فؤاد التكرلي يكتب عن رئيس الوزراء فاضل الجمالي

Sunday 22nd of December 2019 07:11:15 PM ,

ذاكرة عراقية ,

التقيته لقاء عابرا قبل أسبوعين من وفاته( توفي يوم 24 مايس 1997 )، في معرض تونس الدولي للكتاب الخامس عشر. كنت واقفا مع صحب في الجناح العراقي حين رأيته يسير بتثاقل في الممر متجها نحونا، يستعين بعصاه وبصديق يسنده برفق. كان مستبشرا، في بدلة بيضاء، يرد على محييه بابتسامته المميزة وبهزات من رأسه الأشيب. رحبنا به وبدا عليه انجذاب غريب نحو الكتب المسجاة أمامه على الطاولة، فانحنى متشبثا بعصاه وقرب عينيه من الصفحات، محاولا أن يتبين جيدا عناوينها.

كان ذلك منظرا فريدا من إنسان يحمل أعباء زمن ثقيل، ولا تفارقه روح المحبة للقراءة والاطلاع.
طرق اسمه سمعي أول مرة في أوائل الأربعينات من هذا القرن، حين كنت، في بداية فترة المراهقة، اهتم بالأدب فقيل لي إن رواية ذنون أيوب (الدكتور إبراهيم) مستوحاة من شخصية موظف كبير في وزارة المعارف يدعى الدكتور محمد فاضل الجمالي، تسبب في إزعاج المؤلف حين نقله من بغداد إلى مدينة أخرى، ففقد ذلك العمل الأدبي الكثير من قيمته في نظري لاعتقادي آنذاك أنه كان مسخرا لخدمة عرض شخصي لا علاقة له بالآخرين.
ثم كان أن جمعتنا صدفة عجيبة في سنة 1947 ففي نسيان (إبريل) من تلك السنة أقيم احتفال الكليات الرياضي بحضور رجالات الحكم، وكنت مشتركا فيه عن كلية الحقوق، وحدث أن فزت بجائزة القفز العالي، فالتقطت لنا الصور ونحن نتسلم الميداليات من يد الوصي عبد الإله، وحينما رأيت الصورة التي أظهر فيها مصافحا الوصي وجدت أن الواقف بجانبه كان وزيرا .
المعارف آنذاك محمد فاضل الجمالي. لا تزال الصورة بحوزتي، إذ لم أفز بميدالية أخرى بعد ذلك، وكان علي أن أحتفظ بهذه الصورة حفظا لماء الوجه الرياضي! غير أني لم أكن فخورا بها مع ذلك، فقد كنا، شباب الخمسينات، متمردين وحانقين، لا ندري، في الحقيقة، لمن نوجه ثار غضبنا إن لم يكن لمثل هؤلاء!
في سنة 1953 ظهر العدد الثاني من مجلة (الثقافة الجديدة) فصودر بعد توزيعه في السوق بساعات وجمعت أعداده. كنت قد نشرت فيه أقصوصة (الآخرون)، وقيل بعد أيام، إن رئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي سيواجه مجلس النواب العراقي ويشرح لأعضائه سبب إصدار القرار بمنع هذه المجلة!
وقام، فعلا، بهذا العمل ووقف أمام أعضاء المجلس وأخذ يقرأ لهم من مجلة (الثقافة الجديدة) - ذات الغلاف الأخضر كما أتذكر جيدا - مقتطفات من مقال للدكتور إبراهيم كبه، ويبين لهم نواحي الفلسفة الماركسية التي يستند إليها المقال المذكور. كان رئيس الوزراء آنذاك معروفا لنا بأنه يمثل التيار السياسي الجديد المؤيد لأمريكا، الذي كان منافسا للتيار الإنكليزي القديم الذي يقف نوري السعيد على رأسه. ولعل هذه المبادرة من رئيس الوزراء كانت لإظهار المستوى الرفيع الذي يريد أن يبدو به في ممارسته للديمقراطية.خطر لي وأنا أقرأ في الصحف تفاصيل هذه التمثيلية، بأن من الأكيد أن رئيس الوزراء لن يهتم بقراءة أقصوصتي وتحليلها وفهم أبعاد ما تعبر عنه، فقد كانوا جميعا، غير مكترثين بالمجرى الخطير المرعب الذي كان يسري بصمت تحت أقدامهم والذي كان الأدب وحده يشير إليه ويرصد مسراه.وكان الشيخ إذن، ذو السنوات الأربع والتسعين، منحنيا على عناوين الكتب، يريد، معاندا بصره الضعيف، أن يتبين فحواها وأسماء مؤلفيها. لم تكن الحياة رفيقة بهذا الإنسان دائما، ففي سنة 1958 أنزله الثوار من عليائه وسجنوه، وعومل بقسوة وأهين علنا ثم أنهوا، بغوغائية لا مثيل لها، محاكمته بالحكم عليه بالإعدام مرات وبالسجن مئات السنين. كانوا مصرين بشكل مشبوه، على جعل أنفسهم وبلدهم المسكين، أضحوكة للعالم.
لم ينالوا من الجمالي مع ذلك، وعفي عنه فسافر ولقي الترحاب في بلده الثاني الأمين... تونس. وكم كانت دهشتي كبيرة، قبل ست سنوات، حين قرأت لهذا الرجل المسن مقالا ملتهبا يدين فيه الأمم المتحدة ومن ورائها أميركا لما أصدرته من قرارات لا شرعية بحق العراق والعراقيين. كنت مندهشا بسبب أن ذلك المقال لا يمثل ولا يعبر عن توجهاته السابقة حين كان مشاركا في الحكم في الخمسينات، وتبادر إلى ذهني أنه قد يكون مجاملا لبعض الجهات السياسية، إلا أن استمراره، وإصراره على الكتابة وعلى إدانة الولايات المتحدة بنفس النسق الأول يجعل من المتعذر تصديق هذا الرأي.الرجل، إذن، كان مخلصا وصادقا في غضبه وفي تعريته للقرارات القاسية واللا إنسانية التي طاولت شعبا عريقا ذا حضارات متعددة قدمت الكثير من أجل رفعة البشر وحفظ كرامتهم، ولعل هذا الشيخ الذي جاوز التسعين وهو يجهد نظره منحنيا علي الكتب المطبوعة في العراق، كان يبحث عن دليل آخر يضيفه إلى الأدلة الكثيرة المتجمعة لديه، ليثبت أن شعب العراق شعب مبدع، صلد، وأن من الواجب الوقوف إلى جانبه على الدوام والإعلان عن حقيقته الرائعة على الملأ .
عن: كتاب (مستدركات الاعيان) لحسن الامين