كوهن تدون نفسها شريكةً في ايام منظر الوجودية..الضمير سارتر في سيرته الكبرى

Thursday 10th of October 2019 09:24:43 AM ,

منارات ,

علي عبدالسادة

آني كوهن – او (آندي) كما يرد اسمها في بعض لوائح معارض الكتب في العالم – تعاين اثر سارتر عبر ضوء يتيح لنا، جميعا، التعرف على جان بول سارتر. لكنها سيرة مختفة تماما.. تخيل ان تكتب سيرة عن سارتر فيها الكثير من وجهات نظرك، وان تجعل نفسك شريكا، صحبة نظرة العالم، في تدوين المفكر الفرنسي.

ولا يستطيع المرء حين تعلق الامر بمراجعة الاثر السارتري ان يغفل التندر المبذول عن الرجل وهو اقتباس عن صحيفة فرنسية قالت يوم وفاته: "مات ضمير فرنسا" وتم سوق هذا الاقتباس لاحقا على انه ضمير للانسانية.

ولهذه الطريقة التي اتبعتها استاذة الادب ومستشارة الثقافة في سفارة فرنسا اني كوهن، اسباب تتعلق بسعة الضوء المسلط على حياة سارتر ما يسمح بعدها اكبر واهم سيرة حديثة عن المفكر الفرنسي الراحل.

المترجم جورج كتورة اثنى في مقدمته على الكتاب وعده انجازا فريدا ان تحيط مفكرا وجوديا رائدا مثل سارتر في كتاب. بيد ان هذه السيرة تتيح لنا فهم جان، وكيف تنوع، متميزا، بين الفلسفة والرواية والقصة والمسرح والسينما والنقد والصحافة.

التميز في عمل آني هو ملامستها للكثير مواطن الجدل المثارة حول سارتر، لذا تشعر باللغة التي كتبت بها السيرة بانها تسعى، جاهدة، من اجل غلق الثغرات وملْ فجوات في حياته.

لذا تستغرب اني من كون سارتر منبوذا في فرنسا! بينما هو مرجع فكري خارجها.

لكنها تبرهن اهمية دور سارتر المؤثر في مناحي الفلسلفة والادب والفن.

آنى ترى ان طروحات سارتر الفلسفية تجعل من الحرية جوهر الإنسان، وباعتبار أن الوجود سابق للماهية فإن الإنسان لديه القدرة على تشكيل هويته كما يشاء وهنا تتحقق أعلى مستويات الحرية.

بث سارتر هذا الأفكار في كتبه الفلسفية وفي مسرحياته ورواياته وقصصه وأعماله السينمائية والنقدية ومقالاته الصحفية. وسافر في بدايات القرن العشرين إلى ألمانيا وتعرف هناك على فلسفتي هوسرل وهايدجر. غير انه عاد لفرنسا ليؤسس فيها مذهبه الوجودي الذي انتشر انتشارا هائلا في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية حتى أصبح موضة الشباب والشابات الفرنسيين.

لكن سارتر من ناحية اخرى، كما يوضح مفتتح كتاب آني صاحب مفهوم المثقف الملتزم والذي أصبح شعارا له خصوصا في الفترة الأخيرة من حياته. ولم يكن له نشاط سياسي مهم في الثلاثينات. وفي منتصف الأربعينات حدث تحول في موقف سارتر من الواقع حيث انتقل من دور المنظر المراقب إلى دور المشارك المباشر. تحالف مع الشيوعيين وشارك شخصيا في مظاهرات 1968وسافر إلى الكثير من الدول والتقى بأبرز الفاعلين السياسيين. هذا الدور تردد صداه في الساحة العربية حين كان يطرح سؤال عن دور المثقف. السؤال الذي كان يطرح نفسه بقوة على المفكرين:"هل دور المثقف يتحدد في حدود التفكير والتأليف والطرح النظري أم أنه مطلوب منه أن يطبق أفكاره على أرض الواقع بمعنى أن يشارك في الحراك العملي ويباشر الاهتمام بالقضايا المعاصرة التي يعيش وسطها".

ترى آني ان الإجابات مختلفة ومتباينة لكن إجابة سارتر هنا واضحة. فالمثقف الملتزم هو المثقف الذي يتخذ مواقف واضحة من القضايا المعاصرة وعليه أن يشارك فيها ويلتزم بتبعات هذه المشاركة. لا يجب أن تكون هذه المواقف ثابتة وجامدة ولكن يجب أن يشعر المثقف بمسؤوليته تجاه الواقع من حوله. مبرر هذه الوجهة السارترية هو انه كان يعيش في عصر وهج الأيديولوجيات اليسارية والتي طالبت الكل بالمشاركة في (النضال والثورة).

كتاب أنى يحتوي على خمسة عشر فصلا قصيرا تؤكد على أن سارتر لا يزال موضوعا مثيرا في أكثر من مكان اليوم خصوصا خارج فرنسا التي يبدو أنها تشهد عزوفا عن سارتر هذه الأيام.

وتزعم آني ان ما يحدث في فرنسا قد يكون ردة فعل لا تزال مستمرة تجاه سارتر الذي وقف في أكثر من قضية ضد ما يفهم بأنه المصالح الفرنسية وضد الثقافة الفرنسية. فقد كان أفقا عالميا إنسانيا ولم يكن يتورع عن نقد فرنسا والثقافة الفرنسية ويقف في وجه رغباتها. وتسوق المؤلفة وجهتها هذه برسم ما تقول انه دور يليق بالفيلسوف حيث تكون الحقيقة هي الغاية والمقصد بغض النظر عن أي انتماءات.

بعد مقدمات عن المشروع السارتري تعود المؤلفة إلى طفولة سارتر وعلاقته بالكتابة، الطفل الذي أشرف عليه جد فائق البلاغة. وهنا يقول سارتر في "قام جدي بقذفي في الأدب من خلال العناية التي اتبعها في تخليصي من ذلك! لدرجة أنه قد يحصل لي حتى الآن، أن أتساءل حين يكون مزاجي سيئا، إن لم أكن قد أمضيت العديد من الأيام والليالي مغطى بالعديد من قصاصات الورق مملوءة بحبري طارحا العديد من الكتب التي لا يتمناها أي شخص، بهدف وحيد وأمل مجنون هو إرضاء جدي".

لذا فان آني ترى ان الكتابة اصبحت بعد ذلك تحقيقاً لكينونة سارتر، الكاتب المكثر في الكثير من المجالات والذي طرح أيضا سؤالاً عن جدوى ومعنى الكتابة، نتذكر هنا كتابه "ما الأدب" الذي يطرح فيه سؤالا عن قيمة ومعنى الأدب والكتابة بشكل عام.

الكتاب لم يغفل المناخ الاجتماعي لسارتر والعائلة التي انتمى اليها، وتقول أنى:"سارتر كاتب مكشوف بمعنى أنه كاتب لا يخفي شيئا وكل ما يتعلق بحياته منشور ومعلن".

لا تكتفي آنى بولوج زوايا ضيقة في حياة في سارتر، بل راحت تفتش طويلا عن شهادات اخرى تشكل وتكون لديها الرؤية العميقة عن المفكر الفرنسي. فنالت من أرشيف المدارس والمعاهد التي درس بها شهادات وآراء زملاء سارتر فيه. فضلا عن مراسلات عائلية مهمة جدا.

ويبدو ان هذا التسجيل المثير مثيرا للاهتمام خصوصا وانه يوثق، من الناحية الاخرى، فترة مفتتح القرن العشرين التي شهدت احداثا سياسية وتحولات عالمية غيرت وجه العالم.

انى تستنبط ببراعة من خلال هذا الارشيف اوصافا دقيقة عن سارتر:"في هذا التوصيف لسارتر ابن العشرين، وفي حالته كوريث يريد الهدم، نجد متمردا متعجرفا تجاه كل شكل من أشكال السلطة التي تطالعنا، فهو المعارض للجنرال شارل ديغول في سنوات 1950، والمعارض للولايات المتحدة الأمريكية في سنوات 1960، والحامي للجماعات الماويّة في سنوات 1970".

اكتشاف سارتر للهوامش والثقافات المختلفة، يأتي بعد مرحلة تعرفه على هايدغر الذي يقول له في رسالة "لأول مرة أصادف مفكرا مستقلا، دخل إلى عمق مجال التجربة التي أفكر انطلاقا منها، يظهر كتابك فهما مباشرا لفلسفتي، الأمر الذي لم أصادفه حتى الآن".

وهنا تقول انى :"بدأت فلسفة سارتر فلسفة ذاتية، فلسفة الإنسان الوحيد، ثم تحولت بعد ذلك إلى فلسفة الإنسان الملتزم". وهو الامر الذي تعلله انى بانه كان على سارتر ان يخوض تجربة العمل الصحفي في الولايات المتحدة الأمريكية:"حتى يتقوى سارتر في حمام الواقع وليسحب من فقاعته، إدراكا جديدا للسياسة، ولموقعه في السياسة، لقد عدّل منظوره بشكل جذري، ووسع من مجال تدخله، مضيفا حبلا جديدا إلى قوسه، مطورا ممارسته، مكتشفا الوظيفة الجدالية مع مشروع ثقافي كياني، في ما سيشكل على الدوام أحد الثوابت الكبرى في فكره حتى ساعة موته".

الحالة التي واجهها فكر سارتر في فرنسا فشكوك سارتر المنظمة قد جعلت منه شخصية يصعب تصنيفها في المقولات الفرنسية التقليدية، مع أنه يحتفظ بوضع هامشي في مجتمع تبقى فيه الأولوية للمؤسسات الصلبة والدائمة وللمشروعية المؤسساتية. كما أن نصوصه العنيفة تجاه أسرته وتجاه جده شفايتزر هي نصوص تحمل على الغيظ...".

وهنا يصح لنا القول ان فيلسوفا واديبا وناقدا فذا مثل سارتر وفي ضوء هذه السيرة المنطوية على كثير من التناقضات لابد وانها تتعلق برجل غزير التناقضات؛ الالتزام والتمرد والمزاجية والعدوانية والتفلسف، لكنه في النهاية يستحق التأمل كونه شخصية تحمل معنى عميقا لوجودها من خلال تفاعلها مع هذه الحياة.

ان سارتر وبالنسبة لمعجبيه, فإن ما تركه ربما يكون اكثر اهمية منه او من سيرته، وهو ما يستحق عناية التفحص والدراسة والنقاش. فصورة الرجل لم تثبت بعد, ولهذا تقول المؤلفة انها تفضل النظر اليه باعتباره "نموذجا مثاليا, طريقة لإنجاز الامور, اكثر من مبدأ او مجموعة اعمال، لذلك فان الكتاب يفترض هذه الطريقة لبقاء سارتر كـ"مؤشر اخلاقي".