جواد سليم بوابة الحرية وواجهتها المضيئة

Wednesday 13th of November 2019 06:48:19 PM ,

عراقيون ,

فخري كريم
كان همُّ جواد سليم، وهو يضع خطوط جداريته على الورق، أن يقدّم العراق من جديد، وقد تبدّت في عيون العراقيين مرافئ الأمل والحرية،
وانفتحت لهم آفاقٌ تعد بعالمٍ طالما راودت أحلام الفنان والكوكبة المتطلعة من مجايليه المثقفين، فنانين وكتابا وشعراء، أطباء وأكاديميين ومهندسين، ومن كل عراقيٍ هدّه التوق إلى ما كانت تردده أغاني الحالمين، والمتوارين عن الأنظار، المتسلّلين بحذر بين الجموع يعدون بمضاءاتها التي تفصل بين عالم الأسر والاستغلال، وفضاء الحرية والعدالة الاجتماعية ورحاب النماء الفكري والإبداعي.

يومها، لم يكن جواد سليم، كما مجايلوه من المبدعين، يفكرون بغير "ثيمات" الحرية والنهوض والانعتاق من كل قيدٍ، لم يكن في مخيّلته وهو يسترجع ما تراكم من اندفاعاتٍ مكلفةٍ، وتضحياتٍ وتآزرٍ وتعاهدٍ على المضي حتى انزياحِ آخر خيطٍ من ظلمات العهود السحيقة، ومن ويلاتها، سوى ترميز تاريخها وتحويلها إلى قوة دفعٍ نحو أفقٍ أكثر اتساعاً، ومساحة مضيئة اشد سطوعاً.
هل فكّر جواد سليم وهو يلملم عناصر ثيماته التي يفصل ما بينها الفراغ الملزم لتأكيد التعبير ومتانته، إن الامتدادات الخفية التي ابتدعها لشد بعضها إلى الآخر، سيعيد الزمن وهو يعصف بالعراق من جديد ترتيب القيم الفنية وترميزاتها، بحيث يضيق الجدار بما فيه، وتلتم أحجيات أشكاله على همٍ يغسله الدم المسفوح على امتداد الأجيال التي ولدت وشبت عن الطوق مع رحلة الجدار وذكرياته.
لم يفكر جواد بأن الزمن الآتي سيحمل هذا الكم من الآلام والمحن، أو انه لشدة حنينه لعالم الحلم الذي عاش معه، آثر أن يتجنب خدش ما توحي به. وهل كان سيضع فرسانه وهو يعيد خلقهم الواحد إلى جانب الآخر كما هم عليه الآن..؟
لكن الأهم من ذلك، هل كان في مخيلته الخلاقة ما يهمس له بان جداريته، ستتحول من معلمٍ إبداعيٍ وأثرٍ لمجدٍ غابرٍ يتجدد، إلى ضريحٍ للمناجاةٍ ومتكئٍ لمن طال رجاؤهم وهد من طاقة شكواهم من الجور والاستبداد والظلم. هل استشرف جواد سليم مشاهد التاريخ التالي على رحيله، وهي تمر من تحت جداريته لتسجل حقبة جديدة من الظلم والعسف وضياع المروءة والأشكال المستحدثة من الاستبداد والتنكيل. وهل رأى فيما يرى الحالم أشكاله التي صاغها في جداريته تنزل من عليائها وتمشي على الأرض، وهي تنزف دماً، وتنوح على ذكرى مواكب شهداءٍ وقتلى على الهوية، وآخرين أفاقين مروا هم أيضاً على مقربة منها، يسخرون من دلالاتها التي لم تصمد في مواجهة الجهل والضغينة والاستبداد.
نصف قرنٍ من ذكرى خلقٍ إبداعي، وخمسة أجيالٍ من الحسرة على حلمٍ مؤجلٍ، يتجدد مع الألم واللوعة.
نصف قرن منذ انبعاث الأمل في صورة جدارية فنان مأسورٍ بحلم عالمٍ من الحرية والفن والعدالة، ونصف قرن يتناوب فيه الخلق والموت، كما تمثل في اللحظة الفارقة بين اكتمال عناصر الجدارية والإغفاءة الأبدية لخالقها.. جواد سليم.
نم قرير العين ممجداً جواد سليم، فقد أمسيت أنت رمزاً للحرية مشفوعاً بالثناء على ما أبدعت من رمز.
الجدار، بات مرفأً للعاطلين الذين يحلمون، ومساحةً مفتوحة على المستقبل للشباب الذين يرون في جداريتك، قوة إشراقٍ وعزمٍ وتحدٍ.
جواد سليم نحن هنا، لنعيد ما أردت له أن ينبعث..، فالحرية تستكشف أبعاداً أخرى لها تختزل معاناة نصف قرنٍ، تحتاج منا رفدها بعنفوان الشباب وعزيمتهم ومضائهم، فالقتلة واللصوص ومروجو الأوهام ما زالوا يتربّصون بنا، ويتفننون باغتيال أحلامنا.
نم قرير العين جواد، فإننا جديرون بالاستظلال بأحلام أبطال جداريتك، ومتشبثون بأحلامنا، كما كنت أنت وكل الأجيال التي سبقتك وأعقبتك، ويستحيل أن يتبدد هذا الحلم.
نحن هنا باسمك نعيد افتتاح عالمك الحالم على مساحة كل فضاءات وطننا، ومعك نستذكر كل الذين ضحوا وتخلدوا.
ونستميحك العذر أن نستعيد معك، ذكرى هادي المهدي، احد محبيك، إذ يعود الفضل إليه في انتباهتنا التي نحيي بها ذكراك، ومشهد الحرية المستباح.
 هذا المقال نشر افتتاحية لجريدة المدى في 28/10/2012