيج التي تجعل ممّن لديه ذرّة كرامة، يُؤَنّب نفسه وضميره، قبل أن يعاقبه الآخر.
لكن من أين لهم الضمير والإحساس، مثلهم لا ضمير له ولا شعور بالعار. عموماً، استَمرَّ ذلك الشاب الذي يقف على بُعد حافَّة واحدة من بلوغ ربيعه الـ (27)، في التنظيم لتظاهرات منطقته، والتحشيد المُتَزايد لها نهارا بعد نهار، وليلة بعد ليلة.
ولأنَّ ساسة الحُكم لا ترضى على من يخرج بالضد منها، أرسلَت قوّة ضخمة من مكافحة الشغب لإحاطة مكان الاحتجاج، وإلقاء القبض على أبرز مُحتَجّي المنطقة - حَصراً من الشباب - فألقَت القبض على (75) شاباً، كان هو أولهم، واتّجهَت بهم نحو مطار المُثنى المشؤوم.
وبينما كانت سيارات الشغب تسلك طريقها نحو المطار، تمكَّنَ ”ديار“ من القفز من بهو السيارة التي كانَ فيها مع جمع من الشباب. لاحَقَتهُ شرطة الشغَب، لكنّه وبينما كان يركض فاراً منهم وسطَ ظُلمَة الليل الدامسة، سقَطَ في حُفرة لم يلاحظها.
تلكَ الحُفرة التي ومن حُسن حَظّه أنها لم تكن غميقَةٌ في امتدادها نحو الأسفَل، هيَ من أنقَذَته منهم، لم يعثروا عليه، وخرَجَ منها بعد رحيلهم، راجعاً إلى بيته، دخلَ البيت وكأنّه (حَرامي) يودُّ سرقَةَ المنزل؛ نتيجَةَ تلَثُّمِهِ وتنكّره، حتى أطَلَّ بوجهه فتعرّفَ عليه أهله.
انتَهَت الدفعَة الأولى من الاحتجاجات المناطقيّة، أو بالأحرى لم تنتَه قدرَ ما توقّفَت مُؤقتاً لأجل زيارة أربعينيَّة الحُسين (ع)، وإتاحة الفرصة للملايين من مُحبيه في الوصول إليه بسلام آمِنين، وكذا لتمكين الأمن من تأمينها، لتعود بعد ذلك بمرحلة هي الأهم والأشمَل.
في تلكَ المُدّة التي تسبق الدفعة الثانية من الاحتجاجات، كانَ ”ديار محمّد“، الشاعر الشعبي المعروف عند أبناء جيله، والذي ساعدته مشاركته في العديد من البرامج التلفزيونية الشعرية في بلوغ شهرته، كانَ يُحضّرُ قصائد عن الاحتجاجات، مُنهَمِكاً فيها.
تمّ التحشيد عبر منصات التواصل لانطلاق الدفعة الثانية من الاحتجاجات في (25 تشرين الأول 2019). لكنّ هذه المرَّة تم الاتفاق على أن تكون الاحتجاجات مركزيَّة في ساحة التحرير وسَطَ العاصمة.
ذهبَ في الليلة التي تسبقها للمبيت عند بعض الأصدقاء في منطقة الكرادة القريبة من ميدان التحرير، ذلكَ تحسُّباً لإمكانية قطع الطرق، حتى لا يُمنع أو يحرم من المشاركة في الاحتجاجات.
جاء نهار الجمعة (25 تشرين الأول 2019)، ذهبَ نحو التحرير مع رفاقه، واحتَجَّ معهم، استمرّ في احتجاجه ليومين، وفي نهار الـ(27 من ذات الشهر) كانَت هناك محاولات لعبور جسر الجمهورية واقتحام الخضراء، بينَما كان يحاول إقناع الشباب بالعدول عن قرارهم حصلَ ما حصل.
وهو يحاول إعادتهم من الحاجز الأول الفاصل بينهم وبين الشغب فوق الجسر، أُصيبَ بقنبلة غازية مُسيلَة، سقطَت بكل حرارتها على صدره، وانزلقت نحو فخذ قدمه اليُمنى وراحت نحو الأرض، راحَت لكنها تسبّبت له بـ أربعة جراحات، واحدة في صدره قرب قلبه، واثنتان قرب خصره، أما الرابعة ففي فخذ رجله اليُمنى.
نُقِلَ على إثرها إلى مستشفى الجملة العصبية في جانب الرصافة، مكث فيها أسبوع، وتم تخريجه نحو منزله، وبقي تحت العناية لأسبوعَينِ آخَرَين؛ لأن الإصابات تحمل أضراراً قوية، رغم ذلك كان يحاول العودة بأسرع ما يمكن نحو ميدان الحُريّة، لكن أهله كانوا يوقفونه بصعوبة.
"سكتنه هواي عنكم، بس وصَل حَدها.. وموش ذيولكم وحلوكنا نسدها
بمُسيل دموع أرجع؟؟.. أرجع خلص عمري دموع، ومتوقعين إنتَ جروحنا اتشِدهه.. ومثل كيعانَّه الرَدَّت بدَمنا الطاح، والعَبّاس هيچ حكوكنا انرِدها.. وكلها تحَوّل بالتحرير، وحَكّي مرَبَّع يوصَل، كلها تحَوِّل بالتحرير".
تلكَ القصيدَة أنشدَها ووَثَّقَها بالصوت والصورة وسطَ الرصاص والغاز المُسيل بكل شموخ دون إذعان لرُعب رصاصة أو لتهديد قُنبلَة، أنشدَها ونشرها على حسابه الخاص؛ لِتُلاقي تفاعُلاً كبيراً من رواد التواصل، هذا غير مُشاركتها من عديد البيجات المعروفَة، كان ذلك قبل إصابته بليلة واحدة.
كعادَ في مطلع (ديسمبر/ كانون الأول) إلى التحرير من جديد، وهو لم يكن يستطيع المشي والوقوف على قدميه بثبات، عاد وهو يتكئ على العكّاز، حُبّه للوطن جعله يخرج من بيته ليستنشق الحرية في ميدان الحُريّة، لكن عودته هذه المرّة كانت أقوى، جبروته لا يرتضي السكوت، ما أدى إلى تهديده مرَّتين.
"كالَوا راح يطلع يقمع إخوانة، كلتلهم ابِنَّه الملِح ما خانه.. اليضربنه تره من إيران اللي جابوه، كالولي عراقي وهذا نيشانه"، ويُكمِل حتى يصل لنهايَة القصيدة حيث يقول، "واكو واحد كبل ليموت شممناه اللثام الكاتلَه وشَم عطر جيرانَه".
استيقظَ في صباح اليوم التالي، وجدَ رصاصة مع ورقة فيها تهديدٌ علَني بتصفيته إن استمَرَّ في استفزازاته على حد وصفهم، تم تهديده بتلك الطلقة التي كانت عند باب منزله، لأنه ذكَرَ إيران في قصيدته التي ذُكِرَت أعلاه.
لكن كل ذلك لم ينفع في إخماد صوته، لا الإصابَة أقعدَته، ولا التهديدات أسكتَته، ولا الاعتقال أعادَه إلى منزله، استمَرَّ ويستمر حتى اليوم في احتجاجه وتواجده عند نصب جواد سليم، حيث الحُريَّة المنشودَة. يقول ديار: "سأبقى هُنا، ولَن أعودَ أدراجي حتى تحقيق ما نبتغيه، وليَحدُث ما يحدُث".