شمران الياسري.. رحلتَ بقميص الوضوء

Wednesday 27th of November 2019 06:42:03 PM ,

عراقيون ,

إحسان شمران الياسري
في فكرته عن الحياة، يعيشها شمران الياسري/ أبوكاطع مثل بذرتها الأولى، حُرّةً، تكافحُ لتتجدّد، تكفيها قطرتا ماءٍ كي تمدَّ جذورها، وقطرةٌ أخرى كي تزهر. وظلَّ هكذا، بعيداً عما ينقصُ الفِطرَةَ، وغريباً عمن يزيد من متطلباتها..
وليتني رأيته هيّاباً منها، أو قلقاً عليها، لبحتُ لكم به، وفضحتُ ادعائي.

شمران.. يتقرّبُ منكَ ولا يسألكَ تصديقه، ولكنه يحرّضكُ على الاستماع، ويضعُ الكلمة َبين جفنيكَ كي تراها، صورةً إطارها مدلولاتها التي لا تعجزهُ، ويرتقي بفمكَ كي تهتفَ بلحظةِ تصديقه والابتهاج بموقفه..

لا يتركُ كاتبنا، الصحفي والروائي، الساخرُ من تفاصيل الحياة، أصدقاءهُ الذين يخوضُ معهم المعرفةَ، من دون أن يوصلهم إلى ما يسعى إليه من إغراقهم في شأن فكرتهِ.. فهو لا يتركُ نهايةً منفلتةً، ولا سائبةً، بل يمسكُ الكأسَ التي سقاك منها ويعيدها ممتلئةً بقناعتكَ ورضاكَ ولذّتكَ مما كتب.
شمران في ذكرى رحيلهِ لم يفقدْ قارئَهُ أو ناقدَهُ أو صديقَهُ، ربما حصل هذا برحيلِ هذا القارئ وذاك الناقد والصديق، بل أضيفَ له قرّاءٌ ونقّادٌ وأصدقاء، وفاضَ ديوانهُ العامرُ بهم، وتجدّدت مباهجُهم به..
يوم ماتَ شمران الياسري، تفتّحت الأزهارُ فوقَ مقابرِ عشّاقِه، وهم أولئكَ الذين كتبَ عنهم، أو جايلهم فرحلوا قبلَهُ، أو أدخلهم في بواطنِ روايتهِ ليتصدّوا بدلاً منه في منافحةِ الظلمِ والظالمينَ وفسادِ الفاسدين.. وتفتّحتِ الأزهارُ فوقَ مقابرِ قرّاءَهُ، وفوقَ مقابرِ الشهداءِ..
شمران.. خلّدتهُ أريافُ العراقِ، وبيوتُ القصبِ، وخيامُ الرعاةِ الذين يبحثونَ عن العشبِ النادي لقطعانِهم.. وخلّدهُ الفلّاحونُ، جُباةُ الزكاةِ التي فرضها على الباحثين في تأريخِ العراقِ، والريفِ بالخصوص.. فما لم تقرأ قصةَ الريفِ التي كتبها أبوكاطع، لن تملكَ صورةَ تأريخِ العراق الحديث.. وما لم تستمعْ لبطولاتِ الشجعان من أصلاء العراق البسطاء، لن تصدّقَ البطولاتِ التي خاضها العراق كأمّة..
كيف بدأ شمرانُ أطروحتَهُ في فهمِ الحياةِ وإفهامها، تلك قصتهُ التي لولاها لكانَ كاتباً محدوداً، وربما لم يكن. فمذ كان صبياً، اختلطت رجولتهُ بصباه، وضاعت المسافةُ بينهما، فتكدّست معرفتَهُ كأنها بيدرُ قمحٍ يتضاعفُ كلّما وضعَ الحاصدون سنابلَ جديدةً فوقه.. وظلَّ هذا الدائبُ في عنفوان عطائِه يستلُّ من هذا البيدرِ الثرِّ لأكثر من ثلاثةِ عقودٍ، من دون أن ينقصَ البيدرُ، أو تظهرُ منه سنبلةٌ فاسدةٌ..
وكلما اشتقنا لوجهِ شمران أو صوتهِ، فتحنا روايتَهُ على (مخملِ) الفضيلةِ الذي حاكهُ عن أبطالهِ، ولا فرقَ إن كان البطلُ زعيماً نبيلاً فارساً، أو جباناً تافهاً صغيراً.. فكلُ أبطالهُ كان معهم شهماً في تصويرهم، فلم يطردهم من مساحةِ الرؤيةِ ليُبيّضَ قصّتَهُ أو ينزّهَها من الجبناءِ والصغارِ والفاسدينَ، بل تركهم يمشونَ بين سطورِها، ويجلسونَ في المقاهي، ويسرقونَ جهدَ الفلاحينَ.. تركهم لنراهم، ونتحصّنَ منهم، ونتجنّبهم (وليتنا فعلنا ذلك)..
وما إن نفتحَ روايتهُ، حتى نجدَنا بين الأبطالِ في أركانِ أكواخهم، وقربَ وسائدهم متكئينَ مثلهم نتسمّعُ لأشعارِ الثائر الهائل (حسين)، مستأثراّ بحبّهِ الجامح لثورةِ العشرين وغرورِ أبطالِها:
اكلنلچ يجامعة الحِسن عيناچ
فن كوكز وديلي بعسكره يدناچ
كون اهلچ جفوچ احنا بطرب جيناچ
خَل يِمّن كلبچ يرعيعه
أو استهانتهُ بالمحتلِّ، وكيفَ أصابهُ الثوارُ في مقتل:
واوى الكوت اجه متعنّي ومتمور
يكول اشهالّربيعه اشكثر بيها اكسور
واوي العارضية ايكلّه من ياخور
شيّم اهلك بلچي ايشبّعونك!
أو تغريدة العراقية الشامخة:
ابني المضغته البارود مفطوم اعلى سركيها
غم راي التجيب اهدان وتكمطه اعلى رجليها
وعندما يدخل في أعماق الإنسان، وهو يكشف ما في خاطره، تجد نفسك هناك، تشترك معه في المسألة مغتبطاً أو مغموماً.. أنها فراسةٌ لبيبةٌ، تكشف دونَ أن تفضح، وتكتفي حينَ تبعثُ رسالتَها..
آنه دوم إعلى المحاسن شاربي
شارب اسموم الحيايا شاربي
ما يطوبس للهضايم شاربي
وخابت امك يالتعيش بمسكنه
وقوله:
يا حمد خَيل الصبايا بالرهن
ما يعرفن هورِهن من برّهن
ام العِلا بالسيف ما هي بالرهن
غصب عالباشا يودّي كركنا
وقوله:
بركعوهن بالمطارج والبطن
بديرة العدوان خاطن والبطن
لا تكولش خيل ابو فدعم بطن
لحكن المديون واستافن منه
ثم شعر حسين بالغزل، وهو شعرٌ تنبتُ له أجنحةٌ حين يغدو متلبّساً بقصةِ عشقٍ في ذلك الريف الذي وضعه الكاتبُ على الورقِ وكأنكَ تنظرُ لشريطٍ يتحدّث فيه الأبطال، وأنت بينهم.. فتتذكر وجهَ شمران الياسري، بلونِ السنبلِ الناضج، تسيلُ روحهُ على كلِ حرفٍ وصورةٍ سجّلها.
لابسه الشاكر وكالبته كلب
يا بعد جوز الچلاوي والكلب
الماتشوفه العين يسلاه الكلب
ولو سلاه الكلب جيف اسلاه أنا؟
***
لا تلوم شهاب لا ونشّ وجنّ
ويحسب الساعات لو راحن وجن
بين نهدچ والخواصر والوجن
ضيّعت كارة كرنفل مثمنه
***
يا خشيف الوارده بشاطي الحلال
وشاده الراس چفّيه حلال
آه واويلاه من شافچ حلال
مصّة ارياكج لعيش ابها سنه
***
فأيُ ريفٍ هذا الذي يُريكهُ وأنتَ هناك في الأقاصي من الزمانِ والمكانِ، فتُدركُ، وتعشقُ، بل وتثملُ على همساتِ عشّاقه.. وأيُ أبطالٍ أولئكَ الذين تراهم وتجلسُ معهم وتتلذّذُ بسَمَرِهم وأشعارهم، فيما أنت عنهم بنحو قرنٍ من الزمانِ.. أهيَ مودةٌ خالصةٌ لشمران، أم قميصُ طُهرٍ تشمُ رائحتَهُ..
فيا ضفافُ دجلةَ هل إلى شمرانً فيكِ حنينٌ، ويا طينُ أكواخَ الغرّافِ هل نسيتِيهِ وهو يتفيّأ ظلالَكِ في شموسِ العراق صبيّاً، وكهلاً.. ويا جنباتُ أضلاعَ الدواوينِ في نبوءاتِها، هل مررتِ بذكرى مجالسهِ البهيجة..
هي أيامُهُ التي ارتوت، وعمّرت إرثَ هذا الزمان، فأفلحتْ مُنتجاً باهراً ضمَّ في طيّاته أبهى شهادةٍ عن ربوعِ العراق.. ولم يفلحْ بعدها ثائرٌ آخر، إلى أن يحينَ مخاضُ السنين، فيولدُ آخرُ مثلهُ..
سلامٌ إليكَ بعمرِ العراقِ، وكدِّ العراق، وزهو العراق.. وتبقى أنيقَ الضميرِ، تُجدّدُ أحلامَنا بالخلاصِ..
إليك أبي، فوقَ ترسانةِ الكلماتِ التي حملتكَ الى الخلودِ، أُقبّلُ أقلامُكَ وأوراقُكَ التي لم تزل في بيتِنا، هويتنا الشريفة.. وأمدُّ يدي، ألثمُ ربطاتِ عنقكَ وبعضَ ما أحببتَ من أشياء ظلتْ بيننا..
لكَ الرحمةُ من ربٍّ يعرفُ مَن أنتَ، ونعرفُ كم تشملُ هذهِ الرحمةُ في حسابِ العدلِ المطلقِ للهِ تعالى.