من ذكريات الانتفاضات الوطنية..ايام تظاهرات 1952 واعتقالي

Monday 7th of October 2019 08:45:13 PM ,

ذاكرة عراقية ,

بلقيس شرارة
شاركت في يوم 22 تشرين1952 لأول مرة بالتظاهرة التي خرجت من كلية الآداب، يتقدمها عدد من الطالبات، و لكن لم نصل حي «الفضل» حتى رشقنا بالغازات المسيلة للدموع و لعلع الرصاص في الفضاء، رصاص طائش موجه نحو المتظاهرين، أزيز الرصاص يصم آذاني، انجلت و تفرقت التظاهرة في الأزقة، لتعود فتتجمع ثانية و تعود إلى الشارع قوة متماسكة.

كنا فريقين، الشرطة الذين يصرون على موقفهم بالرصاص و نحن نصر على موقفنا الاحتجاجي برفع أصواتنا المنددة بفصل الطلاب و إرجاعهم للكلية. لم تقتصر التظاهرات على طلبة الجامعات و إنما امتدت و انتشرت و شملت العمال و أصحاب المهن. سرنا بضعة مئات الأمتار، حتى انطلق الرصاص ثانية، من سيارات الشرطة، سقط الجرحى و القتلى، و سالت الدماء، و وجدت نفسي في أحد الأزقة الضيقة.
عدت ذلك اليوم إلى دارنا، لا أدري كيف أختبئ من جيش المخبرين، فانتشرت أخبار التظاهرة، وعرفت بسرعة أسماء الطالبات الجامعيات المشاركات في التظاهرة، كاللافتات و الأعلام المرفوعة فيها. انتشر خبر اشتراكي بالتظاهرة، و حددت الشرطة حتى لون ملابسي و الشريط الذي كنت أرفع شعري به!! كنت أعلم أن الشرطة ستداهم الدار للقبض عليّ و على والدي. أما حياة فقد سافرت لحضور مؤتمر السلام في فينا، و نجت بذلك من إلقاء القبض عليها. اضطررت أنا و والدي إلى ترك الدار و الاختفاء عن أنظار المخبرين.
تركتُ الدار و أقمت في دار ناجي جواد الساعاتي. استحوذ القلق على تقاسيم وجه والدتي عندما زارتني خلال الأسبوع الأول في دار ناجي جواد، و طلبت مني آلا أعود إلى الدار، لأن الدار مراقبة من قبل رجال الأمن السريين. فقد أعلنت الأحكام العرفية و جرت حملة واسعة في اعتقال الناس، لم تقتصر على الطلبة و إنما شملت حتى الأحزاب العلنية التي أيدت الانتفاضة. و القي القبض على والدي بعد شهر، عندما عاد من النجف إلى بغداد، و صدر الحكم عليه بالسجن لمدة عام في سجن بغداد، لكتابته المقالات المعادية للحكومة.
مرً ما يقارب الشهرين، قبل أن أستطيع العودة إلى دار والدي، و أصدر عميد الكلية عبد العزيز الدوري الفصل بحق جميع الطلبة الذين شاركوا في التظاهرات، و شملني الفصل من الكلية لمدة عام، و بذلك خسرتُ سنة دراسية كاملة، و كان أستاذي دزمند ستيوارت Desmond Stewart من المعارضين لقرار فصلي و لم يستطع أن يهضم فكرة العقوبات القاسية بحق طلبته، و هو حق طبيعي يمارسه الطلبة في جامعات انكلترا. كما صدرت مدد متفاوتة بحق الطلبة اليساريين و الشيوعيين. و منهم من صدرت عليهم أحكام بالسجن.
عدت إلى الدار بعد شهرين تقريباً، و كان وضع العائلة الاقتصادي و النفسي في غاية السوء. و قد صدر الحكم على والدي بالسجن حتى وجدت عملا ككاتبة طابعة في المصرف الصناعي خلال العطلة الصيفية.
خرجت ذات يوم كعادتي من باب المصرف الصناعي في شارع الرشيد، و إذا برجال الأمن يطوقونني و يقذفوني بسيارة، متجهين بي نحو مديرية الأمن. شاهدتني في الطريق إحدى زميلاتي سها ثنيان، و أدركتْ أنني معتقلة إذ كنت جالسة بين شرطيين من الأمن، فاتصلتْ بأهلي و أخبرتهم باعتقالي.
كان الجو حاراً في نهاية شهر آب، فعلت الحمرة وجهي، و بان عليّ الانفعال و القلق عندما ألقي القبض عليّ. وصلنا في الثانية بعد الظهر مديرية التحقيقات الجنائية. المديرية التي أصبحت رمزاً للظلم و التعسف و التعذيب في ذاكرة شريحة من الشعب العراقي. فالتصق الرعب و الفزع بكل من دخل بوابتها. توجه أحد الشخصين اللذين كنت جالسة بينهما في السيارة، نحو غرفة المدير قائلاً له: «سيدي جبناها/ اتينا بها»!
دخلتُ غرفة شبه مظلمة تقريباً، تطل نوافذها المغطاة «بالعاقول/الشوك البري» على نهر دجلة. جو الغرفة رطب بارد، قطرات الماء تتلوى بين شوك العاقول، فينقلب الهواء الجاف الساخن في الغرفة إلى برودة لذيذة. كان بهجت العطية، مدير التحقيقات الجنائية، جالس أمام منضدة كبيرة، رجل بدين، في منتصف الخمسين من العمر. رفع رأسه عندما أطلت عليه فتاة لم يكن يتوقعها بهذا الشكل! حدق بها من خلال نظارته السميكة، ثم رفعها عن عينيه، و مسحها ببطيء و وضعها ثانية!
أحسست بالمفاجأة التي ارتسمت على وجهه ذا السحنة السمراء، فلم تتطابق الصورة التي رست في مخيلته من خلال التقارير التي كان يكتبها له أعوانه عني! فأمامه فتاة تهيمن على قسمات وجهها براءة الطفولة، بملابسها البسيطة، و حذائها الواطئ و شعرها الأسود القصير، الذي اختزل بضعة أعوام من عمرها!
سألني سؤال يشوبه الاستغراب و الشك، هل أنت بلقيس؟ أجبت نعم. ثم قال بحدة أقرب منها إلى التأنيب: «شعايزج! ما تكولي لي! بنية مِثْلج كاملة بكل شي، شجابيج على السياسة! لكن هذا أبوك محمد شرارة إللي دخلج بهل الشغل! يعني: ما الذي يعوزك أو تفتقدين إليه؟ قولي لي! فتاة مثلك كاملة في كل شيء، ما الذي دفعك للإنخراط في السياسة! لكن والدك محمد شرارة، هو المسؤول الذي قادك في اتخاذ هذا النهج.» نظرت إليه و لم أجبه بل التزمت الصمت. ثم أردف قائلا: « حققوا وياها، بس لا تخلوها تبات»! يعني آلا أقضي الليل في مديرية الأمن.
دخلتُ غرفة فارغة من الأثاث، إلا من طاولة صغيرة و كرسيين. جلست على أحداها، و انتابني مزيج من الأحاسيس التي لم أعرفها من قبل، تطلعت إلى الغرفة التي تضم بين جدرانها الصامتة ألف قصة و قصة! تقاذفت الأسئلة الحائرة رأسي، ترتطم ببعضها، حاولت أن أبعدها عني و أدفعها في خندق الذاكرة. طفت كلمات والدي على شفتي، الإجابة بصلابة و الابتعاد عن التردد الذي يقود إلى الانهيار النفسي، و تراءى موقفه الصلب في السجن أمامي.
عشت تلك اللحظات أخلع الأسئلة و أجوبتها في ذهني كأنني أخلع تهمة على عجل. ثم غابت الكلمات في لحظات الارتباك و عادت كالبرق، تقفز و تتجول بحريتها في أعماقي. حاولت أن أجمع كل ما تعلمته من تجارب الحياة في تلك اللحظات الحرجة، فبدأت أكتب الأجوبة العالقة في ذهني، أسطرها واحدة بعد واحدة على لوح الذاكرة، لأعود ثانية و أمسحها، أعيد كتابتها و أصححها، حتى عثرت على الأجوبة الصحيحة، فتمسكت بها أمام محقق الأمن، الذي دخل الغرفة بعد أكثر من نصف ساعة، واصلت إعادة و تكرار الأجوبة، بأسلوب آخر يناسب سؤاله!
كان المحقق في البداية يستمع بهدوء، لم تمر فترة وجيزة حتى علا صوته بالوعيد و التهديد إن التزمت التهرب من الإجابة عن الأسئلة و إنكارها؟ قلت: انكار ماذا؟ فقد تركز التحقيق حول علاقتي بالحزب الشيوعي و منظمة الرابطة النسائية و اتحاد الطلبة؟ كانت أجوبتي مقتضبة، و أعدت الأجوبة نفسها : لم أنتمي للحزب الشيوعي و لا علاقة لي بالرابطة منذ أكثر من عامين، و لكني أتعاطف مع الطلبة و إعادة المفصولين منهم. لم تشبع أجوبتي غليل محقق الأمن فظل متعطشاً إلى الحصول على ما يسمى « بالاعترافات»! و لم يمل المحقق أو يتعب، بل استمرت الأسئلة بالتدفق، من دون أن تصل إلى مصبها! انتعشت الأجوبة العنيدة في رأسي كلما طال التحقيق معي! حتى يأس المحقق عندما وجد أنه لم يصل إلى نتيجة بعد ما يقارب الساعتين من التحقيق المتواصل. فأطلق سراحي قبل غروب الشمس، و نجوت بذلك من قضاء الليلة في مديرية التحقيقات الجنائية، كما طلب بهجت العطية منهم! و الحقيقة كان موقف بهجت العطية موقفاً مشرفاً، إذ لم يأتمن رجال الأمن الذين يعملون في دائرته في أن اقضي ليلة بصحبتهم.

من كتاب ( هكذا مرت الايام ) دار المدى