صفحات مطوية من اول انقلاب عسكري..مزاحم الباجه جي وحركة بكر صدقي

Sunday 24th of November 2019 06:31:44 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د. فهد أمسلم زغير
كان مزاحم الباجه جي خلال قيام الانقلاب الذي أجبر ياسين الهاشمي على تقديم استقالة وزارته وتعيين حكمت سليمان رئيساً للوزراء، موجوداً في روما وزيراً مفوضاً ، وكان أول رد فعل له تجاهها هو حزنه البالغ على مقتل جعفر العسكري وزير الدفاع الذي كان " يعتز بصداقته،بالرغم من الخلافات السياسية التي فرقت بينهما في الاحيان"، لكنه، مع ذلك ، أيد الانقلاب لاسباب عدة يقف في مقدمتها اعتقاده "

ان في امكان رجل قوي مثل بكر صدقي ان يفعل للعراق مثل ما فعله مصطفى كمال في تركيا اذا تعاون المخلصون من رجال البلاد معه ، فضلاً عن صداقته الشخصية القوية لمحمد علي جواد آمر القوة الجوية ، والساعد الايمن لبكر صدقي التي بدأت عندما كان محمد علي جواد يتدرب على الطيران في بريطانيا، في الوقت الذي كان فيه مزاحم الباجه جي ممثل العراق السياسي هناك.
ولاهمية المقترح الذي قدمه مزاحم الباجه جي وحماسه لشراء الاسلحة والطائرات الايطالية للعراق، ولكونه وزير العراق المفوض في روما فقد تم تخويله باجراء المفاوضات مع وزارة الطيران الايطالية لتزويد الجيش العراقي بمستلزماته واحتياجاته ، فالتقى الباجه جي بالفريق ( فاله) "Fala" وكيل وزير الطيران الايطالي الذي اقترح عليه حضور مدير القوة الجوية العراقية محمد علي جواد شخصياً لكي يطلع بنفسه مع وفد فني متخصص في الصنوف الاخرى على الطائرات والاسلحة الايطالية ويحدد ما يحتاجه لكي يزوده الايطاليون بها.
ومن جانبه فقد ابدى الملك غازي رغبته في الاطلاع على الطائرات والاسلحة والمعدات الحربية التي بالامكان شرائها من ايطاليا لتزويد الجيش العراقي بها ، وضرورة دراسة مدى استفادة العراق منها ، وبعد تأكده من ضرورة عقد هذه الصفقة التسليحية مع ايطاليا،كلفت وزارة الدفاع العراقية المقدم الطيار محمد علي جواد مدير القوة الجوية العراقية للذهاب الى روما في العاشر من نيسان 1937، والتحق به فيما بعد وفد فني عسكري تألف من العقيد بهاء الدين نوري والرائد الطيار حفظي عزيز والنقيب اسماعيل أحمد عباوي والنقيب الطيار جواد حسين واستقبلهم هناك مزاحم الباجه جي الوزير العراقي المفوض في روما ليلتقي الوفد العراقي مع وفد فني ايطالي كان متخصصاً بتشغيل وادامة وتصليح الطائرات والدبابات الايطالية الصنع. وعقب ذلك سافر وزير الدفاع العراقي الفريق عبداللطيف نوري ترافقه بعثة عسكرية ضمت ضباطاً من مختلف الصنوف الى روما للاطلاع على الطائرات والاسلحة الايطالية والمؤسسات العسكرية هناك، واستقبل الوفد الذي وصل الى ايطاليا في الخامس عشر من حزيران 1937 ملك ايطاليا فيكتور عمانوئيل الثالث ومنح وزير الدفاع العراقي وسام التاج الايطالي من الدرجة الأولى، كما منح الضباط المرافقين له أوسمة تقديرية.
حرص مزاحم الباجه جي على تعزيز دور ايطاليا في تزويد العراق بالطائرات والاسلحة لانه كان يدرك ضرورة تنويع مصادر التسليح العراقية وعدم اقتصارها على دولة واحدة، فضلاً عن ذلك فان تكليف الحكومة العراقية له بالتوقيع نيابة عنها كان معناه منحه ثقتها العالية لان موضوع شراء طائرات واسلحة بمبالغ غير قليلة دلل على مدى علاقته الوثيقة بحكومة الانقلاب، وهذا الأمر الذي كلفه فيما بعد تضحيات كثيرة على يد السياسيين العراقيين الذين عادوا الى السلطة بعد مقتل بكر صدقي وسقوط حكومة حكمت سليمان ومجيء وزارة جديدة على انقاضها .
لقد خلق الانقلاب لمزاحم الباجه جي فرصة لابراز امكاناته ونشاطه الدبلوماسي في ايطاليا، لاسيما في مجال خدمة الجيش العراقي عموماً، وقوته الجوية خصوصاً، فقد وقع عدداً من العقود مع شركات ايطالية متخصصة بتصنيع الطائرات والدبابات والمدرعات الخفيفة واسلحة اخرى مثل الكراسي الذاتية الحركة التي بالامكان استخدامها كمنصات متحركة لرشاشات مقاومة الطائرات التي كان العراق بامس الحاجة اليها في تلك الفترة، الا ان ما قام به مزاحم الباجه جي دفع ثمنه فيما بعد ، لان الانقلاب أحدث آثاراً لاحقه واسعة امتدت له وشملته بتأثيراتها ، مثلما شملت اشخاصاً آخرين أصبحوا معارضين للانقلاب بعد ان خلق لهم هذا التغير احقاداً وعداءات شخصية لم تقتصر على اعضاء النخبة السياسية حسب، بل امتدت الى البلاط والملك نفسه، اذ وضعت ، على سبيل المثال لا الحصر، نوري السعيد الذي قتل صهره جعفر العسكري في مواجهة حكمت سليمان رئيس الوزراء بعد الانقلاب، فسممت التطورات التي اعقبت الانقلاب العملية السياسية العراقية برمتها لسنوات طويلة تالية ، ولم يضع حداً لها غياب الملك غازي عن المسرح السياسي العراقي، وما اعقب ذلك من نتائج تتعلق بالوصاية على الملك الصغير والاحداث التي اعقبتها، التي تابعها مزاحم الباجه جي عن كثب في عمله في باريس التي انتقل وظيفياً لها .
أهتمت الحكومة الايطالية بانقلاب بكر صدقي في العراق ، فاستفسرت وزارة الخارجية الايطالية من مزاحم الباجه جي حول حقيقة الانقلاب وهويتهم واتجاهاتهم العامة، وعن حلهم للمجلس النيابي، وتحول بكر صدقي الى القوة الفعلية الوحيدة المسيطرة على رئيس الوزراء وشؤون الحكم ونفي عدد من السياسيين الى الخارج، فاكتفى مزاحم الباجه جي بتقديم ايضاحات مقتضبة عن حقيقة ما كان يجري في العراق، واشار الى ان الحكومة العراقية وعدت باجراء انتخابات جديدة في شباط 1937، واكد الباجه جي للخارجية الايطالية ان الأوضاع في العراق ستعود تدريجياً الى وضعها الطبيعي السابق ولا يوجد ما يقلق هناك، لان الانقلابيين وعدوا بانهم سيستمرون على سياسة الصداقة مع الدول الاجنبية بما فيها ايطاليا.
اتجهت رغبة العراق، بعد امتناع بريطانيا عن تزويده بالسلاح اللازم لتقويته نحو ايطاليا، لاسيما ان مزاحم الباجه جي كان ابرز المؤيدين لشراء السلاح منها من خلال اقتراح قدمه الى وزارة الخارجية في السابع عشر من تشرين الثاني 1936 اثر التسهيلات التي قدمتها الشركات الايطالية الكبرى واستعدادها لتلبية الاحتياجات العسكرية العراقية باسرع وقت ممكن، وتأكيدات مزاحم الباجه جي على متانة وجوده وكفاءة الجانب الايطالي في المجال التسليحي ووجود طائرات قاصفة من نوع ( سافويا) لديه مع وجود ادواتها الاحتياطية، فضلاُ عن ذلك فان الحكومة الايطالية ادركت توجهات رئيس اركان الجيش وقائد الانقلاب بكر صدقي ومعه الملك غازي ونيتهما في استيراد اسلحة جديدة للجيش العراقي فقدمت امتيازات وتسهيلات في هذا الاتجاه تمثلت باستعدادها لتدريب الضباط العراقيين دون مقابل.
لم يتسن لحكومة حكمت سليمان الاستمرار في عملها طويلاً ، اذ سرعان ما أسهمت مجموعة من العوامل في إسقاطها كان في مقدمتها اتجاه قائد الانقلاب بكر صدقي نحو اقامة دكتاتورية عسكرية تطيح بالملك غازي، وتصاعد العنف الذي أعقب مقتل جعفر العسكري ، وتخلي جماعة الاهالي عن الانقلابيين حتى وصل الأمر بعبدالفتاح إبراهيم احد المؤسسين لهذه الجماعة الى انهاء علاقته بزملائه قائلاً لهم " انكم حطمتم حركتنا عندما مكنتم الجيش من حيازة السلطة، ولسوف تدفعون ثمن ذلك" فضلاً عن ذلك فقد أدت اتجاهات الوزارة ، ومقتل جعفر العسكري الى استمرار تدخل الجيش في السياسة وسعي بعض قادته من " كتلة الضباط القوميين"للتحرك وإنهاء بكر صدقي ومحمد علي جواد عن طريق اغتيالهم في الحادي عشر من آب 1937، وباغتيال بكر صدقي اضطرت وزارة حكمت سليمان الى تقديم استقالتها ، فتشكلت وزارة جديدة برئاسة جميل المدفعي.
أظهر مزاحم الباجه جي اسفاً كبيراً على اغتيال بكر صدقي ومحمد علي جواد لانه كان متأثراً بشخصية الأول ويتوقع أن يقوم بدور مهم في العراق مثلما قام به مصطفى كمال لتركيا اذا ما تعاون معه السياسيون العراقيون وفسحوا له المجال في تحقيق اهدافه بالتعاون مع ( جماعة الاهالي ) التي كانت تضم شخصيات سياسية وفكرية مهمة امثال محمد حديد وعبدالقادر اسماعيل وحسين جميل وعبدالفتاح ابراهيم الذين تأثروا بالافكار الاشتراكية وطالبوا بتحسين الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية للناس في العراق ، وعبروا عن اتجاه اصلاحي شعبي .
عن: رسالة (( مزاحم الباجه جي ودوره في السياسة العراقية))