ذاكرة المعلم سامي عبد الحميد

Wednesday 2nd of October 2019 06:51:26 PM ,

عراقيون ,

عزيز خيون
عراقي الروح، حضور مفرح، طيبة متناهية، حيوية منجزة، وانغمار كلي في فضاءات المسرح، دراسة وتدريباً ، تمثيلاً واخراجاً، كتابة وترجمة، وحضوراً بهياً فاعلاً في المهرجانات واللقاءات المحلية والعربية، واشرافاً جدياً على اطاريج طلبة الدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة ، ورأياً لا يستغنى عن تصويباته الدافعة في اي ندوة او لجنة فنية، ومغامرة دائمة لأصطياد الحديث في الظاهرة المسرحية ، شجرة عملاقة في بستان المسرح العراقي والعربي …

انه الرائد المسرحي استاذ الاجيال ، شيخ المخرجين والمجربين العراقيين ، الفنان الكبير، المعلم الكبير سامي عبد الحميد .
شرفني برؤيته في المرة الاولى مشاهداً في واحدة من ابداعاته التمثيلية، فجذبني اداؤه، وبهرني سحر حضوره الطاغي … ومن ثم تلميذا على يديه الكريمتين، يفتح مغاليق صندوقنا الصوتي ، وينظم انهمار نعمة الكلم على شفاهنا المرتبكة، لم يرهبنا بسطوة استاذيته، او يشعرنا بثقل برنامجه التعليمي، بل كان صديقاً اليفاً في حلقتنا وعطوفاً، يحيل زمن المحاضرة الى فضاء للعب والمتعة، ولكن شرط الفائدة والمعرفة، حتى كنا ننتظر موعد درسه بلهفة المشتاق، ونتمنى لساعاته ان تقيم .
وثالثة يختارني الحظ ان اكون ممثلاً في عمل مسرحي من اخراجه ، واكتشف فيه شخصية اخرى، الفنان المثقف، والعالم الجليل، وتواضع المفكر، يقود التجارب اليومية بدون استعراض وضجيج، وانما بهدوء وحكمة ، وانفتاح كامل للعقل والروح على اية ملاحظة واردة ، ومن اي عضو في الفريق العامل، مهما كانت تجربته العمرية ومكانته الفنية ، يسمعها ، يتاًملها ، يحاورها ، ويجرب صحتها في ارض التجربة، لكنه ينقلب كائناً اخر لايشبهه بالمرة، يهدر انفعالاً واحتجاجاً حين يبتعد قانون التجربة اليومية عن مسارات عُرْف المسرح وقوانينه الثابتة..
ورابعة ممثلاً معه في تجربة مسرحية من اخراج الراحل الكبير (( ابراهيم جلال )) ، واقرأ في سِفر تجربته الغنية عنواناً جديداً في التزام الممثل، في تصوفه وانضباطه بأخلاقيات ولزوميات المسرح، في احترام شخصية الممثل الفنان في الحاحه ، يسأل الاخرين رأيهم بتوصلاته واجراءاته ، وفي محاولاته المضنية للاقتراب من شخصية الدور بشكل يخاصم النمطية ، ويفر صوب تجليات الابداع .
وخامسة تكافئني نجمة الصدفة ، واتشرف ان يكون الكبير سامي عبد الحميد ممثلا عندي في تجربة مسرحية، اتصدى لاخراجها – اعود للحديث عنها بعد قليل – وفي جميع هذه المحطات، كان المعلم ، هو ذلك الانسان الرقيق المتواضع، والطفل الكبير، المتشبث بكل التقاليد التي ارسى داعائمها الصلبة سدنةُ المسرح الكبار، بل ويزيد عليها من فضل حرصه وطيبته وايمانه وحركته الكثير … فيه روح (( ساكس مننجن )) وتلقائية (( اندريه انطوان )) ودكتاتوية وابتكارية (( ادولف ابيا )) وجنون (( ارتو )) وفنية وحلم (( كوردن كريج )) وسحر (( ديفيد بلاسكو )) واخلاقية ومنهجية (( ستانسلافسكي )) واسلبة وشرطية (( ميرخولد )) وثورية (( ماكس راينهارت )) وتعليمية واستفزازية (( بسكاتور)) وملحمية (( بريشت)) واحلام مسرح الطليعة، فيه خصوصية سامي عبد الحميد المسرحية ، وعبق عراقيته ، ثقافته، بحثه واستمرارية تحديه الشاب ابداً …
عجلة تدور على الدوام، لايقتنع بما يكتشف، ولاتأتيه السعادة بالذي بين يديه ، لايثبت على حال واحدة، هي تميمة تميزه مخرجاً عن اقرانه ومجا يليه، مغامر يرمي بنفسه في لجة بحر التجارب وكأن (( النفّري )) يصرخ به (( … ان في المغامرة شيئاً من النجاة )) لاترهبه العواقب ابداً، انما الذي يشغل فكره ويستحوذ عليه، هو ما يفوز به من شعور هائل باللذة والراحة، وتجدد الطاقة، وهو يجوس بعصا المعرفة فضاءً بكراً ، تلك هي سعادته الكبرى، وكاني أسمعه يهتف بطلبته ومريديه ((النتائج تأتي لاحقاً ))، لذلك ترى التنوع والتجوال في ارض المناهج وفضاءات العرض ميزة واضحة في اطياف تجربته المسرحية، والانتقال من لون الى اخر يعاكسه ويشاكسه، فمرة نراه عالمياً او عربياً، واخرى عراقياً، معاصراً ، او راحلاً جهة التراث، وتارة تصادفه واقعياً صرفاً ، واخرى يفاجئك طليعياً وتجريبياً ، يشد عرش معمارية المسرح، ويهز ثباته واستقراره، يقدم تجاربه بين احضان الجمهور، او في مطعم ، وحتى في بيت عراقي قديم…
هو منقب مسرحي ، تؤرقه مسؤوليته الوطنية والثقافية ، يحركه وعيه وثقافته الشاملة ، وتقوده سحرة اللاقناعة والاطمئنان …. يكون الجواب نعم. هو مرتبك، ملتهب، تتقاذفه مردة الخيارات وسَعلاة القلق، وتنهك دماغه الكريم اسئلة كونية محيرة ؟ والاجابة ايضاً نعم … وذات الخصلة تمارس فعلها عليه ممثلاً، حين اندماجه بهذه التجربة أو تلك، مع هذا المخرج أو ذاك الشاب.
وتنفتح عين السؤال على سعتها ، حين يرتضي العمل ممثلاً مع من يختلف معه في الرؤى والتصورات والتوجه، ولايشاطره الاختيار والمنهج …
هكذا هو سامي عبد الحميد ، وكانه يريد ان يظل طفلاً يمارس براءته ولعبته وبساطته، يمارس تعلمه وتعليمه ، دون القبول بسلطان الرضا ، شارة الاستاذية ، بريق النجومية ، وإغراءات التسيد، بديلاً عن كنوزه التي يدرك هو قيمتها، ويقدرها الاخرون حق التقدير، هو يرفض صولجان الاحتراف، وقبعة الادعاء، ويرحب بسجادة الهواية .
لم يؤكد يقيني هذا فقط اقترابي منه متابعاً وتلميذاً وممثلاً، وانما تشريفه لي ان اقوده مخرجاً في واحدة من تجاربي المسرحية ، التي تحمل عنوان (( ابحر في العينين)) لصالح اتحاد المسرحيين العرب، مركزه بغداد انذاك، التي رافقتني فيها د. عواطف نعيم كاتبة للنص و ممثلة، والفنان (( صفوت الغشم )) من اليمن مع د. رياض شهيد من العراق. في هذه التجربة علمني د. سامي عبد الحميد الممثل، علمني الكثير، وفاجأني بالاكثر … في تواضعه الجم، وهو يستقبل ملاحظاتي وطروحاتي، برغم انشغالاته التي اعرف واقدر ، وهي عديدة ومتشعبة، ولا تفوته محاولة ان يزخرف سلوكه الرائع هذا بفرحه وثنائه على ما اتوصل وانجز، على مانتوصل وننجز .
وغالباً مايميتني خجلاً، عندما يبكر ويسبقني بالحضور، في صبره على طلباتي الكثيرة وصعوبتها، واصطباره على حدة وقسوة المناخ التموزي في القاعة التي شهدت تجاربنا اليومية ، قاعة تدريب في الطابق الخامس من مبنى دائرة السينما والمسرح ، الكائن في منطقة الصالحية ، مقابل فندق المنصور ميليا ، كانت هذه القاعة مخزنا للازياء، وفي وضعها الحالي ينعدم فيها اي مصدر للتكييف ، بحيث تصبح كالمقلاة الكبيرة، تمتص مصل طاقاتنا، وتشوي اجسادنا دون شفقة او رحمة ، لكنا نصر ونعاند ، نستحم بعرق التدريب، نجفف قمصاننا ونعاود التجربة، برغبة اشد، وطاقة اعلى ، ونمضي في طريق مخاطرتنا الشائك، مرة يظللنا الصحو والهدوء، ومرة اخرى تلبد الغيوم، عربدة الريح، واصطفاق بوابات الرعد والبرق، وحرائق الزلازل ، حتى انه هجم علي في احد المرات يصرخ (( .. بابا اني عمري 68 سنة، وانت تريد مني اشتغل بطاقة شباب، انت تعرف شنو معنى 68 سنة )) ابتسم، واجيبه بحماس يضاهي حدة غضبه ((اني مامسؤول كمخرج اطلب منك ان تنجز هذا الجزء من الديالوج كما اتصوره أنا وبنفس الدرجة من الانفعال والحيوية والا يصبح لا معنى له، أنت تعمل معي الان الشاب سامي عبد الحميد وليس الشيخ سامي عبد الحميد)) …. يحدق في وجهي وهو يلهث متعجبا مما يسمع، يبتسم، يلوح بيده في الهواء، يتحرك، يتوقف، يدور في المكان، المقلاة، الفرن، ثم نواصل التدريب، وينفذ الواجب المطلوب بطريقة تعجز عنها قوة الشباب .. أصفق طويلا .. طويلا له.
تكتفي التجربة بالزمن الذي خصص لها ، نستقبل دعوة لتقديمها في مهرجان المسرح الاردني، تفوز بالحياة على فضاء المسرح الدائري في المركز الثقافي الملكي وتحقق نجاحا متميزا ويستقبلها الجمهور باحتفاء كبير، يعتلي خشبة المسرح .. ثناء .. عناق .. اطراء .. وابتسامة فرح وانتشاء تزينّ وجه د. سامي عبد الحميد، أحدهم يسأل مداعباّ (( تريد أن تقتل الرجل؟ )) وأخر يحتضنني مهنئاّ يقول: ((في هذه الليلة لم نر سامي عبد الحميد ابن السنوات التي تقترب من السبعين، انما لمسنا فيه روح الشباب وهي تبدع على المسرح حياة تتجاوز التوقع)).
وعلى جناح حلمنا العنيد، نحلق صوب مهرجان البحر الابيض المتوسط في مدينة ( كونفر سانو) جنوب ايطاليا، تلبية لدعوة موجهة لنا من المهرجان المذكور … هناك أطبقت على د. سامي عبد الحميد مشاعر متضاربة، هي مزيج من الخوف والتردد والقلق، من التحسب المضاعف، والانفعال المفاجيء، وحتى دون سبب أو مبرر يقنع المراقب، لكني وحدي أدرك الدافع المفجّر لهذه العواطف، منها الشعور العالي بالمسؤولية وهو يلتقي جمهورا غريبا، يقف بينه وبينهم حاجز اللغة، كذلك كانت جميع تدريباتنا تجري استعدادا للعرض على مسرح تقليدي (( مسرح العلبة الايطالية)) كما حصل في عمان، أما الان فان العرض سيكون وسط كنيسة قديمة تعود كما أعتقد للقرن الثامن عش، وأنا اخترت شكل العرض بعيدا عن مسرح العلبة الايطالية الذي تدرب واستعد له د. سامي عبد الحميد، وانما ضمن تقنية المسرح الدائرة، اي ان الجمهور يحيط بالعرض من جميع جوانبه، وهذا يتطلب منا تدريباً جديداً من الصعب توفيره بالعجالة التي نحن فيها، وجهداً اضافياً من الممثل د. سامي عبد الحميد تحديدا،ً الذي عليه يقع ثقل العمل بالكامل، يجب عليه وعلى صفوت الغشم وعواطف نعيم ان يتوجهوا في الاداء تنفيذاً للميزانسين الذي وضعته بحيث يرضي الجمهور في جهاته الاربعة التي تحيط بمكان العرض، من جانبي كمخرج احتاج فقط من ساعتين الى ثلاثة، هي فترة الوقت اللازم للتدريب، لاجعل د. سامي وبقية الفريق يتمكنون من السيطرة على وحدات المكان الجديدة ويألفونها، ولكي اطمئن د. سامي بالحلول السريعة التي توصلت اليها ، لكن حرارة المناخ، والمكان الجديد، وشكل الواجب الذي ينبغي ان ينفذ بالضبط، وتأزم د. سامي حال دون انجاز هذا الاجراء الضرورة، مما حدى بي أن أطلب منه والسيدة عواطف والاخ صفوت الغشم، العودة للمكان الذي نقيم فيه كسباً للراحة، وان يلتحقوا بي قبل العرض بساعة واحدة لاجري اللازم .
يتبخر الوقت سريعاً نجري تدريباً خاطفاً على الربع الاول من العرض بشكل فعلي، اما بقية الاجزاء، فتوجيها بالكلام فقط والاعتماد على ماتم انجازه سابقاً، هذا ماسمحت لي به فسحة الوقت المتاح، والجمهور الذي داهمني فجأة، والذي صار يتصرف بالمكان كما يشتهي ويرغب، المكان الذي كنا قبل قليل نحن اسياده الفعليون ..
لا ادري باي الكلمات تمتمتُ بوجه د. سامي، اخفف من سورات قلقه، واغادره لانجز واجبات اخر … تحين دون قصد مني بين اللحظة والاخرى، التفاتات مرتبكة جهة الزاوية التي كان يعنف محيطها بتلويحات يديه، ويهرس ارضيتها بغضب قدميه .. بلغة البرق اختم توجيهاتي الاخيرة، على الاضاءة، فضاء العرض وجلسة الجمهور، اعود اليه سريعا لكن ((عواطف)) و ((صفوت الغشم)) ينصحاني بعدم التحدث اليه، وان نمنع اي احد الاقتراب من حضرته .. اشعر به مرجل يفور، سيكارة تؤشر لسيكارة، يروح ويجي، وكانه يهاتف بخطواته كل الارواح التي تسكن رواق الكنيسة، يستدعيها، يطلب عونها، يتشبث باطار النافذة، هو الان يستنجد بقوى غيبية، واصدقاء مجهولين، اهو نوع من الصلاة خاص، ما يتوسل ويفعل ؟!
العرض يحين وقته، أُقبل (( عواطف )) وكذلك (( صفوت )) اركض باتجاه د. سامي، احتتضنه واشد عليه، ولا ادري بأي الكلمات المفيدة نطقت …
لحظة الامتحان الان تبدأ، ذي فواصل العرض تسلم بعضها للبعض، بضبط وتأثير يكشف د. سامي عن طاقة ادائية هائلة، طاقة ضُغطت وضُغطعت، لم تقتنع بحيزها فأنفجرت بشكل مدهش، ادى بصورة كما لم يؤد مثلها من قبل، حيوية مفاجئة، وخفة شابه، حضور طاغ، تصوير مبدع، جسد وصوت يهدر في المكان والزمان …
الان النهاية تعلن ضربتها، يندفع الجمهور، يهتف بعاصفة من التصفيق، الفنان الايطالي (( جينو لاكابوتو)) مدير المهرجان، يهجم على د. سامي عبد الحميد، يهبط على قدميه، ثم ينهض ويقبله من رأسه، وسط مشاعر الفرح، التي بالدموع خضبت لحيته، التصفيق يسخن ويشتد … قامة د. سامي تطول وتطول، تتجاوز طابق الكنيسة الاول، ثم الطابق الثاني، يتسربل بقفطان الابداع الهائل الطول والهيبة والنضارة، تتسع دائرة التصفيق وقامة المعلم سامي عبد الحميد ترتقي وترتقي، تتجاوز برج الكنيسة، ومن هناك من العلو الاعلى يطل علينا وجهه الطفل بأشد حالاته اشراقاً وانتشاءَا، يهز رأسه محيياً، تتناثر من تاج رأسه الابيض زهورٌ على هامات الحضور تحيةً وعلى مبنى الكنيسة احتراماً وشكراً …