50 عاما على رحليه..بدايات مصطفى جواد في تسجيلاته الصوتية

Sunday 15th of December 2019 07:01:23 PM ,

ذاكرة عراقية ,

توفيق التميمي
عند زيارتنا لبيت ابنته المربية الفاضلة والمشرفة اللغوية فائزة مصطفى جواد في حي الجامعة شتاء عام 2013 ، لتتبع اثاره واضاءة سيرة والدها العلامة مصطفى جواد والحصول على بعض الوثائق والرسائل النادرة التي تفيدنا بتأصيل هذه السيرة المباركة ، حصلنا فيما حصلنا عليه من مراجع نفيسة شريطين مسجلين بصوت مصطفى جواد كان قد سجلهما قبل وفاته بايام قليلة يستعرض فيهما ذكرياته وابرز ما مر خلالها من احداث جسام ووقائع مثيرة ، اختلط فيها الخاص بالعام وامتزجت السيرة الشخصية بسيرة وطن ووقائعه .

كان ذلك التسجيل بناء على رغبة والحاح من ابنته فائزة التي يعتز بها اعتزازا كبيرا ،احساسا منها بانه بدأ يدنو من ساعاته الاخيرة بعد ظهور علامات الاعياء والاجهاد واضحة عليه لما كان يبذله من جهد وارهاق في انشغالاته المعرفية والجامعية والاعلامية، وكأنه يسابق الزمن ويغالبه حتى سقط في الضربة القاضية للغلطة القلبية حسب تصويبه لكلمة لعبارة (الجلطة القلبية السائدة )، فلم يكمل سرد كامل ذكرياته .تمكنا من افراغ هذين الشريطين وتحقيقهما وابراز غموضهما في وقائع السيرة التالية مع بعض الملاحظات والاشارات والتنبيهات من قبلنا :

ولادتي وطفولتي
ولدت في الربيع الاول من القرن الرابع عشر للهجرة وكنت اسكن في محلة عقد القشلة ببغداد في الجانب الشرقي منها بجوار الجامع المعروف بجامع المصلوب، وكان والدي جواد بن مصطفى بن ابراهيم خياطا بسوق الخياطين المجاور لخان مرجان المعروف عند الاتراك واهل بغداد (خان اورتما )، وقد اتخذ خلال هذه الايام الاخيرة متحفاً للاثار العربية ، وقد اصاب العمى والدي لسبب من الاسباب التي تؤدي الى هذه العاهة ، واحس له بعض اصدقائه ان يقتني املاكا بناحية " تيلتاوا " المعروفة اليوم بالخالص ويعتاش عليها ، ومع هذا فقد تملك والدي قبل ذلك ببغداد دكانه الذي يحترف فيه بسوق الخياطين ، وداره التي يسكن فيها ودارا اخرى في محلة ( الطاطران ) لان اول سكناه ووالده كان هناك ، وبستانا صغيرا في الكرادة الشرقية ومستغلا في محلة القاصرخانة ، باعه قبل ان ينتقل الى تيلتاوا ، ونقلني والدي معه الى تيلتاوا ولما بلغت سن الدرس في الكتاتيب وكانت مختلطة بالاطفال يشترك فيها البنين والبنات ،اسلمني والدي الى كتاب معلمة للقرآن الكريم تعرف " بالملاية صفية " وعندها اخذت أُلقن القران الكريم بعد دراستي حروف الهجاء على الاسلوب القديم المعروف ، ثم نقلني والدي الى مدرسة تيلتاوا الابتدائية وكانت تسمى ايامئذ باسم (مدرسة المكتب ) واتذكر من معلميها صبري افندي (رحمه الله تعالى )وكان كما يظهر من احواله عاريا من العلم ، وعبد المجيد الاعظمي وهو رجل فاضل وعليه تدربت في خط الرقعة الذي هو خطي المعتاد).
تعليق (المحرر): نلمس هنا لغة التهذيب التي يوصف بها جواد معلمه رغم جهله وغلاظته فهو يترحم على روحه ويصفها بالعري عن العلم بدلا من اوصاف خشنة اخرى ،كما ان التدريب على الخطوط ومدارسها كان يشكل محورا مهما من محاور التعليم في عشرينيات وثلاثينيات القرن السابق ، واختفاء هذا الدرس علامة في انحطاط خطوط الطلاب التي بلغت اقصى درجات هشاشتها في ايامنا هذه .
جئت الى الصف الثاني الابتدائي حسب النظام العثماني وبعدها انتقلت الى الصف الثالث الابتدائي، وفي شتاء تلك السنة دخل الجيش الانكليزي ديلتاوا في العام 1917 اي في سنة سبع عشرة وتسعمئة والف على حسب النطق الصحيح ، ودخل الجيش الانكليزي ديلتاوا متعقبا الجيش العثماني المنهزم نحو الشمال وقد مر الجيش المذكور بالمدرسة التي ادرس فيها لوقوعها على الطريق العام من الناحية ،وكان ذلك اليوم اخر ايام دراستي في العصر العثماني، وقد توفى والدي قبل ذلك بقليل فلم يتهيأ لي الاستمرار على الدراسة ،وانصرفت الى رعاية البساتين التي خلفها لنا الوالد لي ولأخي الاكبر كاظم واخواتي الست من زوجين اثنتين وكانت والدتي الاخيرة ، وبعد عقد الهدنة بين الاتراك العثمانيين والانكليز استتبت الامور بالعراق وفتحت مدارس ومعاهد، منها مدرسة ديلتاوا الابتدائية ، الا اني كنت مقبلا على شأني (يقصد ادارة البساتين ) ،وحدث نزاع بين والدتي واخي الكبيركاظم من اجل الوصية عليَ والاسراف على اموري لاني كنت قاصرا يومئذٍ ، فنقلني اخي الى بغداد وادخلني المدرسة الجعفرية الاهلية ايام كانت قرب سوق الغزل واذكر من مدرسيها الاستاذ شيخ شكرا البغدادي ومحمد حسن كبة واحمد الخياط ، رحمة الله عليهم .) من الشريط الصوتي المذكور.
لابد من الفات النظر هنا في هذه المحطة من سيرة مصطفى جواد للدور الكبير الذي قدمته المدارس الجعفرية في استيعاب اعداد كبيرة من ابناء الطبقات الفقيرة في بغداد وما ادته من وظيفة في رفد المؤسسات الادارية من خريجيها اصحاب الكفاءات التي عززت بناء مؤسسات للدولة ،وقللت من فجوة تهمة طائفية الدولة التي هندستها سياسات العثمانيين ورسختها حكومة المحتل البريطاني ،كما لابد من الاشارة الى ان ادارات هذه المدارس لم تكن بالضرورة من الطائفة الجعفرية حصرا ،كما يورد العلامة مصطفى جواد في مذكراته الصوتية هذه والتي تحمل اسمها، بل ان هيئتها التدريسية كانت تضم ملاكات تعليمية وتربوية من جميع طوائف العراقيين دون استثناء ، بل انها كانت ملاذا للمعلمين والمدرسين التي تطردهم الحكومة وتقصيهم لاسباب سياسية او عنصرية ،ولي مع معلميها شهادات عن هذه الحقيقة كما في شهادة نقيب المعلمين الاسبق والقيادي في الحزب الوطني الديمقراطي نجيب محي الدين في سلسلة هذه الشهادات عندما آوته المدارس الجعفرية كمعلم لمادة الكيمياء بعد فصله عام 1952 لتحريضه طلبة دار المعلمين في بعقوبة ضد الحكومة القائمة انذاك.
قصر اخي في تسديد اجرة المدرسة فاخرجت منها وانتقلت الى مدرسة باب الشيخ الابتدائية في اول محلة الصدرية وكان المدير ايامها السيد هاشم الالوسي رحمة الله عليه ،واذكرمن مدرسيها او معلميها السيد الاستاذ جميل الراوي، ثم تركت هذه المدرسة والتحقت بوالدتي بعد استصدارها حكما بالوصية عليَ ، وقد قاسيت كثيرا من العوز حتى حلت سنة 1920 الميلادية اي سنة عشرين وتسعمائة والف الميلادية وفيها ضاقت علي سبل العيش في بغداد فرأيت ان انتقل الى ديلتاوا وانتفع بحصصي بالبساتين الموروثة وان كان الغالب على غلاتها التمر وهو ارخص الفواكه في العراق ، وكانت الثورة العراقية قد شبت في عدة انحاء من العراق ولا سيما الفرات الاوسط ولواء ديالى واستولى الثوار على بعقوبة ونواحيها ومنها تيلتاوا وكانت الطريق بين بغداد وبعقوبة وتيلتاوا تحت رقابة الانكليز.