جواد سليم ونصب الحرية

Wednesday 13th of November 2019 06:55:18 PM ,

عراقيون ,

خالد خضير الصالحي
رغم إن جواد سليم كان جزءاً من عصر هيمنت فيه الأيديولوجيا بقوة على الفنون وعلى تنظيراتها، إلا انه وهو يهم بإنجاز نصب الحرية، كان يحاول أن يتخطى المحلية ذات الحلول الفجة التي كانت تظهر في نتاجات جماعة بغداد للفن الحديث، وتصّرف كفنان معني بدرجة كبيرة بالجانب البصري، رغم كل الأهداف الأيديولوجية التي يعنيها في النصب،

فقد أدرك جواد سليم إن التعارض القائم بين الأيديولوجي والبصري يجد له جانبا مختلفا في أهداف، ومن ثم في كيفية صياغة الرسالة، فبينما يصب الأيديولوجي جل اهتمامه على (سلب المتلقي أية فعالية نقدية) يهتم البصري بنقاء الرسالة وهيمنة عناصرها غير النثرية، أي أن أهداف الأيديولوجي تنحصر في (تحميل) الرسالة بأهدافه التي لا تعدو أن تكون نمطا من الوعي بالتعارض مع مصالح الآخر.

لقد كان اهتمام جواد سليم منصبا على جانبي (الشفرة) و (المتلقي)، لذلك احتوى النصب في طياته رسالة واجبة الوصول إلى متلق كان يحرص جواد سليم على إيصال الرسالة إليه، فقد كانت هنالك درجة من الرسالة النثرية باعتبار النصب (حكاية) تحكي كفاح الشعب العراقي لنيل حريته، ولكنه حرص على عدم التضحية بالخصائص البصرية للشفرة مقابل ذلك. لكن نصب الحرية، كأي اثر ثري بالدلالات، يتصف (بالتعددية النصية)، فهو غني بدلالاته، فتعددت مستويات التلقي و القراءات، لقد كان (فيه) مكان لمتلق عام، هو المتلقي عابر السبيل الذي يمر تحت لافتة النصب، كل يوم، بينما يكمن متلق متخف وهو الرقيب أو بمعنى أدق الدولة، وهي الجهة الممولة لمشروع النصب والتي كان بذهنها تصورات وأهداف تختلف بدرجة أو بأخرى عن تصورات جواد سليم، وأخيرا توجد فسحة لمتلق ثالث هو المتلقي الفعال المنتج للخطاب الواعي لدلالاته بفضل امتلاكه لأدوات منتجة للمعاني. وقد ظهرت خطابات بنَت هوامشها المتراكمة على نصب الحرية تمثلت بعشرات المقالات التي نشرت عنه طوال العقود التي مضت على انجازه، إلا أن اهمها كان ثلاثة كتب هي قراءات النقاد جبرا إبراهيم جبرا وعباس الصراف وأخيرا شاكر حسن آل سعيد، بينما كانت قراءة آل سعيد هي القراءة الوحيدة التي تتمتع بتوظيف آليات قراءة فعالة في إنتاج المعنى، وقد توجهت قراءتـَي جبرا إبراهيم جبرا وعباس الصراف إلى قارئ افتراضي هو صنو المتلقي العابر الذي يبحث عن ما يبحثه ذلك المتلقي، فغلبت عليها لغة العواطف والتجميع الوثائقي ومجمل الفهم الرسمي الأيديولوجي للنحت ولأهداف نصب الحرية، بينما اتجهت قراءة آل سعيد لتنوير المتلقي الفعال الذي يهدف طوال الوقت على تطوير آلياته في اكتشاف وخلق المعاني.
يتصف نصب الحرية بكونه مبنيا من وحدات (أجزاء منفردة)، ووحدات (أجزاء مجتمعة)، فقد قسم شاكر حسن آل سعيد النصب إلى أربع وحدات ... (وهو ما يقرره آل سعيد) تؤكد معمارية النصب، وقد تنبه العديد من الدارسين، إلى أنها تستعير بنية الختم الأسطواني بعد ان يترك بصمته على سطح الطين الطري، والبيت الشعري العربي الكلاسيكي (شطر و عجز)، لكنه برأيي اقرب إلى البيت الشعري العربي الكلاسيكي المدور و الجملة العربية التي تقرأ من اليمين والتي تشكلها أجزاء فرعية هي الكلمات التي تناظرها في النصب المنحوتات المنفردة وتجمعات الوحدات لتشكيل موضوعات مستقلة، وقد تجاوزت في هذا البيت الشعري المفترض وحدات من الشطر إلى العجز، هذا إذا اتفق القارئ معي إن وضعي لنقطة الفصل بين الشطر و العجز هي الشمس التي تتوسط النصب وتقوم مقام النقطة، أو الفارزة في النثر (= انتهاء الشطر و بداية العجز) .إلا أننا نعتقد، استنادا إلى هذه النقطة، إن مستويين ممكنين في (تقسيم) وحدات النصب: أولا ، اعتبار النقطة (= الشمس) ذروة الموجة الجيبية في ارتفاعها، حيث تبلغ دراما الحدث أقصى شحنتها عند تلك النقطة، بينما يحدث تحول درامي بعدها فيميل الفعل إلى الاستقرار، ويحدث تحول في طبيعة البناء والتصميم وكبح للخشونة الإنجازية التي عمد جواد سليم إلى انتهاجها في القسم الأول في النصب، وكذلك تبدأ المتجهات والحركة الفيزيائية بالخفوت، وتستقر الشخوص وتنعم بالهدوء، فقد بدأت مرحلة أخرى. بينما يحتم تقسيم آخر إلى اعتبار النقطة تلك نقطة وهمية تجاوزها جواد سليم عند التنفيذ، لذا فقد فسم الباحثون وحدات النصب حسب ما يحلو لهم (ويمكن العودة لهذه التقسيمات إلى كتاب شاكر حسن آل سعيد عن جواد سليم .
استخدم جواد القضبان في منحوتات عديدة منها الأمومة (معدن وخشب) و (السجين السياسي) وكانت قد ظهرت بذورها الأولى منذ لوحة (الشجرة القتيل) و (زفاف في الشارع 1957) و (نساء في الانتظار 1943)، وهي تضاف للمحور التعاقبي الذي تحدثنا عنه، فأننا يمكن أن نستشف المحورين اللذين يبنى عليهما النصب وقد كانا كرستهما منحوتة (السجين السياسي) حيث يتمثل فيهما بعدا التجريد والتجسيد بشكل مذهل من خلال الاختزال الشديد في عناصره. ويتمثل المحور العمودي ويحدد اتجاهه في النصب كما كان في منحوتة (السجين السياسي) بالقضبان والخطوط الشاقولية كالسجن في مركز النصب، وامتدادات الشخوص أو السنابل، وارتفاعات الحدث من ناحية الوجود المادي وارتفاع وانخفاض يماثل الموجة الجيـبـية، وكذلك يقابله الهبوط (المتجه نحو الأسفل) الذي تجسد في منحوتة السجين السياسي باحتمال سقوط (الكتلة الطائرة) التي ربما هي طائر ا و سنونو، وهي تعبر عن مظاهر الإخفاق والخيبة.
4. بنية الثمرة والبذرة (الضام والمضموم):
وهي تجسيد شكلي لسلسلة منحوتات الأمومة التي أنجزها جواد بعدة تنفيذات، كان بعضها يحمل تأثيرات النحت البريطاني هنري مور، وكانت تتجه حثيثا نحو الاختزال الشديد الذي وصل حد التجريد أخيرا بكتلة ضخمة بشكل هلال هي الأم وهي تحتضن كرة هي الطفل. وقد تجسدت في النصب بامرأة مكتنزة تـتكور على طفل يظهر منه وجهه فقط.
يمكن مقارنة بنية الأمومة بالشكل الحلزوني، وما ينطوي عليه من معنى التكور (= الرحم) الذي يضم البذرة ويحضن(الطفل)، وقد تكون تجسيدا لأنثوية الدائرة مقابل ذكورية المربع كما قال بذلك بعض الكتاب في مقارنتهم بين الشكلين الهندسيين.
 عن بحث (جواد سليم ونصب الحرية..عناصر الوجود الشيئي لمحيط جواد سليم)